
ليس بمقدور أحد أن يستعيد ذكرياته بنفس تفاصليها ، من دون أن يتغير بعضها ويتبدل ، أو من دون أن تسقط بعض تفاصيلها سهوا أو عمدا.. فخلق التجربة في الخيال أجمل من عيشها في الواقع .. والصور التي يلتقطها الخيال أروع من عدسات التقنية .. وليس من الضروري ان نسجل كل شيء رسما وحرفا ، فالتجارب الإنسانية تسمو على التسجيل المحض .. أليس من الممتع أن يشاركنا الآخرون .. محللين ومتفاعلين ومؤولين كثيرا من الأحداث؟ مخترقين الذاكرة ليسطو على الذكريات ويقتنصوا كل ما فيها بلا استثناء!! ومع كل ذلك نسامح ونضحك .. حتى تدق الدموع أبواب العيون الخلفية مؤذنة بالانفجار …
لأننا (لسنا بخير) .. لا هذا العيد ، ولا ما مضى من أعياد ، بما فيها أعياد المسيح التي يتبارى خطباء المنابر المتجافين عن العفو والتسامح في تحريمها .. وأتباع المسيح يقولون : “أغفروا ، أحبوا أعداءكم ، لا تؤذوا أحدا”.
“كل عام وأنتم بخير” هل يوجد أحد بخير ، من الذين اختاروا المنفي وأفرطوا في التفاؤل. فقد ظنوا أن العودة ستكون في يوم أو بعض يوم .. (فلبثوا في منفاهم…) بعد أن تلاشى التفاؤل وطمس الزمن حساب الأيام .. ومن الذين آثروا البقاء تحت القصف العنيف، فقضى كثير منهم ، وآخرون فقدوا أمل الترقب وتصفح المآلات وتقليب الاحتمالات، حتى وصل بهم الحزن مبلغ اليأس والذبول .. بعد أن ارتطمت أحلام السكينة والسلام بحائط الواقع الشائك .. وأيقنوا أن أمانيهم لا سبيل إلى تحقيقها وإن الغد لناظره (بعيد).. فقد كشف الواقع عن صدقه القاسي ووقف -بكل قبحه وتعقيداته والتواءاته- أمامهم عاريا .. خانقا كل عاطفة وحساسية ومشاعر.
(لا أحد بخير) وقد انقلب كل شيء رأسا على عقب ، وأصبح الجميع غرباء عن ديارهم وأوطانهم .. غاض فيهم كل شيء ولم تتبق إلا الرواسب .. وما يترسب لا يُزال بسهولة.
إذن ما قيمة الذكريات وما قيمة الحنين إلى الماضي .. ما دام الطوفان قد غمر كل شيء .. وتعرضت كل الفضائل للتجارب المريرة فانكسرت ولم تصمد .. وفقد الكثيرون أشياء ثمينة لا تعوض.
وما قيمة الانتصار .. عندما تدخل أرضا لا تجد فيها شيئا .. لا شيء سوى الخراب والدمار والحريق .. ماذا يُفعل بأرض منزوعة الأرواح .. مهجورة البيوت والمقاهي والملاهي .. والأشجار والأوكار..؟ وما معنى (كرامة) لمن انكسر في أعماق نفسه كسرا لا ينتظر جبره .. وجرح في صميم روحه جرحا لا يرجى برؤه؟
(لا أحد بخير) وقد محقت الأرواح الطيبة وتبدلت بذوات أخرى ذات طبيعة أخرى .. غير الطبيعة الأليفة .. المتبادلة بين الناس .. الجميع أصبح طاغيا مستبدا .. والإنسانية تموت في نفس المستبد .. وينمو فيها الاستبداد حتى يصير مرضا .. وتتطور القسوة حتى تحطه إلى مستوى الحيوان المفترس ..
(لسنا بخير) لذلك فنحن بحاجة إلى طوفان جديد .. يأتي على كل الخطايا المتراكبة فيزيلها . وكل الدماء التي تغطت بها الأرض فيغسلها .. وكل الجراح فيبرئها .. وكل الطغاة والمستبدين فيغرقهم .. طوفان جديد لكي تمضي السفينة .. ويخلق العالم من جديد .. لأن الموت يزول أثره بولادة جديدة..
