مقالات وآراء

مايكل أشر وركوب الصعاب – الحلقة الثالثة

د. محمد حمد مفرح
واصل أشر
والشابان عثمان وعلي سيرهما صباح اليوم التالي صوب مدينة النهود، بعد ان قضوا ليلتهم ببلدة الرويانة. كانت تلك الليلة حافلة بالاحداث التي خيم عليها الحدث المتعلق بسرقة الابل والذي عم المنطقة فطفق الناس يتناولونه على نطاق واسع.
وبعد مسير لمسافة قصيرة ودع علي وعثمان أشرا وعرجا علی قريتهما القريبة من النهود ، بعد أن أحاطاه علما بأنهما بلغا محطتهما النهائية. وقد ذكر أشر ان فراق هذين الشابين ترك فراغا عريضا في نفسه ، مبينا انهما قد أنارا طريقه وتعلم منهما الكثير. كما مضی  بقوله انه ، وتحت رعايتهما ، فقد أخذ يستوعب هذا العالم البديل الذي ظل يبحث عنه.
وأود أن أؤكد هنا ، علی أن ما أشار اليه اشر ببحثه عن عالم بديل يجعلني ، وانا احاول تفسير سلوكه وأقواله ، ان استشف ان بحث أشر عن عالم بديل لعالمه الغربي يمكن تفسيره پأنه لم يجد ضالته لا نفسيا ولا وجدانيا ولا روحيا في العالم الغربي الذي كان يعيش فيه و ذلك رغم الطفرة الحضارية المادية التي حققها هذا العالم. وهذا في نظري ، يعكس خللا، علی نحو او اخر ، في البنية الحضارية الغربية الموسومة بالطفرة المادية والخواء الروحي ، ما جعل الكثير من الغربيين في حالة تيه وضياع نفسي دفعت الكثيرين الى البحث عن ذواتهم بعد أن فقدوها. ومن هؤلاء الفرنسي روجيه جارودي الذي ظل ينقب في العقائد المختلفة باحثا عن الهداية والطمانينة.
زاد أشر بقوله انه ، وبعد عشرة ايام فقط من سفره، شعر بأنه اضحی اكثر رغبة في مواصلة رحلته تلك وخوض غمار تلك التجربة. كما اشار الی انه كان يقف ، بعد دخوله النهود ، أمام أحد المسؤولين عن الامن والذي يدعی الفريد موبايل ، من جنوب السودان. وزاد بقوله ان مكتب الفريد كان عتيقا ، وايل للسقوط ، كما كانت توحد به مروحة يبدو أنها لم تعمل منذ عقود من الزمان. وقد ذكر ذلك دون توضيح لكيفية وصوله الى مكتب ذلك المسؤول.
سأله الفريد ، والمسحة الرسمية تبدو علی وجهه ، عما اذا كان لديه تصريح لدخول كردفان، فرد بالنفي، قائلا انه اتی هكذا دون تصريح. وعقب الفريد علی كلامه بقوله له انه يبدو انه غير مدرك لما كان يمكن ان يتعرض له من مخاطر. واردف الفريد قائلا لأشر انه شخصيا مستغرب لكونه ، اي اشر ، لم يتعرض لاعتداء بدار حمر. ثم سأله عما اذا كان يعلم بعدد البلاغات التي تصلهم يوميا والمتعلقة بحالات سرقة الابل ومصحوبة بعنف. رد أشر بالنفي ثم واصل الفريد حديثه ذاكرا لأشر انه اذا سافر الی دار فور ، حسب خطته ، فسيأكلونه هناك.
ونصح الفريد أشر بأن يعدل عن رأيه فيما يتصل بالسفر الی دار فور بالجمل ويستقل ، بدلا عن ذلك ، (لوري) ، غير ان اشر اوضح له ان هدفه من الرحلة الاستكشافية هذه مبني علی السفر بالجمل وليس غيره. واشار أشر الی انه لاحظ ان المسحة الرسمية قد توارت ، فجأة ، من وجه الفريد ، ثم سأله الفريد عما اذا كان مسيحيا بروتستاتيا، فرد اشر بالايجاب. عقب الفريد بأنه هو أيضا مسيحي بروتستانتي ، واحاطه علما بان هذه المدينة بها قلة من المسيحيين الأقباط وسط كم هائل من المسلمين ثم دعاه لتناول طعام الغداء. لبى الدعوة وتناول الغداء مع الفريد ومجموعة من الأقباط.
