مقالات سياسية

دار الإذاعة: عندما تصحو الزهور من مراقدها

1

في عام 1959م ، دخل الفنان الراحل عبدالمنعم حسيب إلى دار الإذاعة مع فرقة موسيقية أنيقة متنوعة بسحناتها وآلاتها  ومناطق الشجن والفن فيها إلى دار الإذاعة ليسجل مظلمة غنائية رائعة :كل ما سألت عليك

صدوني حراسك

وقالو الكلام قاسي

مع إني من ناسك

في غرفة البروفات، ، لم يكن عبدالمنعم حسيب في عجلة من أمره ، فبعد أن أكمل بروفاته، كان يرخي أذنيه ليستمع من راديو قروندنق عتيق للقاء فريد يقدمه احد شيوخ المذيعين  رحمي محمد سليمان مع الرائعة عائشة الفلاتية مشاغبا لها وآخذا بيدها كما يأخذ “الرواسي ” القدير بيد زورق وسيم تدريجيا الى عباب النيل متأملا حرف تي أخضر على خدها الجميل:

إيه اللي رماك في حكاية الفن دي.. ياعائشة؟

* واسرعت تقول بصوت تشوبه رنة أسف: تقول شنو؟!

وصمتت وكأنها أرادت أن تتجنب الحديث في هذا الصدد.. فمضيت أقول: ما هو لابد أن تكون في عوامل وظروف دفعتك في الطريق ده.. وانتي أساساً عندك المؤهلات والموهبة اللي بتجعل منك مطربة؟.. وسرحت عائشة بنظراتها بعيداً من خلال النافذة.. ثم قالت فجأة: أصله يا سيدي.. لما كان عمري زي سبعة سنين وكده كنت بندمج مع البنات في بيوت الأعراس واللعبات.. وعشان صوتي كان جميل وانا كنت معتزه بيهو جداً.. كنت دائماً بسيطر على الموقف واقوم بالهلولة كلها”

ثم أن الرواسي القدير يمضي مع زورق الغناء الجميل مشاغبا:

” طيب .. برضه ما عرفنا.. الفن ده .. دخل في حياتك كيف؟

* اصلو ياود امي.. في واحد راجل صعيدي مولد هنا اسمه محمد زقالي بيعرفونا.. يقوم يجي من مصر واحد خواجه اسمه ميشيان .. ميشيان بتاع الاسطوانات.. ميشيان ده كان جاي يسوق غنايين يسجل ليهم اسطوانات في مصر.. طلب من زقالي يفتش ليهو عن واحدة بتعرف تغني.. قامو جوني فوق البيت وطلبو مني أغني.. وغنيت ليهم غنا الزمن داك البعرفو.. الخواجة انبسط جداً وكنت بتمنى يقول لي قومي تسافري معانا كنت عاوزة ابقى مشهورة..

قول ياسيدي.. الخواجة قال البنت صوتها جميل جداً وتقوم معانا.. أبويا حلف بي جدودو انه ما ممكن.. قال ياجماعة مصر دي انا ماشفتها.. كيف بتي الصغيرة دي تمشيها؟.. وبكيت وزعلت.. والخواجه قعد يترجى أبوي وقال انه مسئول عن أي حاجة تحصل لي.. وما أطول عليك ياود أمي.. في النهاية الخواجة عمل معانا كنتراتو بعشرين غنوة بي ستين جنيه..

مش معقول؟

ما الجنيه الزمن داك كان جنيه.. والدنيا مازي حسه.

