مقالات سياسية

*كتاب “العقل الرعوي” : إزالة المساحيق من الوجوه السودانية*

كثيراً ما كتب المحللون السياسيون عن الأزمة السياسية  السودانية ودبَّجوا الأسفار وأراقوا مداداً جماً على صفحات الصحف حولها بيد أن هؤلاء الكتّاب على اطلاعهم الثر ومعايشتهم اللصيقة للمشكل السوداني وسعيهم المتواصل لكشفه لخاصة السودانيين وعامتهم إلا أنهم لم يمسوا الداء المزمن الخبيث أو قل — بعاميتنا السودانية — لم يدخلوا الغريق مثلما فعل د. النور حمد في سِفْره الواضح الفاضح الموسوم بعنوان *[العقل الرعوي* — في استعصاء الإمساك بأسباب التقدم] والذي صدر عن دار المصورات للنشر في عام ٢٠٢٢م في ٢٦٧ صفحة من القطع المتوسط حوت ستة فصول وخاتمة فضلاً عن إيداع المراجع العربية والإنجليزية التي اعتمد عليها المؤلف. لم يجرِ هذا السِّفْر القيِّم مجرى التاريخ القصصي السردي الذي ألفناه لدى معظم الكُتاب لكن دخل المؤلف منذ البداية إلى إجراء العملية الجراحية للأزمة السودانية بأدواتٍ جديدة ومنهجٍ متفرد في التحليل حيث وضع المبضع أول ما وضعه في جذر المشكلة المتأصِّل في قاع التاريخ الكوشي في عملية نخرٍ مستمرة واستنطاقٍ واستقراءٍ للتاريخ بصورة تسلسلية sequentially ليصل بنا عبر المقاربات والمقارنات والمساءلات التحليلية إلى بيت الداء متمثلاً في العقلية الرعوية التي طرأت على السودان وأثرت سلباً على كلا حضارتيه: الكوشية والنوبية. هذه العقلية الرعوية لا تقتصر على مكانٍ دون مكان فهي علة من العلل البشرية التي تقف ضد التمدن والتحضر بل هي رديفٌ للتبربر الذي يقف عائقاً أمام التقدم. وفي هذا أورد المؤلف أمثلة لسيادة هذا العقل الرعوي المصحوبة بالانقلابات القيمية والمزاجية فاسمعه يقول: (خلاصة القول إن انقلاباً قيمياً ومزاجياً حدث بسبب سيطرة ثقافة الأعراب البدو الوافدين الذين أتوا بقشرة إسلام سطحية دعموا بدعوتها إلى الجهاد النزعة العدوانية التي هي طبيعة أصيلة في ثقافتهم لا تنفصل عن نمط العيش في البادية. فلم يمر على زحف الأعراب الوافدين على سهول السودان الفسيحة سوى قرنين أو يزيد قليلاً حتى سيطروا على الأمور في كامل منطقة النيل الوسطى في السودان. هذا الانقلاب هو ما أنزل قيماً متقدمة متوارثة لشعب مستقر لأكثر من خمسة آلاف عام، هي عمر الحقبتين الكوشية والمسيحية ، إلى ما تحت السطح ورفع مكانها على السطح ثقافة بدوية رعوية تتغطى بقشرة إسلامية رقيقة…)، ص 71.

ويورد المؤلف بهدف المقارنة بين الحقبتين النوبية والسنارية مفارقة حضارية تعكس في نهايتها سخرية لاذعة، يقول: (… لم يحفل المهاجمون بأبنية سوبا ولا كنائسها ولا بساتينها ولم يفكروا أن يرثوا إنجازاتها فيستقرون فيها ويواصلون مسيرة عمرانها الحسن، وبساتينها الخضلة، وأحوالها الرخية، التي أحسن وصفها ابن سليم الأسواني. ما جرى أنهم أخذوا كنوزها، وسووا كل ما فيها بالأرض، وذهبوا بعيداً عنها، لينشئوا عاصمتين جديدتين، لم تكونا في مبتدئهما، وربما في منتهاهما، سوى قريتين، إحداهما للفونج في سنار، والأخرى للعبدلاب في قرِّي، شمالي الخرطوم)، ص ٢٤٤ وص ٢٤٥.

