النخب المركزية وأزمات الدولة السودانية 1-2 الفشل في إدارة التنوع والثروات في السودان

في ربوع السودان، أرض التاريخ العريق والتنوع الثقافي والاثني الفريد، تستمر النخب المركزية في رسم ملامح الأزمات التي تعصف بالبلاد. يأتي الاستعلاء وإنكار الآخر في مقدمة الأسباب التي تفاقم الفجوات بين أبناء الوطن الواحد، مشعلةً نيران النزاع والفرقة في جميع أنحاء الدولة.
مع فجر الاستقلال وانطلاق شرارات الثورات التحريرية، نجد أن الجنوبيين هم الذين فهموا طبيعة طبيعة الدولة السودانية، و التي هي امتداد لسلوك دولة الزبير باشا، وظهرت في جنوب السودان أولى حركات التحرير الوطني، وقد كان الجنوبين هم الاذكى من بين الشعوب السودانية، الذين اكتشفوا اللعبة من وقت مبكر مع استقلال السودان، وبدأوا مشروع المقاومة وعدم الاستسلام لقهر وقمع وفجور الدولة المركزية و نخبها المخادعة، كانت الشرارة وامتدادها إلى مناطق أخرى في جنوب كردفان، النيل الأزرق، ودارفور، واجهت هذه الأقاليم موجة من الأحكام المسبقة والتصنيفات الجائرة، التي كانت مدعومة ومروجة من قبل وسائل الإعلام التابعة للنظام. هذه الصورة النمطية والمشوهة للإنسان الجنوبي وسكان هذه الأقاليم، عُرضت كأعداء للوطن، محرضة على العنف ضدهم باسم دفاعات ومعتقدات مغلوطة، تتجاهل تمامًا الظلم والقهر والاستبداد الذي كانوا يعانون منه.
الصراعات التي طالت هذه الأقاليم لم تكن مجرد نزاعات عرقية بسيطة كما صُورت، بل كانت نتيجة لأسباب عميقة ومعقدة تتضمن التهميش الاقتصادي والسياسي، والنزاع على الموارد. الروايات الرسمية والإعلامية المُضللة عملت على إخفاء جذور هذه الأزمات وعززت من انتشار الكراهية والانقسامات داخل المجتمع السوداني، مبررةً بذلك استخدام القوة العسكرية والعنف ضد المواطنين.
في سياق هذه الأحداث، ارتكبت جرائم وانتهاكات جسيمة بحق السكان في هذه الأقاليم، بهدف السيطرة على مواردهم وقمع تطلعاتهم للحرية والعدالة. الآلة العسكرية بروافدها الثقافية، الاجتماعية، والاقتصادية، استُخدمت كأدوات للقهر والإذلال، ليس فقط لإخماد الثورات، بل أيضًا لتثبيت نظام استبدادي يغذي النخبة المركزية على حساب الأغلبية.
هذه السياسات والممارسات لا تعكس فقط الفشل في إدارة التنوع والثروات في السودان، بل تشير أيضًا إلى استمرار نهج الإقصاء والتهميش الذي عانت منه هذه الأقاليم لعقود. يتطلب التغلب على هذه الأزمات إعادة النظر في كيفية توزيع السلطة والثروة، وضمان مشاركة جميع المكونات السودانية في العملية السياسية والاقتصادية على قدم المساواة.
في أعقاب النزاع الذي وقع في 15 أبريل 2024، وتحول الى حرب ضروس لم يتوقعها أكثر الناس تشاؤما، شهد السودان تجدداً لمأساة عميقة الجذور، حيث تعرضت بعض القبائل لهجمات شرسة بزعم كونها البيئة الحاضنة لقوات الدعم السريع. هذه الفكرة أُعلنت بوضوح من خلال حملات التطهير العرقي المروعة، التي تُنفذ بواسطة سلاح الجو التابع للحكومة الفعلية في بورتسودان، وتتزامن مع هجوم إعلامي مكثف يستهدف هذه المجموعات الاجتماعية بشكل خاص.