وسجلتي شنو؟

أغاني كثيرة ما بتذكرها كلها.. لاكين أول غنوة سجلتها اسطوانة يا حنوني عليك بزيد في جنوني ومن زمن بنادي لاكين لطشا عبدالعزيز داؤود وحسع قاعد يغنيها !! وكانت أغانيا ناجحة جداً.. وكان الزمن داك الفونوغرافات راقدة.. واللي ماعنده فونوغراف اشترى ليهو واحد عشان يسمع عائشة الفلاتية وكان بيوزع الاسطوانات «البازار السوداني» الخواجه كاتيفانيدس وولده ديمتري ومحلهم في المحطة الوسطى.. ولما كنت في مصر كان بيزوروني ناس عظيمين جداً.. الاستاذ بشير عبدالرحمن وهو سوداني بيشتغل في وزارة الزراعة في مصر.. والف لي غنوه بتقول «البنيه ست العربية

لكن الاذاعة ضروري تكون اضطرتك تطوري أغانيك.. مش كده؟

* أيوه ده صحي.. غنيت لعبيد عبدالنور.. «احب عيونك وبص هنا» وأغنية وطنية بتقول: «يافتاة النيل انتي قصدك ايه.. انا قصدي الحياة العصرية.. في بلده سودانية.. رقه وادب وفنون واحشتام يا حنون» وكتير كتير ما حافظاهو”(مقتبس من الراكوبة)

قبل أن يدخل عبد المنعم حسيب الى الاستديو مع فرقته ليبث مظلمته الغرامية في وجدان الأمة، كان لقاء رحمي مع الفلاتية يلامس ختامه وصوت عائشة ينطلق:

من دار الاذاعة

برسل ليك تهاني

واشراقات سماعة

برسل ليك تهاني

يا وطني البريدك

بالهنا والسعادة

أبارك ليكا عيدك

صدَّاح الخميلة.

2

ظلت جنبات الاذاعة ومحيطها حالات تردد نغمي ظل يلازم عبدالمنعم حسيب قبل أن ينفض سامر فرقته في ذلك اليوم . عندما خرج من استديو الاذاعة ، كانت مخيلته كخلية عسل تزدحم ربما في أفكار لحنية لعيونك كانوا  في عيوني او ربما لرائعة محمد سعد دياب:

يا قلب  لا تبك الذي باع الهوى

لملم جراحك لا تقل ما أضيعك

وإذا الحنين تأججت نيرانه

وهفت بك الأشواق فاحبس أدمعك

وهماً ظننت بأنه قد ضيعك

ما ضيعك

لكن أضاع وجوده

وعهوده

وأضاع معنى عمره لو يسمعك

في طريقه الى الحصاحيصا مسقط راسه لحضور حفل غنائي في ذلك اليوم، لفت سمعه غناء صبية صغار يرددون تحت ظلال شجرة لبخ كبيرة على شاطيء النيل في أداء كورالي جميل:

عزة في الفؤاد

سحرك حلال

ونار هواك شفا

وتيهك دلال

ودمعي في هواك

حلو كالزلال

تزيدي كل يوم

عظمة ازداد جلال.

قبل أن يتحول اتجاه حناجرهم الغضة الى حسن الأمين يغنون له.. آمنت بيك يا ام در:

آمنت بيك يا أم در

يا مفخرة سودانك

نذرا على أزور

لو تمنحيني أمانك

من سحرك المشهور

ومن عيون غزلانك

أحمل معايا ورود

وزهور الى سكانك.

. وما دام الصدى العاشق وأكباد الحواسب الآلية ومنصات الاستماع الافتراضي لا زالت تنقل الينا من أزمنة عذبة طيلة الصمت المكاني الذي ران على دار الإذاعة  التي ضم وجدانها من محراب النيل وانا ام درمان تأمل في ربوعي والناعسات عيونن  وابداعات الفنان الذري ابراهيم عوض، حكي لي مواطن من حي الملازمين أحلاما ظلت تلاحقه ويغمض عيناه على أمل الفوز بها….جريا على مقاطع..يا بلال تزورني مرة ، والحالم سبانا…واطرد الأحلام يا جميل وأصحى ومن أنت يا حلم الصبا …وحبيبي أنا فرحان…فرحان بيك …يا ريت يدوم هنانا…وحبيبي أكتب لي وأنا أكتب ليك …والزمان زمانك …اهدي لي من فضلك نظرة في رمانك.

