
رأی أشر ، بعد وصوله الی مدينة الأبيض ، الا يتوغل بجمله داخل المدينة و ذلك تجنبا لحركة السيارات ، حيث تصعب السيطرة علی الجمل وهو يمشي بجانبها. لذا فقد مر بطرف المدينة ثم واصل سيره غربا حيث حط رحاله ، بعد مسير لمسافة قصيرة ، تحت شجرة تبلدي ضخمة. قضی ليلته تلك هناك و ظل بذلك المكان حتی نهار اليوم التالي.
غير أنه عندما هم باستئناف رحلته ظهر ذاك اليوم ، قام الجمل بقلب ظهر المجن له ، كرة اخری ، حيث هرب ، هذه المرة ، تاركا اياه في حال لا يحسد عليها. وظل أشر يعدو وراءه محاولا اللحاق به ، غير أن الجمل أضحی هائما علی نفسه في الأحراش ، ومواصلا الجري دون توقف. تمكن بعد لحظات من الجري من الامساك برسنه ولكنه افلت منه وواصل هروبه وذلك علی نحو تجلی معه عناده و(فقده لصوابه) وكذا رفضه لهذا المصير غير السعيد.
ويمكنني ، هنا ، تأكيد ما سبق وأن أشرت اليه من أن الجمل ادرك ، إذا جاز التعبير ، بفضل القدرة علی التمييز التي وهبها الله له ، أنه فارق دياره وترك نهبا للغربة والمصير المجهول ، ما جعله يحاول جاهدا التحرر من هذا الواقع الجديد.
لمح أشر ، وهو في تلك الحال ، شخصين من علی البعد ، يركبان جملين فأشار اليهما بيده ، في محاولة منه الی لفت انتباههما الی فرار جمله املا في أن يقوما بمساعدته في الامساك به. فهما قصده فقاما ، بطريقة تطويقية ماهرة ، بمحاصرة الجمل و الامساك به.
وصل أشر الی المكان الذي كان يتواجد فيه الشخصان الممسكان بالجمل فحياهما وشكرهما علی حسن صنيعهما فردا التحية والدهشة تكسو محيا كل منهما ، اثر اطلالة اشر امامهما. كان لسان حال كل منهما يقول: (ما هذا الامر العجيب .. خواجة بجمله في هذا الخلاء) !!!.
ذكر أشر أن الشخصين شابان تتراوح أعمارهما بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة. قال له احدهما انه اذا لم يصادف مرورهما عبر هذا المكان فسوف لن يتسنی له الامساك بجمله ، وأردف مستفسرا أشر عما اذا كان قد اعطی جمله اكلا ، فرد عليه بقوله له انه فعل ذلك يوم امس. ابدی الشاب دهشته وعقب بقوله له ان الجمل يجب ان يعطی اكل يوميا.
سأل أشر الشابين عن اسميهما فردا عليه بقولهما أنهما علي وعثمان وهما شقيقان. سألاه عن وجهته فذكر لهما انه متوجه الی النهود ومنها الی دار فور ، فابتسما وقالا له انهما ايضا ذاهبان الی النهود ويمكنه مرافقتهما.
سألهما أشر ، عقب ذلك ، عن قبيلتهما فذكرا له انهما من قبيلة حمر، فتوجس خيفة للحظات ثم قال في نفسه أنه أصبح وجها لوجه مع بعض المنتمين الی القبيلة التي احيط علما بخطرها عليه ، غير ان خوفه ما لبث ان زال. ذلك انه قال في نفسه انه طالما ذكر لهما انه ذاهب الی النهود فلا تراجع عن ذلك ، وانتوی مرافقتهما تلبية لدعوتهما له ، لا سيما وانه ، كان أصلا ، غير مقتنع بما قيل له في ام روابة عن حمر والكبابيش.
رافق أشر الشابين عثمان وعلي في رحلتهما ، وظل ثلاثتهم يعبرون بابلهم فيافي المنطقة الغربية لمدينة الأبيض ، والتي وصفها أشر بانها عبارة عن سهل مترامي الأطراف ، ممتد علی مد البصر.
ذكر علي لأشر انهم ، باذن الله ، سيقضون الليلة في احدی قری البديرية المسماة ام جودة. استمروا في السير حتی وصلوا تلك القرية بعد المغرب ، حيث حلوا ضيوفا على أحد اهاليها. حيوا أهل البيت فرحب بهما رب الأسرة المدعو جمعة صالح والذي ذكر لهما لاحقا انه شيخ الحلة.