وفيما يتصل بمواصلته الرحلة فقد ذكر له الفريد انه لا مانع من السماح له بالقيام بها اذا كان مصرا علی ذلك ، لكن يتعين عليه مقابلة المسؤول الأعلی منه رتبة. ويدعى ذلك المسؤول ، كما ذكر أشر ، محمد عثمان ، وهو شايقي من شمال السودان. قام محمد عثمان بالترتيب لأشر ليحل ضيفا بمنزل حكومي بالنهود ثم كلف شابين يعملان لديه يدعيان يوسف وسراج بأن يحضرا له طعاما ويتعهدا جمله بالرعاية. وقد قام الشابان بالواجب تجاه أشر حسبما طلب منهما.
وفي اليوم التالي قابل أشر مسؤولا اعلی اخر فاستفسره عن وجهته وهدفه من رحلته فافاده عنها. حاول ذلك المسؤول اقناعه بأن يسافر بعربة لكنه اوضح له انه ينتوي مقابلة الناس في القری والبوادي لتحقيق هدفه من الرحلة ، وسوف لن يتسنی له تحقيق ذلك اذا استقل عربة. ثم زاد أشر بقوله أن المخاطر يجب الا تثني الشخص عن الهدف السامي مهما عظمت.
اخبره ذلك المسؤول بأن شخصا من قبيلة البديرية سافر لوحده لمتطقة تسمى شريف كباشي قبل ايام قلائل فتربص به لصوص واخذوا جمله غصبا ثم طعنوه ، ونجا من الموت بأعجوبة بعد أن فقد جمله. الا ان تلك القصة لم تثن اشرا عن الاستعداد للمخاطرة من اجل بلوغ هدفه. واخيرا اعطاه المسؤول خطابا تعريفيا ذكر له انه يمكن ان يقوم بابرازه لشيوخ القری التي يمر بها بغرب كردفان من أجل تسهيل مهمته ، اذا لزم الامر. اخذه وخرج من مكتب ذلك المسؤول ، الا ان الفريد ذكر له انه لا فائدة من ذلك الخطاب نظرا لان جميع شيوخ تلك القری اميون.
وذكر انه قابل عددا من مدراء المصالح الحكومية بالنهود ، أغلبهم من الجزيرة والخرطوم. رحبوا به وجابوا معه انحاء المدينة، لكنهم كانوا يتحدثون له بطريقة فيها شيء من الاعتذار عن بساطة المدينة وتخلفها. غير انه ، وفقا له ، اختلف معهم في نظرتهم للحضارة التي قصروها علی الجانب المادي فقط. واشار الی انه يبحث عن حضارة بديل للحضارة الغربية التي تفتقر للمفهوم المعنوي المرتبط بالسلوك الانساني من كرم وايثار ونخوة  وشهامة. ثم زاد بقوله لهم ان الناس الذين قابلهم بهذه المنطقة يعتبرون  اكثر تحضرا من العديد من الاوربيين وفقا للمعيار المعنوي للحضارة.
وقد أشار الى انه تجول مع يوسف وسراج بسوق النهود فسحرته المحلات الصغيرة من دكاكين ومحلات خياطين ومحلات لبيع الأشياء المختلفة. استنشق البهارات واشبع فضوله في كثير مما وقع علی بصره في السوق وغيره. وقد اعجب ايما اعجاب ببساطة المدينة وروعتها التي تبدت له من خلال العديد من الأشباء.
وذهب ، ذات يوم الی السوق برفقة بوسف وسراج فاشتري له (عراقي) و(سروال طويل) وعمامة بالإضافة الى سيف وذلك بغرض حماية نفسه من طواريء الطريق واخطاره. وقد كان محل تهكم وسخرية سراج ويوسف عندما اشتری السيف ، حيث ذكرا له ان سيفه هذا لا يساوي شيئا مقارنة بالاسلحة الحديثة ، الا انه اصر علی شرائه.
واخيرا تهيأ اشر لمواصلة رحلته الی دارفور.
وقبل بدء رحلته شرع أشر ، وهو يتهيأ لمبارحة النهود في البحث عن مرافقين يسافر واياهم غربا الی دار فور. وبعد الاستفسار هنا وهناك تم تعريفه بأشخاص لديهم قافلة مكونة من ستة جمال كانت في طريقها الی مكان يقع غرب المدينة ويستغرق الوصول اليه ساعات قليلة. كان أولئك الأشخاص يعملون في (كماين فحم)  بغرض تجهيز الفحم وبيعه بمدينة النهود.