قال لي : يقتلني الأرق يا صديقي. إنني لا أنام أبدا فوالدي الذي بلغ من العمر عتيا ، يقول لي …يا ولدي أنا والإذاعة دي ولاد حفرة …أى ولدنا في نفس اليوم …وأرى أن في حياتها حياتي وفي قتلها قتلي. تتلبسني هواجس والدي يا صديقي وأنا الذي استمعت الى علي شمو وطه حمدتو وصالحين وعمر عثمان وعلى الحسن مالك ومباريات هلال مريخ واستمعت الى برنامج من ربوع السودان ودراسات في القرآن لعبد الله الطيب. أنا من عشقت برنامج ساعة سمر وفرسان في الميدان ودنيا دبنقا وصور شعبية ودكان ود البصير. في وجداني يعيش الطيب محمد الطيب وعبدالمطلب الفحل …طنابير النعام آدم واسحق كرم الله  وبلابل الغرب , أنا  يل سيدي  ابن سرحة الإذاعة يا صديقي ومن غنى لها على وقع كبريتة أبو داؤود وانهماره كاندفاع فيضاني عارم عندما يقف بعباءته على خشبة المسرح …متغنيا برائعة عمر البنا..يا عيني وين تلقي المنام . عندما يصل الى هوى ..هوي ويرددها ، أحس أن كل ظباء السودان وآرامه تتقافز حول المسرح . الطقطاقة مكتحلة بين تلك الآرام وثنائي النغم  يأـتين  بثياب بيض كمقدمة لسرب حسان يسير على ضفة النيل ، يناجيه حسن عطية:

يا جميل حبك خلاني

جافيت أهلي وخلاني

ما بصح يا جميل تنساني

لكن قسمة وارادة.

يزدحم التاريخ الآن على ضفاف المدينة المقدسة. مدني صالح سمسم القضارف ..السماني أحمد عالم …فراج الطيب   وردي وود حد الزين …مهلة العبادية ومنى الخير والعاقب محمد حسن….  ويبدو أن حسيب في مرقده الأبدي، ظل محتشد الوجدان لذلك الزمان والمكان فرآه الناس بعين القلب لا يقدم مظلمة غرامية على عتبات الاذاعة عام 2024م وانما يقدم ملحمة بطولية لا يصده فيها حراس وانما يدخلها تحت ظلال عازة والرماح التي لمعت كبارق ثغرها المتبسم. يبدو حسيب باسما وتتلقاه في المدخل فاطمة الحاج حيث كان الوطن يشغل بالها وهي في مرقدها الأبدي. تغني…لى حبيب شاغل بالي. إنها تحيي حسيب وتجزم أنها لقيته مبتسما بلا ظلامات…لا قيتو باسم ..زهر المواسم.

تنهض جميع الزهور الآن من مراقدها وتبدو الفلاتية  بينها بثوبها الأبيض   كلوزة قطن متفتحة وحرف التي الأخضر على خدها الجميل:

الله ليا

ليمون سقايتو عليا!!!

‫3 تعليقات

  1. يا سلام عليك يا دكتور عبد الرحيم . حديثك ذو شجون لأن إذاعة هنا أم درمان شكلت وجداننا الأدبي والثقافي والفني . يا ليتنا عدنا أو عادت الأيام! لك الشكر أجزله .

  2. لك كل التقدير على هذا السرد الذى
    جعل كل من لم يعيش الذمن الجميل قدر ادركه معك فى الرسم بالكلمات مع انتعاش الحواس مع مفردات قد سمعها ولكن لم يلازم زمانها
    نتمنى ان نعيش فى بيان آخر عن زمانا” لم نعيشه

  3. ياخ عبد الرحيم عبد الحليم دا زول فارغ وهايف جدا رغم انو حبوبه
    البلد كلها في مأتم كبير وحزن عظيم بعد ما فقدوا اعزائهم ونهبوا
    بيوتهم واغتصبوا بناتم ونسوانهم والناس مشتته جوه وبرا يجي الهايف
    الفارغ عبد الرحيم عبد الحليم يحكي لينا حكايه هايفه وتافهه وعكس الترند
    النفسي للناس .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..