مقالات وآراء

تأملات في رواية “ذاكرة المدينية”

مهدي يوسف ابراهيم

“ذاكرة المدينية ” هي الروايةُ الأولى لصديقي الكاتب المثقّف ” الوليد محجوب “، وقد صدرت مؤخراً عن دار النسيم للنشر والتوزيع. والرواية من النوع المتوسط الحجم إذ تقعُ في 125 صفحة.
استنطاق العنوان :
معروفٌ أن العنوان هو بوابةُ الدخول إلى النص ومفتاحُ الولوج إلى عوالمه … والعنوان قد يشيرُ إلى بواطن النص – ويكونُ مباشراً في هذه الحالة مثل “بين القصرين” و “قصر الشوق” و “السكريّة” لنجيب محفوظ – أو يكونُ ذا بُعدٍ مجازي مثل “لمن تُقرع الأجراس” لارنست هيمنغوي …..
و “ذاكرة المدينية” عنوانُ يحملُ السمتين في آن واحد!!
تفكيكُ العنوان على المستوى الصوتي :
“ذاكرة المدينية” يتكونُ من حروف الجهر مع حرف همسٍ واحدٍ هو “الكاف” .. مما يشيرُ إلى حدة الصراع في الرواية …..
تفكيك العنوان على المستوى التركيبي :
ذاكرة : خبرٌ مرفوع بالضمة لمبتدأ محذوف تقديرُه “هذا” ، وذاكرةُ مضاف والمدينية مضافٌ إليه مجرورٌ بالإضافة..
تفكيكُ العنوان على المستوى المعجمي :
وردَ في المعجم أن الذاكرة هي “قدرةُ النَّفْس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة واستعادتها” …تقولُ العربُ “فلان ذو ذاكرةٍ حافظة” أي له قدرةٌ على استبقاء الأشياء في الذِّهن “… وقد تساءلتُ في البداية إن كانت كلمة “المدينية” مشتقةً من المدينة أم المدنية أم المديونية … في الصفحة السابعة وقبل بداية الرواية يقدمً الكاتبُ مثلاً نوبياً مع ترجمته “من يخشى الشوكَ لا يأكل البلح”… هذا المثلُ يضئ عتمة العنوان قليلاً .. إذ يشعرُ القارئ أن النص له علاقة بالبلح والشوك ظاهرياً وبالغايات والصعاب مجازياً ، كما يشعرُه أن الرواية لها علاقة بمنطقة شمال السودان … وهو ظنٌ سرعان ما يؤكدُه الكاتبُ بتقديمه لموقع الأحداث – setting – بقوله :
“احتشد سكان قرية أوكجي مار – والتي تعني بلغة الدناقلة أرض الرجال – والقروى المجاورة لها …

(1)
لاحقاُ ندرك أن “المدينية” هي “نخلة” :
“كان كبقية الصبية لا يملُّ من تكرار محاولاته البائسة لطلوع المدينية . كلما أعلن أحدُهم عن قدرته على قبول قمتها تبسّمت ومدّت له جريدها علامة التحدي” .

(2)
النخلةُ هي بمثابة حارس المكان.. وخازن أسراره وذكرياته … وشاهد على أحداثه المتعاقبة … واختيار “النخلة” دون غيرها من النباتات لا يشيرُ فقط إلى جغرافية المكان ، ولكنه يقف رمزيةً على استطالة ذاكرة المكان حضارياً …
زمنُ الرواية:
تتمُ الإشارة إلى زمن الأحداث لأول مرة في صفحة 21:
“تحلّق الفقراء حول أقداح الفتة المطعمة بحبات الأرز وقطع اللحم الذي عزّ عليهم لارتفاع ثمنه على الرغم من دخولنا مصاف الدول البترولية مع حلول الألفية الثالثة” …
غير ان بعض الأحداث والأشخاص لها علاقة بأزمان أكثر قدماً من الألفية الثالثة .. فهناك ربطٌ طفيفٌ بين “شيخ سعد” بالرئيس الأسبق “جعفر نميري” .. والعمدة “خليل” والذي يتم تقديمه في الجزء الثاني من الرواية يصفه المؤلف قائلاً “متسلط كأسياده الإنجليز ، يسخّر المزارعين لفلاحة الأرض وإن احترقت حواشاتهم ، لا يهمه سوى رضى مفتش المركز الإنجليزي”…
المكان:
المكانُ هو شمال السودان … وتبدأُ الروايةُ باحتشاد سكان قرية “أوكجي مار” – وتعني بلغة الدناقلة أرض الرجال – في ساحة مسيد الشيخ سعد لأداء صلاة العيد … في الصفحات الأولي يصفُ المؤلفُ وبلغة شاعريةٍ رقراقهٍ تفاصيل المكان …
“بيوتها متراصة في استقامةٍ كصفوف الصلاة في المسيد”