هذه الإستراتيجية ليست جديدة، بل هي استمرار لنهج تاريخي تمارسه النخب المركزية المسيطرة منذ زمن الاستعمار في السودان، التي طالما سعت إلى ترسيخ سيطرتها على السلطة والثروة والنفوذ على حساب الآخرين. يُظهر هذا التوجه إهمالاً صارخاً للحقوق الإنسانية ويُعد انتهاكاً للمبادئ الأخلاقية والدينية التي تنادي بالعدالة والمساواة بين البشر.
المفارقة في هذه الأحداث تكمن في أن قوات الدعم السريع، التي يُنظر إليها الآن على أنها تشكل تهديدًا، تضم أفرادًا من معظم قبائل السودان، مما يشير إلى أن الهجمة الانتقائية على قبائل معينة مدفوعة بأهداف سياسية تهدف إلى شرعنة العنف الممنهج والانتهاكات ضد الأبرياء.
هذا النهج يتنافى مع كل القيم الإنسانية والأخلاقية، فالاعتداء على مجموعات اجتماعية بناءً على انتماءاتها أو تصنيفها كحواضن لجهات معارضة، يعمق الانقسامات داخل المجتمع ويؤجج نيران الكراهية والعداء. إن مثل هذه الأفعال تُعيق أي تقدم نحو السلام والاستقرار، وتُضيف إلى سجل البلاد من الأزمات والمآسي.
لبناء مستقبل يسوده السلام والعدالة في السودان، يتطلب الأمر نبذ هذه السياسات والعمل على إعادة بناء النسيج الاجتماعي بطريقة تحترم حقوق وكرامة جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية أو الإقليمية. يجب على السودانيين والمجتمع الدولي التصدي لهذه الممارسات والعمل معًا من أجل تحقيق العدالة للضحايا وضمان عدم تكرار هذه الأفعال الشنيعة.
إذا لم يتم التصدي لهذه المخاطر وتداركها الآن، قد تواجه الدولة السودانية تحديات جمة في المستقبل قد تعيق تقدمها وتنميتها. لذا، يعتبر الوقت الحالي نقطة محورية لتحديد مسار البلاد نحو مستقبل يسوده السلام، الاستقرار، والازدهار لجميع مواطنيها.
الشيطنة ضد بعض الأقاليم تُمارس بشكل رئيسي للحفاظ على الهيمنة والسيطرة من قبل النخب الحاكمة والمستفيدة من استمرار الوضع الراهن. هذه النخب، التي تتركز في المركز، تستفيد من استغلال الموارد وتهميش الأقاليم، مما يعزز من نظام القهر والاستبداد. من خلال شيطنة هذه الأقاليم، تسعى هذه النخب إلى تبرير القمع والاستغلال، وتحويل الانتباه عن المطالب المشروعة للأقاليم بالعدالة والمساواة والتنمية.
لا يمتلك أحد الحق في نزع المواطنة من الشعوب التي ساهمت في تأسيس وبناء الدولة. المواطنة حق أساسي ينبغي أن يُكفل لجميع السودانيين بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الجغرافية. نزع المواطنة يتنافى مع المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة، ويُعد انتهاكًا للحقوق الإنسانية.
التداخل القبلي مع دول الجوار يُعد جريمة في نظر بعض المكونات المحددة لأنه يتحدى الحدود الجغرافية والسياسية التي تستخدمها النخب الحاكمة لتعزيز سيطرتها. هذا التداخل يُظهر الترابط والتواصل بين الشعوب عبر الحدود الوطنية، مما يتعارض مع محاولات النخب لإضعاف الهويات القبلية والإقليمية وتقويض فكرة الدولة القومية المركزية. في الواقع، التداخل القبلي يجب أن يُنظر إليه كفرصة لتعزيز السلام والتعاون الإقليمي، بدلاً من تجريمه.