تجمع اهالي القرية، حسب العادة بقرى كردفان ، وقاموا بتحية الضيوف ، ثم باتوا مستغرقين في الأنس وهم يرشقون أشر بنظرات مستفسرة ترشح بالدهشة جراء سفره مع هذين الشابين. سأله رب المنزل عن جنسيته فأجاب بأنه انجليزي ، فما كان من الرجل ، حسبما ذكر أشر، الا وان ابدی ارتياحا بينا ، ثم سأله عما اذا كان الانجليز سيعودون الی السودان. ذكر أشر انه قهقه مبديا استغرابه للسؤال ، ثم رد بالنفي.
واود ، هنا ، ان أشير الی انه اذا وضعنا حديث الرجل العجوز الذي قابله أشر ناحية بئر القرية ، عندما كان في طريقه من ام روابة الی الابيض ، والذي ، اي الحديث كان يكيل فيه المدح للعهد الانجليزي ، اي الحقبة الاستعمارية، اذا وضعناه في الاعتبار مضافا اليه استفسار الشيخ/ جمعة صالح عن عودة الانجليز ، تتكشف لنا المفارقة العجيبة التي تتمثل في رأي الأهالي الايجابي عن الانجليز ، رغم انهم مستعمرون. ومن ناحية اخری يتضح لنا دهاء الانجليز وسعة أفقهم السياسي المتمثلة في توفير ضروريات المواطن من معاش وأمن وخدمات واستقرار سياسي علی مستوی السودان بغية تحقيق هدفهم الاستعماري.
استطرد أشر قائلا ان حديث اهالي القرية والشابين علي وعثمان كان يدور حول اسعار البهائم والمحاصيل من فول وغيره في كل من الابيض والنهود.
جيء، عقب ذلك ، بالعشاء والذي تسيدته صحون العصيدة التي جلبها كل أهالي القرية ، فشرع الجميع في الأكل. ولما كانت تلك هي أول مرة يتناول فيها أشر عصيدة ، كما ذكر ، فقد بدأ يقلد الاخرين في أكلهم لها. غير انه ، ووفقا لما اشار اليه ، فقد قام بغرز اصابعه داخل العصيدة فكادت ان تحترق. بلغ به الألم منتهاه ولكنه لم يجد بدا من مواصلة الأكل مكرها لا بطل نظرا لأنه كان جائعا. وكما قال فان الاخرين ، ولدهشته البالغة ، كانوا يأكلون العصيدة غير عابئين بحرارتها.
وفي صباح اليوم التالي تحركوا غربا ناحية الخوي ، بعد ان ودعوا مضيفهم وشكروه على اكرامه وفادتهم. تواصلت رحلتهم في براري شاسعة عبارة عن بحر لا ساحل له من الرمال تتخلله القری وكثبان الرمال التي يطلق عليها الأهالي (القيزان)، فضلا عن أشجار التبلدي والهشاب التي تنتج الصمغ العربي الذي يعتبر احدی صادرات السودان الرئيسية ، وكذا أشحار المخيط والعشر والهبيل والكداد واللعوت والغبيش وغيرها.
أشار أشر الی ان عثمان وعلی يقومان ، من وقت لاخر ، بأداء صلواتهما في خشوع يؤكد علی عظمة الدين الاسلامي الذي يعتبر العامل الموحد لكل المسلمين. ومضي قائلا ان الشابين حدثاه عن حقائق تاريخية معلومة لديه فاستبد به العجب. ذكرا له ان حمر ينتمون الی عرب جهينة الذين قدموا من الجزيرة العرببة مثلهم مثل أغلب القبائل العربية بالسودان. كان مبعث استغرابه المام هذين الشابين بهذه المعلومات.
واصلوا سيرهم في اتجاه الغرب حيث كانوا يقضون الليل في اي قرية تقع علی طريقهم حيث يحلون ضيوفا علی احد الأهالي فيجدون حفاوة وكرما بالغين.
وهكذا فقد تواصلت رحلتهم حتی وصلوا الى مدينة الخوي.