بهذا يعمد المؤلف إلى تحطيم المسلمات وإزالة المساحيق التي طُليت بها الوجوه السودانية فظلت ترى في مرآتها التاريخية الخادعة وجوهاً زائفة من صنيعة العقل الرعوي ذاته، فعند  المؤلف أن سلطنة سنار التي يتغنى بها السودانيون بحسبانها مملكة إسلامية عربية ما هي إلا مسخٌ أقامه التحالف الفونجي العبدلابي على ركام الحضارة النوبية الأثيلة إذ يقول المؤلف: (لم تكن دولة الفونج رغم استعرابها وإسلامها شبيهة بدول النطاق العربي المشرقي بل إن تسويقها الشكلي لنفسها كدولة عربية إسلامية كان في الأساس لأسباب سياسية محضة ومن ذلك خوفها من الغزو الذي هددها به السلطان سليم الذي احتل مصر. في تلك اللحظة أعلن الفونج أنهم عرب بل ومن بني أمية، وكتبوا إلى السلطان سليم يقولون له نحن عرب ومسلمون وأرسلوا له شجرة نسب تثبت عروبتهم…)، ص ١٧٦ وص ١٧٧.  لا يرى د. النور حمد في سنار ما رآه الشاعر عمر المغربي الذي مدح سلطانها المنصور “بادي أبو دقن” في قصيدة رائية يقول في بعض أبياتها:

أيا راكباً يسري على متنِ ضامرِ

إلى صاحبِ العلياءِ والجودِ والبرِّ

رويدك إن وافيتَ سنارَ قف بها

وقوفَ مُحبٍّ وانتهز فرصةَ الدهرِ

إلى الملكِ المنصورِ بادي الذي لهُ

مدائحُ قد جلت عن العدّ والحصرِ

سليلِ ملوكِ الفونجِ والسادةِ الألى

علا متنُهم فوق السماكيْن والنسرِ

به أصبحت سنارُ في الأفقِ والصفا

وتاهت على البلدانِ حتى على مصرِ

من أهم ما جاء في هذا السِّفْر الاستثنائي إبراز المؤلف لمؤثرات العقل الرعوي المدمرة وإفرازاته السلبية على ما حل بالدولة السودانية الحديثة الموروثة من الإدارة البريطانية من علل أصابت كيان الدولة في مقتل طيلة الستة عقود ونيف الماضية، لا سيما الثلاثين عاماً الأخيرة، فقد أفرد المولف حيزاً لهذه الإفرازات المستقبحة وأورد لها نماذج في الفصل السادس من الكتاب بدءاً من بداية الفصل في صفحة ١٩٣ حتى ص ٢٣٠، ورغم إلمام الكثيرين بهذه العلل المجتمعية والسياسية والإدارية إلا أن المؤلف طرحها في شكل كوميديا سوداء مفضيةً إلى تراجيديا حالكة السواد.

يخلص المؤلف في ما يتعلق بالحالة السودانية الراهنة إلى القول: (… فما ظللنا نشهده منذ الاستقلال، ليس سوى مسلسل متصل من التراجعات، بلغ أن وضع الدولة ذاتها، التي نتقاتل، من منطلقات جهوية، على تملك مفاصلها، في مهب الريح. وبطبيعة الحال، فإن الأنظمة العسكرية تعبر عن هذا المنحنى الذي اتحدث عنه، أكثر مما تعبر عنه الأنظمة الديمقراطية. غير أن الأنظمة الديمقراطية لم تسلم من الإسهام في هذا التخريب، بل هي التي كانت تتيح، باستمرار، للعسكريين ذرائع الوصول إلى السلطة)، ص ٢٦٢.

ومن ثم يسدي المؤلف نصحه للمثقفين والأكاديميين في الفقرة السديدة التالية: (إن الواجب المباشر الذي ينبغي أن يكون أكثر إلزاماً للمثقف وللأكاديمي الباحث، هو البحث عن أصول الظواهر، خاصة حين تقع البلدان، كما هو حال بلادنا، في دوامات العجز والركود، وتراجع الأخلاق، وتفشي التدين المظهري، وانهيار منظومة القيم النبيلة، واضمحلال التمدن، وتراجع العقول والفهوم، وتسارع وتيرة “بَدْوَنَة” الوجدان، والترويج للتخلف وللجلافة. كل ذلك يجري لدينا في السودان، الآن، على قدم وساق، وبوتائر بالغة السرعة)، ص ٢٦٢ وص ٢٦٣.

