طالبة شهادة سودانية

وضاحة عبد الرحمن
فتاة سودانية ، كانت صديقة لي منذ الطفولة ، سألتها عن الحرب ، ما هو شعورها تجاه هذا اللفظ ؟ لم تكن صديقتي هذه سوى طالبة شهادة ، كانت تعيش حياة طبيعية و تذهب إلى المدرسة كل صباح ، حتى إذا انتهت دروسها تعود بالمواصلات الشاقة إلى المنزل ، فتصل مساء مع صلاة العشاء و هي مجهدة يهلكها التعب ، لم تكن حياتها مريحة و مثالية ، كانت تستثقل الدراسة المتعبة الضاغطة ، التي تكتم أنفاس الشبان ، فتدفعهم لنسيان هواياتهم و النأي عن الأنشطة السياسية و الأفكار التجديدية ، و إنما يدارون في طواحين من الصبح إلى المساء ، يكتبون حتى تصاب أصابعهم بالألم ، و يحملون على ظهورهم أطناناً من الكتب تكاد تشبه الحجارة القاسية ، فلا يجدون الوقت ليقضوه في الألعاب السياسية و الأفكار التجديدية . كانت تلك الفتاة تستثقل هذه الطاحونة التي أجبرت على الدوران فيها ، و كان كل همها أن تحرز نسبة جيدة في امتحان الشهادة ، و تلتحق بكلية جيدة ، و لكن حتى هذه الأماني البسيطة قد لا يكتب لها أن تتحقق كما هو مخطط له .
بين ليلة و ضحاها ، وجدت الفتاة نفسها نازحة في قرية بعيدة ، التفتت حولها فلم تر أحلامها و آمالها التي وضعتها لحياتها ، و إنما رأت حولها أناساً بائسين ، يكدون لأجل لقمة عيش ، و ينامون على الطرقات و الأرصفة ، لم تر حولها سوى البؤس و المعاناة و الفقر ، أهذه هي الحياة التي كانوا يتحدثون بها ؟ إنه لمن المؤسف أن شاباً صغيراً يفاجأ بواقع مر يخالف كل تصوراته الحالمة . المرحلة التي يترقبها جميع الأولاد و البنات ، و يشيرون إليها بأصابعهم عندما يقولون : سوف نكبر ، حينما وصل إليها أطفال الأمس و شباب اليوم ، وجدوا أن ما كانوا يشيرون إليه لم يكن سوى الجحيم ، و لكن الرؤية لم تتضح لهم آنذاك .
كانت تلك الفتاة تبكي كل يوم ، و تتخيل حياتها كيف كانت لتكون عليه لو أن الحرب لم تقم . كان يفترض أن تكون في الجامعة ، تعيش حياتها كأي فتاة عادية ، كانت تتخيل بعداً افتراضياً أو عالماً موازياً لم تجر فيه الحرب ، و تتمنى لو أن واقعها مشابه لهذه التصورات ، و لكن كل شيء بات عديم النفع ، بعد مرور فترة طويلة ، توقفت الفتاة عن تخيل أي شيء ، و كفت عن البكاء .
ربما تأقلمت قليلاً مع حياتها في تلك القرية ، الناس هناك كانوا ثرثارين و يحبون الجلبة ، كانوا يهزؤون بالنازحين الذين سكنوا الخرطوم من قبل ، و قد سمعت الفتاة أقوالاً كثيرة تسيء إلى النازحين المساكين ، و لكنها صبرت و لم يكن بوسعها سوى الصبر ، كما أن أهل القرية لم يكونوا رغم كل شيء أشراراً لهذه الدرجة ، كانوا يبذلون وسعهم لاستقبال النازحين و إياوئهم ، و لعل الظروف الحياتية الصعبة جعلتهم لا ينتبهون لكلماتهم . حاولت صاحبتي أن تعتذر لهم بتلك العبارات ، و لكني كنت أشعر بمعاناتها مرفقة بكل حرف من حروف رسالتها ، شعرت بخيبة أمل يصعب تقدير حجمها ، و توقفت عن الدراسة و الاستعداد للإمتحانات ، و من الذي يفكر في الإمتحانات ؟ و من يكترث عندما لا يكون واثقاً من بقائه على قيد الحياة ؟ إمتحانات الشهادة السودانية التي يظل كل طالب يترقبها بحماس و توجس ، أصبحت تعادل لا شيء ، فالحرب اللعينة لم تبق في النفوس شعلة أمل .
إن من خسر إثر هذه الحرب ليس العجائز الذين كانوا سبباً فيها ، و إنما خسر الأطفال و الشبان الصغار ، الذين ما كادوا يبدؤون حياتهم حتى تلقوا صدمات مقذوفة من طائرات حربية ، و أرتهم الحياة وجهها الدميم مرة واحدة ، فباتوا يائسين و خائري العزيمة و القوى ، يستثقلون الطموحات الكبيرة و يكدون لأجل البقاء على قيد الحياة .
الكيزان هم سبب هذه الحرب مع البرهان الخيبان عليهم من الله مايستحق.