(3)
“أعيد بناء المسيد بأعمدة الخرسانة و الطوبِ الأحمرِ و اكتملت توسعتُه فصار قبلة لأناس كثيرين” (4)
“فارتجّ المكان ارتجاجاً يحاكي هدير النيل الرابض هناك بعيدا”ً” (5)
” الضريحُ الشامخُ مثل “قسيبة ” ضخمة تتسع لكل أفئدة المريدين كما تتسع لمخزون مؤونة العام من القمح ” (6)
يشحذُ المؤلفُ عشرات الصور الشاعرية لوصف المكان مستلهما تاريخه، فيصف البيوت و المسيد و طقوس العيد و الضريح.. الخ ….
لكن روحانيات المكان ليست كلها قدسيةً و طاهرة …إذ يشيرُ المؤلف بذكاءٍ إلى ظاهرة استغلال الدين التي تصاحبُ بعض الجماعات الدينية و ذلك بقوله ” سلعته الوهم ـ يبيعها للبسطاء و عليه القوم معاً” (6)…
كما يشيرُ المؤلفُ إلى فطرية تدين البعض و ذلك من خلال قصة “حاج النور ” التي لا تخلو من طرافة …فهو لم يقرر الحج لأن المنادي للحج لم ينادي بعد …و ذات يوم كمن له أحد الصبية وراء جدول إحدى الحواشات القديمة و لم يكد يره مقبلا حتى صاح به ” يا حاج النورووور ….حج يا حاج النور “….
وبالفعل حجّ الرجل!!
لغةُ السرد :
هي مزيجٌ من النوبية و العامية العربية… .و هذه الثنائية تتضح حتى في أماديح القوم كما ورد في الصفحة 17 :
الله ..الله …حي
النبي صلي عليه
انبا مننتو ..أس كلام ننتو
و قد لجأ المؤلفُ إلى تكنيك الترجمة للحفاظ على روح المكان و ذلك بإيراد العبارات باللغة الاصلية مع ترجمتها حتى يفهم القارئ ما المقصود مثل:
– ( كوري قانج تآلوي ) العيد مبارك
– ( إكونق قانج تالوي ) و انت كمان العيد مبارك عليك
و في بعض الأحايين لجأ المؤلف إلى اللغة الفصحى مثل نموذج حوار ” عادل ” و ” فرحة” في صفحة 100 :
– لماذا يريدون وأد الفرحة فينا؟
– هي أفكار زائلة لكن ثق أنها لن تؤثر فينا
– هل ستتوقف أشرعتنا عند مرافئ القتامة ؟
– كلا ، بل سنفردها لتسوقنا حيث الموج ….
الصراع:
تبدا أولي حلقات الصراع بالإشارة إلى ” صالح الترزي” المحب للشيخ سعد (أطلق اسم الشيخ على ابنه) و بين ابنه “سعد” الذي بات من أتباع جماعة أنصار السنة و يمثلها زعيمها شيخ “نصر الدين…و قد لاحظتُ أنّ المؤلف قدّم اسم ” سعد” بلفظة ” الشيخ ” بالتعريف، بينما قدّم اسم ” نصر الدين” لأول مرة بلفظة ” شيخ” بالتنكير.. وكنتُ أتمنى أن يحافظ على هذا التمييز فيما بعد حتى يكّرس لغلبة التيار الصوفي على السلفي في ذاكرة المكان…لكن هذا الصراع لا ترتفع وتيرته على الإطلاق في الرواية …
هناك صراعٌ آخر بين شيخ “النذير ” وبين ” عادل ” للفوز بقلب البطلة ” فرحة” وهو صراعٌ اكتفي المؤلفُ بالإشارة إليه على استحياء في بدايات الرواية ثم تركه مفتوحاً فيما بعد، واستبدله بالصراع بين “عادل ” وبين ” نور الدين ” – ابن خالة “فرحة” – للفوز بقلبها….
هناك صراعٌ بين العمدة والقرويين، وبين “عادل ” و ” نور الدين ” …وصراع ٌبين والد فرحة وأمها …كل هذه نماذج صراع خارجية …توجد أيضا نماذج صراع داخلية مثل صراع صابر مع نفسه …الخ …
ولتسليط الضوء أكثر على الصراع لابد من تناول بعض نماذج شخصيات الرواية…
نماذج نسائية:
– “فافوية بت عبدون” المرأة القويةُ الشخصية التي وقفت مع أبيها في السوق ولولاها لضاعت تجارته.. “فافوية ” هي الداعمُ الروحي لعلاقة ” عادل ” بحبيبته ” فرحة” ….
– “فرحة” هي حبيبةُ “عادل” ابن “عباس” ناظر المدرسة، ويحبها كذلك الشيخ” النذير ” ولكن عُقد قرانُها على ابن خالتها ” نور الدين “.. غير أنها لم تلن …بل قاتلت من أجل حبها وانتصرت (في شخصية “فرحة” شيء من “حسنة بت محمود” في “موسم الهجرة إلى الشمال” مع اختلاف في المصير والخاتمة) …
– “آسيا” والدة ” فرحة ” وهي امرأةٌ مستبدة وتطغي شخصيُتها على شخصية زوجها ” عبد الله شلّي”…
