
د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
شكرا للصديق العزيز الاستاذ كمال سابل الذي أتى بهذا العنوان الموحي لتلتقطه أذن صاغية مع أحاديث جرت هي الاخرى معه ، كعادته وهو خبير السياحة والسفر ، وما بين قطف النجوم على الهضبة الإثيوبية الى تأمل مقاطع الحسن في السواحل الإسبانية ، إلى سقوف جمالية أخرى منها مراتع الظباء والآرام في قريتنا الكونية ، يكون الحديث ممتعا ودسما مع كمال سابل تتخطفك فيه “سنارات” ابداعية من رجل في غاية الحضور والبهاء المعرفي. في حضرة هذا الصديق ، تكون بصدد “صينية“ دسمة كلما تأملت في حسن أحد أطباقها ، يدلي الآخر بحجته كأنك بصدد شيخ العاشقين مبارك حسن بركات :
كلما اتأملت حسنك يا حبيب
ألقى آية وراها آية.
عرجنا على الأهل في البار وجلاس والاركي وأم درق والبرصة ، ومن مقامات الشيخ العجيمي الى شيخ الشعراء عبد الله الشيخ البشير إلى أحمد فرح واسمعين ود حد الزين ، كان كمال موسوعيا وهو يقرِّب اليك الصلات التي تمتد لتشمل بار الضريساب …حسن وحسين الكد وابن عمتهم شيخنا عبدالحليم ثم نلنا من سيرة الشيخ العظيم محمود سابل فنوبة الشيخ العبيد وأجراسها العالية أيام الأعياد يضرب جرسها ويضبط جِرسها عباس سابل فتصحو مراقد الأهل السرمدية ويصيح الأطفال بجلاليبهم الملونة … حلاوة شكلاتة التعريفة تلاتة … مرورا ببنبَّة ود حجر وحاج ابو قناوي ومراقد الصالحين. كأنك هناك تبصر الراقدين يمدون أذرعتهم بين الشواهد يرددون مع نوبة الشيخ العبيد :
يا ليلى ليلك جنَّ
معشوقك أوه وأنَّ
في تلك المقامات التي تعلو على عناصرنا الأرضية وتتحرر من ربقة الطين ، كان السُرى للمعالي عبر تجليات أرفع لعقل القلب. في تلك الرحاب ، كان شيخ الشعراء عبدالله الشيخ البشير ، يمهي سيفه على حد السنا فترِّق شفرتاه بما كان يبتغي . طاف بعبقر حين هرَّت كلاب الجن وماجت عرائش بشائرها :
على حد السنا أمهيت سيفي
فرفّت شفرتاه كما ابتغيت
وودَّعت القُرَى الاولَى وشيكاً
فما استصحبْت إلا ما انتويت
فهأنذا يعادي بي مِراحا
بشطِّ الغيب مِرِّيحٌ كُميت
رصائعُه مصابيحٌ سَهارى
لهُنَّ خواطِر الحُذّاقِ زيْت
كانت تلك الرحاب في أم درق وبار الضريساب ، حرما للفنون أغوى مع شيخ الشعراء عبدالله الشيخ البشير حينما ألتجأ ود حد الزين الى جبل الصلاح “كلنكانكول” طالبا منه النصح والبركة. تلك كانت من السقوف المتناهية العلو التي طرقناها طرقا خفيفا على بوابة الهاتف أنا والصديق كمال. كان بحر الغناء السوداني يمر يمر عبر بوابات فضاء الله ـ لكني هنا بدأـ بشيخ الشعراء لأنني أظن أن الشعر فن وذوق وانفعال يستند على قيم عليا وهو مسكن للألم الروحي ورافع لمقام الروح لأمكنة أرفع. في زمن الدم الوطني الذي يغمر طرقنا ، يكون اللجوء إلى مسكنات الألم الروحي ليتخلل ذراتك ويجري اعمال صيانة لعظامك ومناطق الإحساس داخلك. تحس أنك تود أن تخاطب الوطن مستخدما عبارة من تلك الأغنية لمناسبة المقام والمقيل والقيام(إيه يا مولاي إيه) حين صاغها الصاغ محمود أبوبكر صاحب ديوان “أكواب بابل من ألسنة البلابل”. وقد غنى له الراحل أحمد المصطفى “زاهي في خدرو”:
لو تراهو .. في سماهو
النور كساهو والجمال
كنت تعلم .. كيف جهنم
تحرق الجنب الشمال
قالو ليهو القطر تقدم
كفرة نيرانا زى جهنم
وكما يقول نقاد ، فإن ذلك من شوارد البلاغة النادرة “فيسبوك. روائع الأغنية السودانية” ، امتزجت فيها نيران المدافع في كفرة إبان الحرب العالمية الثانية مع نيران الغرام. وكان الشاعر ضابطا مقاتلا في قوة دفاع السودان في صف الحلفاء. وحيث أننا بصدد الإشارة إلى علو الفن ونزوله من عرشه ، فربما ذكرنا ذلك المقام الحربي في كفرة بأغنية “يا قائد الأسطول لسيد عبدالعزيز :
يا الطلسم المصقول بدل لخوفى أمان
بالنور سحرت عقول كانت صميمة زمان
يا من تحق القول قتل النفوس حرمان
وما الجندى والمكتول وطالب الغفران
من أيده راح منتول واتوهد النيران
ونحن هنا نجري مقاربة بين نيران الحرب ونيران الغرام للصاغ محمود أبوبكر مقابل رؤية الحبيبة تتقدم سربا للحسان كما يتقدم القائد أسطوله عند سيد عبدالعزيز . لذلك نود القول بأن قيمة سامية ما ، ظلت ترفع وترافع عن فننا الغنائي قبل نزوله . فلا عجب اذن أن نرى سيد خليفة يغني من حرم الفن للتيجاني يوسف بشير ومن ذلك الحرم أيضا غنى الكابلي لتوفيق صالح جبريل نضَّر الله وجه ذاك الساقي وللساقي أيضا غنى التاج مصطفى على بحر الرمل لابن زهر الأندلسي :
أيها الساقي اليك المشتكي
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
وشربت الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الكأس اليه واتكا
وسقاني اربعا في أربع.
عندما غنى عثمان حسين للنيل سليل الفراديس ، وعبدالعزيز داؤود في أجراس المعبد لم يكن ليل الغناء السوداني الأصيل قد انقضى ولم يتعس ساقى الخمر ولم يرف بعد ضوء الفجر ، ليس لأن ليل العاشقين طويل فحسب بل لأن الابداع بحر لا ساحل له وأن الحبيبة لا زالت تعض على العناب بالبرد.
هذا ومع الاقرار بأن أذواق الناس ومستويات تلقيهم تتباين ، يلحظ المرء عصرا حجريا أصاب الذوق العام بإقباله على غناء لا قيمة واو قيم فيه. في عصر”القونات” ، صرنا نرى “هدَّافين” يهزون الخصور ويتنادون لحضور ونشر ذلك الغناء الكسيح. رأينا من تسمي نفسها اسما ملكيا ومن يسمي نفسه ملكا ومن يسميها أميرا للطرب. ورأينا أداء أرجوازيا لأغاني الراحل أحمد الجابري ثم رأينا عصرا كاملا لأغاني الحقيبة يسرقه قراصنة الغناء في بلادنا
كيف أذن لا ينزل الفن من عليائه يا صديقي؟؟.