بالطبع وكما هو متوقع فقد اعتمد الكاتب على مصادر سودانية وأجنبية في إعداد سِفْرِه، وقد كان محايداً ومتجرداً من كل منطلقٍ آيديولوجي أو غرضٍ سياسي في تنقيبه التاريخي ذي الصبغة السوسيولوجية والآنثربولوجية والآركيولوجية تماماً كما يفعل المصور الفوتوغرافي الذي يضع لك صورتك كما هي دون رتوش إذ يشعرك المؤلف منذ البدء أنه منهمكٌ في عمل جاد يستهدف تحليل العقل الرعوي الذي يطرأ بمحمولاته على الشعوب وعلى نخبها ويعمل على تدمير الحضارة والعمران إذ يتناول الكاتب كل ذلك وفق رؤية موضوعية شاملة تستنطق  الماضي البعيد والقريب وتخاطب الحاضر  الماثل وتحاكمه. كما تظل أنت — وأنت تطالع الكتاب — في حالة استحضار مستمر لما هو كائن أمامك من تأثير العقل الرعوي على بلادنا المرزوءة بقيم البداوة.

إن المؤلف، د. النور حمد، الذي عهدناه في بداية مجرى حياته المهنية أستاذاً للفنون الجميلة بالمدارس العليا يُعمل قلمه في الكتابة مثلما يُعمل ريشته الفنية في الرسم، أي أن الحس الكتابي يتملكه تملك الحس الفني صدقاً وأمانة. لذا أحسستُ أن موثوقية هذا الكتاب وصدق حُجِّيته تشابه تماماً لوحة مباني مدرسة خور طقت الثانوية التي رسمها النور حمد على جدار مسرح المدرسة بمناسبة عيد العلم الثامن في فبراير ١٩٧٨م إذ كانت لوحة المدرسة المرسومة تمثل صورةً حية للمدرسة الحقيقية بحيث تكاد تدخل رجلك في الفصل أو العنبر أو مسجد المدرسة ثم تشعر أنك تطأ الحائط فتسحبها. ونحن لا نملك إلا نشكر د. النور حمد على جرأته البحثية في كشف المحجوب وإزالة الغشاوة التي رانت لزمنٍ طويل على أعين الجميع خواصاً وعواماً.

 

سيف الدين عبد الحميد

تعليق واحد

  1. 😎 تدليس المسلم لا حدود له حين يتعلق الامر بالعقيدة الاسلامية التي هي دائمًا بريئة لان اوباش جزيرة العرب لم ياتوا بمعية الاسلام الصحيح انما بقشور الاسلام كما ذكر كاتب المقال نقلا عن النور حمد ” (خلاصة القول إن انقلاباً قيمياً ومزاجياً حدث بسبب سيطرة ثقافة الأعراب البدو الوافدين الذين أتوا بقشرة إسلام سطحية دعموا بدعوتها إلى الجهاد النزعة العدوانية التي هي طبيعة أصيلة في ثقافتهم لا تنفصل عن نمط العيش في البادية”😳

    طبعا عند صاحب العقل الخرافي النور حمد قناعة ان الاسلام الصحيح هو اسلام الجمهوريون الذي هو عند اغلب معتنقي الاسلام لا يخرج من كونه هرطقة استحق فيها اميرهم محمود ان يعلق على حبل المشنقة بمباركة كل شيوخ الدين 😌

    ما قام به اوباش الجزيرة العربية في بلاد النوبة من فظاعات و سرقة لم يختلف عن ما قام به محمد الرسول منذ ان قرر حمل السيف لقتل من يعارضون دعوته فهل اتصف محمد بعقل رعوي تدميري ام ان قتل من لا يؤمنون به كان امرا الاهيا ؟😳