– ” بيسا ” التي تحترف بيع العرقي و المريسة ….
– ” سكينة ضي الرتينة” وهي امرأة متزوجة لكنها تعشق “حمّاد” علناً….
– ” نبوية بت محمد بشير ” …زوجة “حمّاد” …والتي رفضت ان تستلم لعلاقة زوجها الآثمة بسكينة ضي الرتينة…..
نماذج ذكورية:
– العمدة ” خليل ” الجشع البخيل الذي يستغل البسطاء استغلالا عظيماً والذي وصفه المؤلف وصفاً عظيماً كونه ” قلبه قاسٍ كصحراء العتمور ” وأفرد لوصف وفاته حيزاً مقدراً …
– ” عبد الدايم” خادم العمدة وأداته في القهر والطغيان.
– ” عادل ” ابن المدير وهو من الشخصيات المحورية في الرواية وهو من ظفر بقلب بطلتها “فرحة” في خاتمة المطاف …
– ” عبد الله شّلي ” والد فرحة …كان خانعاً لزوجته ضعيفاً أمامها لكنه ثار في نهاية الرواية …
هناك أيضاً شلة السُكر التي أجاد المؤلف في وصف شخوصها:
– ” صابر” ابن “حاج حسين” مؤذن المسيد …و كان مبغضاً للعمدة …ناقماً عليه …
– ” حمّاد” و هو ابن “سعيد المحسي” ..و كان فتى وسيماُ عاشقاً للخمر و الغناء …كما كانت تربطه علاقة جنسية صارخة بسكينة ضي الرتينة ..و هي زوجة لرجل تاجر لا يكاد يستقر في القرية ….
مرت هاتان الشخصيتان بالمستويين المعروفين للصراع ” الداخلي / الخارجي” وتغيرتا في نهاية الرواية …فصابر كف عن السُكر وترك القرية، و “حمّاد” كف عن السُكر كذلك …
و هناك أيضا ” عز الدين ” ….و كان عاشقاً للنساء و الخمر و يشك الناسُ أن له علاقة جنسية ببائعة الخمر ” بيسا” و أنه والد ابنها ” عوض” …
بعضُ الشخصيات غيبها الموت و ابرزها العمدة …و بعضُها غيبها السفر كشخصية صابر و بعضها تعرّض للفجيعة مثل “حماد” الذي طعنه “عبدون” في ساحة الرقص….و هناك الشباب الذين يراودهم قلق السفر عن المكان بحثاً عن لقمة العيش في دول الخليج …( لم ينسى الكاتبُ أن يشير إلى تغير بيئة القرية بفعل المغتربين ) …..جلّ الشخصيات إذن حيّة و مرت بموجة أحداث أدت إلى تغييرها …هذا الأمر أكسب الرواية عمقاً …لكن هناك بعض الأسماء تم ذكرها دون ان تؤثر على مستوى الأحداث على الإطلاق…
الملاحظ أن جلّ الشخصيات النسائية كانت حية و فاعلة و قوية بينما هناك نماذج ذكورية خانعة مما يكسب الرواية مسحةً فيمينيزمية ..( لا أظنها مصادفة أن عنوان الرواية نفسه يتكون من كلمتين مؤنثتين )
استخدم المؤلف تكنيك الحُلم في بعض المواقف مثل تصور صابر لنفسه و قد غدا وحشاً ينتقم من العمدة و خادمه كما ورد في صفحة 44….و أيضاً في صفحة 76 حين خّيل لحماد أنه رأى صديقه “صابر” جالساً في ركن قصيّ من المسيد ( و كان صابر قد غادر القرية قبل هذه الحادثة قبل أكثر من عام) ….و كذلك حين ضحكت النخلة كما ورد في صفحة 110 ( و لدهشتي ضحكت معها المدينية ) ..
رؤية السرد:
كانت رؤية السرد خارجية إذ ظل المؤلف ممسكاً بخيوط الاحداث لها دون أن تتدخل الشخصيات في الحكي إلا في بعض الجزئيات القليلة….
وفق المؤلف في تسمية جل شخصياته …فصابر اسمٌ مرادف لشخص احتمل الظلم طويلا …و”ضي الرتينة” اسم مناسب لامرأة وضيئة الجمال …. و”فرحة” اسم يناسب بنتاً يتسابق إليها الرجال …الخ …
لا يمكن مغادرة هذا التأمل المتواضع دون الإشارة إلى شاعرية لغة الكاتب طوال مجريات الرواية …وهي لغة عذبة وتنم عن مخزون قراءات هائلة في ذهن الكاتب …
…………………………..
هوامش
(1) الرواية – صفحة 11
(2) الرواية – صفحة 66
(3) الرواية – صفحة 13
(4) الرواية – صفحة 15
(5) الرواية – صفحة 20
(6) الرواية – صفحة 11
(7) الرواية – صفحة 17
…….
مدينة جدة – مارس للعام 2024

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..