ذكر أشر انهم وصلوا الخوي صبيحة اليوم الثالث، حيث بارحوا دار البديرية الی دار حمر. وأردف قائلا ان نمط الحياة في كل من دار حمر ودار البديرية لا يختلف كثيرا وذلك رغم أصولهم المختلفة. وزاد بقوله انه وقف ، بالمنزل الذي اخذوا فيه قسطا من الراحة اثناء تواجدهم بالخوي، علی تصميم وتخطيط المنزل المشيد بالمواد المحلية (القش) ، فوجده شبيها بذاك الموجود بدار البديرية. وأشار الی ان المنزل مكون من البيت الكبير وخلوة الضيوف والراكوبة والتكل ، ثم طفق يتحدث عن تصميم القطية ويوضح الغرض من كل مكون من مكونات المنزل ، وفقا لما توافر له من معلومات تحصل عليها من الأهالي هناك.
وقد أشار ، من ناحية اخرى ، الی ان منظر أشجار التبلدی صار ، مع توجهه غربا ، مألوفا لديه ، كما تبدت له جماليات وسط كردفان بصورة اسرة.
واصلوا سيرهم صوب النهود حيث أطمأن أشر الی عثمان وعلي بعد أن قاما بخدمته كما ينبغي وطوقاه بأريحيتهما في كل شيء ، مؤكدين له ان ما ألصق من تهمة بحمر لا أساس له من الصحة ، وفقا لما ذكر.
كانوا يعبرون البراري الشاسعة التي تتخللها الأشجار المختلفة ، كما كانوا يشاهدون قطعان الأبقار والأغنام وقليلا من الابل وهي تجوب تلك الفيافي المترامية الأطراف. أضحوا يتجاذبون اطراف الحديث ، كما كان أشر يلتفت يمنة ويسرة موثقا لرحلته تلك من خلال الأنس وكل ما يقع عليه بصره.
اوضح له عثمان أن أهالي قبيلته يعتمدون علی الزراعة كزراعة الفول والدخن والبطيخ وغيرها من المحاصيل.
ومضي أشر بقوله ان شجرة التبلدي الساحرة التي ترسل فروعها عاليا في السماء والتي يسميها حمر (حمرة) ، علی قبيلتهم ، قد اثارت فضوله. واردف قائلا أن عثمان وعلی أحاطاه علما باستخدامات هذه الشجرة ومنها تخزين المياه. ثم ذكرا له انه ، ونظرا للجفاف الذي ضرب المنطقة في السنوات الأخيرة ، فقد أصبح الاهالي يعتمدون علی (الدوانكي) الحكومية ، بدلا من التبلدي.
وصلوا الى قرية مركب القريبة من الخوي حيث قضوا بها مساء اليوم الثالث.
ذكر أشر انه ، وحسبما يری ، فانه لا يمكن تمييز الحمري من غيره من أفراد القبائل الذين قابلهم سابقا. غير انه مضی قائلا ان علي وعثمان خالفاه الرأي بشدة فيما ذهب اليه ، وأكدا له ان من السهولة بمكان تتمييز الحمري من غيره من افراد القبائل الكردفانية الأخری من خلال لهجته.
من جهة أخرى ذكر أشر ان الجوامعة والبديرية ينتمون الي مجموعة الجعليين ، ثاني أكبر مجموعة قبلية عربية في السودان ، في حين ان حمر يعتبرون انفسهم أشرافا ينحدرون من أسرة الرسول محمد (ص).
غادروا قرية مركب في اليوم الرابع متجهين غربا نحو مدينة النهود. وبعد مسافة قصيرة من مركب ، لمحوا شخصين يركبان جملين و يسوقان أربعة جمال امامهما، وهم في عجلة من أمرهما. حدق فيهما علی وعثمان ثم علقا بقولهما انه يبدو ان هذين الشخصين ليسا بحمر ، لكن الجمال التي يركبونها عليها (وسم) حمر . ومضيا بقولهما انهما ربما يكونان لصين ، غير ان عثمان استدرك قائلا لعلي انهما ربما اشتريا هذه الابل. انخرط عثمان وعلي ، بعدئذ ، حسبما ذكر أشر، في حديث سريع لم يفهم اغلبه ، بينما اختفى الشخصان بابلهما في القوز متجهين شمالا.
اشار أشر الی ان ذلك الطاريء اعاد الی ذاكرته كل معلوماته عن (الهمباتة) وقطاع الطرق ، لكنه لم يمثل هاجسا بالنسبة له.