تواصل هذه الممارسات والأفكار في السودان يُهدد بتعميق الانقسامات وتأجيج الصراعات، مما يستدعي ضرورة التوجه نحو سياسات تقوم على العدالة، الشفافية، والشمولية. يجب على السودان تبني نهج يحتفي بالتنوع، يدعم التنمية العادلة لجميع الأقاليم، ويعزز من مفهوم المواطنة الشاملة التي تقوم على أساس المساواة والاحترام المتبادل بين جميع مكونات الشعب السوداني.
إن الحديث عن توزيع صكوك الوطنية في السودان بطريقة تشبه التجارة في سوق النخاسة يُعد تعبيراً مجازياً قوياً يسلط الضوء على الممارسات والسياسات التي تهدف إلى تجزئة الهوية الوطنية واستغلالها لأغراض سياسية واقتصادية ضيقة. هذا النهج يُعرض مفهوم المواطنة، والذي يجب أن يكون مبنياً على أسس الحقوق والواجبات المتساوية لجميع أفراد الشعب، للخطر ويضعف بناء الدولة الوطني القويم.
المخاطر التي قد تنجم عن استمرار هذا النهج هي عديدة ومتنوعة، ومن أبرزها:
تعميق الانقسامات الاجتماعية والعرقية: توزيع الهوية الوطنية بناءً على المصالح السياسية أو الاقتصادية يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الانقسامات داخل المجتمع، مما يزيد من حدة التوترات ويعيق جهود السلام والمصالحة.
ضعف الهوية الوطنية الموحدة: عندما تُمنح الوطنية بناءً على معايير غير عادلة أو تُستخدم كأداة للتمييز، يتضاءل شعور المواطنين بالانتماء للوطن والولاء للدولة، مما يضعف النسيج الوطني الذي يجب أن يجمع بين جميع أفراد المجتمع.
تهديد الاستقرار والأمن: السياسات التي تفضل مجموعة على أخرى أو تستبعد بعض الأفراد من الحقوق الوطنية يمكن أن تؤدي إلى تصاعد الصراعات والأعمال العدائية، مما يهدد الاستقرار والأمن العام في الدولة.
عرقلة التنمية والتقدم: التمييز في توزيع الهوية الوطنية يعوق الجهود الرامية إلى التنمية الشاملة والمتكاملة والمستدامة، حيث يتم استبعاد مجموعات بأكملها من المشاركة في العملية التنموية والاستفادة من ثمارها.
في ختام الجزء الأول من هذا المقال، يبرز بجلاء أن النخب المركزية والسياسات المتبعة في السودان قد أسهمت في تعميق الأزمات الوطنية وتفاقم التحديات التي تواجه بناء دولة موحدة وقوية. الفشل في إدارة التنوع الغني للبلاد والعدالة في توزيع الثروات قد أوجد انقسامات عميقة وأشعل فتيل نزاعات لا تنتهي، مما عرض السلام والاستقرار للخطر.
الدروس المستفادة من هذه التجارب المؤلمة تشدد على ضرورة إعادة النظر في النهج الحالي وتبني استراتيجيات جديدة تقوم على الإنصاف والمساواة. يتطلب الأمر جهودًا مشتركة من جميع الأطراف المعنية – الحكومة، المعارضة، المجتمع المدني، والمواطنين – للعمل يدًا بيد نحو تحقيق الوحدة والسلام.
في هذا السياق الحرج، يظل السودان عند مفترق طرق؛ إما أن يستمر في دوامة الصراعات التي تفرق شمله وتهدد وجوده كدولة موحدة، أو يختار طريق الإصلاح والبناء الذي يستند إلى أسس العدالة والمساواة والاحترام المتبادل. الوقت الآن هو للعمل الجاد والمخلص لضمان أن تكون الاختيارات المستقبلية في صالح السلام والازدهار لجميع مواطني السودان.