
يؤكد واقع الحال على ان غالبية القوى السياسية بالسودان تتفق على ان نظام الحكم الديموقراطي ، مقارنة بغيره من النظم ، يعد النظام الأنسب لحكم البلاد. وبالرغم من عدم اخضاع هذه الفرضية لقياس موضوعي يؤكد مدى صحتها ، الا ان الطرح السياسي لمعظم القوى الحزبية يدلل على صحتها. فالنظام الديموقراطي يعد ، بحكم طبيعته ، مؤهلا لمخاطبة الواقع السوداني الموسوم بالتعددية Multiplicity، فضلا عن تأهله لمخاطبة تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والظلامات التاريخية الناتجة عن قبضة المركز التي افرزت التهميش Marginalization وخلقت واقعا سياسيا أقعد البلاد عن اللحاق بركب التطور الدولي. كما أن تجارب الحكم الديموقراطي في الكثير من دول العالم تمثل شواهد على إيجابيات هذا النظام.
ومع هذا فان التجارب السياسية بالسودان أكدت عمليا ، وبرغم افضلية نظام الحكم الديموقراطي ، ان هذا النظام تعتوره الكثير من المتاريس والمطبات. ويأتي على رأس هذه المتاريس المساعي الهدامة لبعض القوى السياسية التي ظلت تعمل جاهدة للحيلولة دون تطبيق النظام الديموقراطي ، لسبب او اخر ، وبالتالي تسهم في ديمومة تخلف البلاد ودورانها في فلك الفشل العام.
وقد ظلت القوى السياسية الساعية لاجهاض مساعي توطين وترسيخ الديموقراطية بالبلاد تبذل كل الجهود لتحقيق اهدافها بشتى الطرق. ويعمل النشاط الواسع الذي يقوم به العديد من مؤيدي هذه القوى ، عبر الميديا ، على تعزيز مساعي هذه القوى. ويستبد بي العجب ، وأنا اقف ، من وقت لاخر ، من خلال الميديا ، على حقيقة تضليل اعداء الديموقراطية الممثلين في القوى السياسية المشار اليها ، للبعض ممن يفترض فيهم الوعي والاستنارة ، مع تغبيش وعيهم من خلال تصوير قوى الحرية والتغيير بأنها تقف مع الدعم السريع وتعد حاضنة له ، مع وقوفها ضد الوطن. وقد أصبح هذا ديدنهم برغم دفع قوى الحرية والتغيير بكل الحيثيات والاسانيد التي تؤكد براءتها من هذه التهمة الباطلة والجزافية ، بالإضافة الى نقدها لطرفي الحرب مع الدعوة لوقفها. ليس هذا فحسب بل ولم يعر هؤلاء انتباها لما قامت به الحرية والتغيير من الدفع بعدد من (التسجيلات) التي نادت فيها سابقا بحل الدعم السريع ودمجه في الجيش. ما كنت أعتقد قط ان شخصا مدركا ووطنيا ، يفترض ان يعتمد ، في تقييمه للأمور على الموضوعية واعمال العقل ، دون تحامل او تحيز ، لجهة ما ، يمكن ان ينطلي عليه الهدف من وراء شيطنة قوى الحرية والتغيير لصالح استمرار ورسوخ مشروع الشمولية في السودان ، وبالتالي ديمومة تخلف الوطن وتدهوره العام ، ان لم يكن زواله وتلاشيه من على الخارطة السياسية Political map.
ولا يملك المرء ، ازاء هذا الواقع المدمر والمعري لعقلية وأسلوب تفكير البعض أو تماهيهم مع الباطل ، الا وان يؤكد على ضرورة ان يدرك هؤلاء ان قوى الحرية والتغيير تعد، ككيان افرزته موازين القوى Balance of power بعد الثورة، رمزا للديموقراطية او عنوانها ، كما تمثل اتفاق حد ادنى ، و كيان غير مقدس ، قابل للنقد والتطوير، في اطار السعي لتوطين الديموقراطية في السودان.
ومن المعلوم أن الديموقراطية تقوم على قيم الحرية Freedom والمساءلة Accountability والشفافية Transparency، ضمن قواعدها ومبادئها التي تعد نتاج تجليات العقل البشري والفكر الليبرالي الغربي.
ومن الأهمية بمكان الإشارة الى ان الديموقراطية تلتقي مع الشريعة الاسلامية في المقاصد والاهداف ، مع تفوق الشريعة عليها في الكثير من الجوانب. ومما لا شك فيه ان الشريعة الاسلامية سبقت الديموقراطية بقرون من الزمان للدعوة الى قيم السلام والعدل والحرية. بيد ان الديموقراطية فرضت نفسها ، كنظام حكم أمثل في العصر الحديث ، في ظل تقاعس المسلمين عن الاجتهاد بغية التوصل لنظرية حكم مرتكزة على الشريعة الاسلامية الغراء المؤهلة ، من وجهة النظر الفكرية او المفاهيمية والقيمية ، لاداء وظيفة (نظام الحكم) ، مع أهليتها لمقابلة متطلبات العصر ، اذا ما أعتمد علماء المسلمين منهج (الاجتهاد) في اطار التمسك بالقطعي الورود في الدين كالشعائر ، مع اعمال (الاجتهاد) المؤطر بضوابط الدبن لما عداها.
لذا فان على الذين ينتقدون الحرية والتغيير أن يدركوا انها مبرءة تماما مما الصق بها من تهم كونها لا تعدو ان تكون الية للحكم الديموقراطي وليست كيانا ضد الوطن يمثل شخوصا متسلطة تسعى للهيمنة ، طالما ان طبيعة النظام الديموقراطي نفسها لا تسمح بذلك.
وينسحب الأمر نفسه على (تقدم) التي يراسها الدكتور عبد الله حمدوك والتي تضم طيفا واسعا من القوى السياسية والمدنية والمجتمعية بما فيها مكونات قوى الحرية والتغيير. ذلك ان (تقدم) قد وجهت إليها ايضا سهام النقد الهدام وتعرضت لتهم جزافية غير مؤسسة على حيثيات منطقية.
وتاسيسا على ما سبق ، فان من الواضح والجلي أن النقد الذي ظل يلصق بكل من قوى الحرية والتغيير و(تقدم) يهدف فحسب الى قطع الطريق على التحول الديموقراطي بالسودان ، واجهاضه.
الجدير بالتأكيد ان القوى التي تقوم بمساعي قطع الطريق على الديموقراطية لم تقدم أي برنامج حكم بديل لحكم البلاد ، بل برهنت من خلال هكذا تصرف أنها ترتكب جريمة كبرى في حق الوطن ، ستظل محفوظة في صفحات التاريخ السياسي للبلاد.
وبالنسبة ل(تقدم) يمكن ، بطبيعة الحال ، القيام بإصلاحها او تطويرها أو بث الفاعلية فيها ومواكبتها لمجريات الأحداث ، حسبما تقتضي الضرورة ، وذلك دون السعي لتقويضها . وستقطع هذه الخطوة ، اذا ما تمت ، الطريق امام أي مساعي او محاولات لتقويض التحول الديموقراطي ، عبر شيطنة (تقدم).
وتاسيسا على ما سبق ، تقتضي ضرورات التحول الديموقراطي Democratic transformation ودعم الديموقراطية تفويت الفرصة على هذه المساعي الهدامة ، من خلال الكف عن دعمها ، يجهل او إدراك لمغازيها ، بناء على أهلية الديمقراطية لحكم السودان وحرصا على توطينها وتثبيت اركانها.