    الم يقل شاعر الرسول حسان بن ثابت ان نشر دين الاسلام قد تم بحد السيف ؛

    دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب … وقد لان منه جانب وخطاب
    ‏فلما دعا والسيف صلت بكفه … له أسلموا واستسلموا وأنابوا

    السؤال ،كيف كانوا هم يفهمون الإسلام ؟

    فارس الكيخوه
    (Fares Al Kehwa)

    من أنا حتى اقول كيف افهم الإسلام ،والإسلام كما يقولون هو دين الله ولا يقبل غيره في الآخرة..من أنا حتى أقول كيف افهم الإسلام ,والرسول كما يؤمنون ،عرج به إلى ربه في جنح الليل وقابله ؟ من أنا حتى أقول كيف افهم الإسلام ،والقرآن يدعون انه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل …من أنا حتى أقول اليوم وفي القرن الواحد والعشرين كيف افهم الإسلام وهناك أكثر من مليار ونصف مسلم اليوم ؟
    ** انا امؤمن بأن الأديان جميعها صناعة بشرية.انا لم اكن في عصر الأنبياء والمعجزات, وكذلك هؤلاء المليار والنصف ، لكن هناك من كان، وهي أفضل من يقول لنا كيف هي كانت تفهم الإسلام….. ام المؤمنين عائشة،احب زوجات الرسول الى قلبه ، وهي قطعاً تفهم الإسلام ومحمد مليون مرة افضل من المليار والنصف ، أليست هي القائلة ” ما أرى ربك إلا يسارع في هواك”…!!!!!!!!
    ** المليار والنصف لم يكونوا في زمن محمد والصحابة .ولكن الخليفة علي بن ابي طالب ،كان وهو كان يفهم الإسلام مليون مرة أفضل من المليار والنصف ،اليس هو القائل ” القرآن حمال أوجه ” !!!!
    **المليار والنصف لم يكونوا في زمن محمد والصحابة ،ولكن الخليفة عمر ابن الخطاب كان .. أليس هو القائل “إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُقبلك ما قبَّلتك” !!! او ليس هو القائل عندما كان النبي يحتضر وطلب أن يكتب لهم شيئا ..فقال لهم عمر ” دعوه أنه يهجر ” !!!!
    ** المليار والنصف لم يكونوا في عصر محمد والصحابة ولكن شاعر الرسول كان، حسان بن ثابت وهو الذي عاش وعاشر محمد ورسالته.أليس بيت شعري من شاعر الرسول أفضل من مليون مقالة نكتبها نحن ! يقول شاعر محمد ،بل هو يختصر الإسلام كله “دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب … وقد لان منه جانب وخطاب
    فلما دعا والسيف صلت بكفه … له أسلموا واستسلموا وأنابوا”..
    ** المليار والنصف لم يكونوا في عصر محمد والصحابة ولكن كاتب الوحي عبد الله بن أبي سرح ،كان، أليس هو القائل ” إن كان صادقاً فقد أوحي إلي مثلما يوحى إليه، وإن كان كاذباً فإنما أقول مثلما يقول ” !!!!!
    سيقولون هذا موروث غير صحيح ،وسيقولون لا تحسب هذا عن الإسلام .وسيقولون هذا ضعيف.وسيقولون نحن لدينا القرآن فقط،وهذا كلام ليس من القرآن.وسيقولون هذه شبهات ،وسيقولون وسيرقعون وووووو
    وأنا أقول…رقعوا براحتكم فالذي أعرفه ومتأكد منه ، إن هذا ليس من جيبي.هذا تراثكم. وهذه فقط دعوة للتفكير والتحليل العقلي والمنطقي لهذا التراث الفوضوي المتضارب والذي نحن نتنقده لانه لم ينتج سوى انسان فاشل ،مزدوج الشخصية ،اسير لأفكار انتهت مفعولها.انسان يكره الآخر ويحتقره، انسان يحب الرجوع إلى ذلك الماضي التعيس ،والاهم في رأي ،انسان يخاف أن يواجه الحقيقة….
    هذا هو دينكم ،وهذا هو تراثكم.وهولاء هم الصحابة ،الذين جمع من صدورهم القرآن والأحاديث والأشعار.….مبروك عليكم…
    تحياتي..
    نعم للتنوير..لا للتخدير.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..