وبعد مسير لحوالي ساعة ، قابلوا في طريقهم سبعة أشخاص يركبون ابلا ويحملون بنادق قديمة ، والقلق يكسو وجوههم. تبادلوا التحية مع أولئك الأشخاص واستفسرهم الأشخاص عما اذا كانوا قد قابلوا رجلين يركبان جملين ويسوقان اربعة جمال فردوا بالايجاب. سأل أحدهم عثمان عن هوية أشر فأفاده عنها ، ذاكرا له انه (خواجة) رافقهم من الابيض ، ثم ما لبث ان انخرط الجميع في كلام سريع فهم اشر بعضه ولم يتسن له فهم بعضه الاخر.
هم الأشخاص بمواصلة السير فعرض عليهم عثمان مرافقته لهم من اجل تعقب اللصوص لكنهم شكروه ثم قال احدهم (انحنا امنلحقهم الحرامية عيال الكلب ديل) ثم واصلوا سيرهم.
سأل أشر عثمان عن هؤلاء الناس فأجاب بقوله انهم(فزع) من حمر، احدهم يدعی شيخ حسن محمد من ضواحي النهود. ومضی قائلا ان لصوصا سرقوا منهم ست جمال صباح اليوم.
بعد مسافة ليست بالقصيرة حل ثلاثتهم ضيوفا علی أحد الأهالي بقرية الرويانة. رحب بهم رب الأسرة وبعض الأهالي الذين كانوا متواجدين بمنزله. ذكر أشر ان الناس هناك كانوا يتحدثون عن موضوع سرقة الابل والذي يبدو ان خبره تفشی في كل المنطقة. كما أشار الی ان أحد الحضور قال ، وهو يضرب بعصاه الأرض (عليكم النبي لي بتين الناس يسرقوا بهايمنا ونحن ما قادرين نعمل حاجة).
وعقب أحدهم علی حديثه قائلا له (يا زول انحنا ما عندنا سلاح زي سلاح الناس ديل والحاكومة ما خلت لينا سلاح).
وأشار أشر الی انه ساد ، بعد ذلك ، هرج ومرج فاض به المكان. كما ذكر انه يبدو ان ثمة قبائل اعتادت علی دخول دار حمر بغرض السرقة ثم الفرار بعيدا ، دون أن يستطيع حمر ملاحقتهم. ثم مضی بقوله انه بقدر تعاطفه مع حمر فقد اثارت مغامرات هذه القبائل فضوله ، لذا فقد قرر ان يلج عالمهم هذا لاحقا بهدف سبر أغواره ومعرفة الكثير عنه.
وبينا كانوا مستغرقين في حديثهم ذاك ، اذا برجلين من رجال الشرطة يحلان ويقومان بتحية الجميع ثم يجلسان واياهم. كان أحد الشرطيين شابا والاخر اكبر منه سنا وضخم الجثة. وبعد أن انخرط الجميع في الأنس والنقاش لبعض الوقت سأل الشرطي البدين أولئك الأشخاص عن هوية أشر فأفاده عثمان عنها. ثم عقب ذلك الشرطي مستفسرا أشر عما اذا كان لديه تصريح سفر او مرور عبر هذه المنطقة من الأمن ، فأجاب أشر بالنفي. قال له الشرطي ، بلهجة امرة ، ردا علی ما ذكر ، انه يتعين عليه مقابلة مسؤول الامن بالنهود يوم غد. ولم يجد أشر بدا ، والحال تلك ، من الاذعان لأوامر ذلك الشرطي والذي أوضح أشر انه تصرف ، وهو يصدر اوامره له ، بشيء من الزهو.
وبينا كان الجميع ينصتون الی الشرطي وهو يصدر أوامره لأشر ، تصدی رجل عجوز للشرطي وقال له (خلونا من الخواجة … الحرامية ديل بتشوفوا لينا ليهم طريقة ولا لا).
ذكر أشر ان الشرطي تصرف علی نحو عصبي مستهجنا ما قاله الرجل العجوز ومبديا امتعاضا لا تخطئه العين ، ثم نهض هو وزميله وغادرا المكان بعد تلقيهما (جرعة رأي عام) كبيرة تمثلت في ما قاله الرجل العجوز.
واود ، هنا ، ان أشير الى قوة ملاحظة أشر لكل صغيرة وكبيرة تصدر من مرافقيه ومن الناس الذين يقابلونه ، وكذا لكل ما يشاهد ، فضلا عن حرصه على توثيق كل ذلك. كما اود ، من بعد ، ان أؤكد ، مرة أخرى ، على جسارة هذا (الخواجة) وعشقه للمغامرة بشكل منقطع النظير ، من اجل اشباع رغبته وتحقيق هدفه من رحلته تلك.