تحدث أشر الی قائد القافلة والذي يدعی ابو قرون واعلمه  بنيته مرافقتهم فأذن له لكنه أحاطه علما بأن رحلتهم ستستغرف ساعات قلائل. وصف أشر أبا قرون ، والذي ينتمي الی قبيلة حمر ، كما قال ، بأنه بدين ، صارم القسمات وحافي القدمين. ووصف مرافقيه الثلاث ، والذين هم أشقاءه ، بأنهم أصغر منه سنا وحفاة كذلك. كان كل من ابي قرون واخوته (يلبس) سكينا في ذراعه ويحمل فأسا.
تحرك أشر برفقة تلك القافلة فجر يوم من الأيام بعد أن تهيأ لبلوغ مرامه. كانت الابل ، وفقا لوصفه ، تسير علی الارض الرملية و(القيزان) بشكل انسيابي يخلع عليها صورة تجل عن الوصف. وذكر انه لم يسبق له ان رأي حيوانا يمشي علی هذه الهيئة المهيبة.
وبعد مسير لمسافة قصيرة أحس أشر ، كما ذكر، بأنه تحرر ، مرة أخری ، من قيود المدينة المقيدة.
ويمكنني ان أشير هنا ، مرة أخرى ، ومن باب التأكيد ، الى ان شعور أشر بالتحرر من قيود المدينة يدلل علی انه ضاق ذرعا بالحياة في عالمه الغربي  علی اكثر من صعيد ، ما سبب له حالة من التيه والرهق النفسي دفعته الی البحث عن حياة وعالم بديلين يشبعان تطلعاته ويشيعان السعادة في نفسه. ومن الواضح والجلي أنه تشبع من (الماديات) التي تطبع نمط الحياة في العالم الغربي وصار يتوق لاشباع الجانب الروحي والنفسي فيه. وليس ادل علی ذلك من أنه وجد ضالته في (الانسانيات) التي تسم او تلون سلوك الناس بالريف السوداني. وتتمثل تلك (الانسانيات) في القيم الانسانية السامية من كرم ونخوة وايثار وشهامة وبساطة وغيرها مما يفتقده الانسان في العالم الغربي.
من جهة أخرى فقد ذكر انهم ظلوا يقابلون ، من وقت لاخر ، بعض الناس الذين كانوا في طريقهم لسوق النهود. كان بعضهم يستقلون حميرا والبعض الاخر يركبون جمالا. ووفقا لروايته فانه شاهد فتاة جميلة تستقل حمارا ، حيث كانت راكبة علی جهة واحدة وهي في صحبة أخيها.
حاول ، اثناء رحلتهم ، ان يستنطق أبا قرون او أيا من اخوته ، لكن لم يبد اي منهم استعدادا للحديث معه. واخيرا وصلوا الی مكانهم بجوار قرية تسمی دبرين ، حسبما ذكر ، (من المحتمل أن يكون قاصد جبارة وجبرين والله علم).
حاول أشر ، وهم في تلك البقعة ، ان يستنطق ، كرة أخرى ، أبا قرون ، فسأله عما اذا كان أبوه كان يمتهن مهنة تجهيز وبيع الفحم هذه ام لا ، فرد أبو قرون بالنفي وذكر ان اباه كان يمتلك أبقارا وابلا. ثم استرسل في حديثه ذاكرا لأشر ان لصوصا سرقوا ابل ابيه وتعقب اثرهم لكنهم قتلوه. وذكر اشر  ان أبا قرون قص عليه تلك القصة المؤسفة ونهض دون ان يبدي اسفا علی المصير المؤسي الذي لاقاه ابوه ، كأنما اعتبره قدرا ليس الا.
غادر اشر خلال اليوم التالي المكان لوحده بعد ان ودع ابا قرون ورهطه. سار وهو يعبر بجمله البراري الشاسعة والقفار المترامية الاطراف شاقا التلال والاراضي الرملية والاحراش حتی وصل بعد ساعات من المسير الی قرية دبرين. حل ضيفا علی احد اهالي القرية فاكرم وفادته وقام بواجب الضيافة تجاهه كما ينبغي. ذكر اشر انه جاءه رجل عجوز ب(الراكوبة) التي  كان فيها ، وقص عليه ، بعد ان حياه وجلس واياه ، قصة مفادها انه رأی اخر رجل انجليزي عام 1940م. وادرك اشر من خلال حديث الرجل ان الانجليزي المعني الذي قابله هو المسؤول الاداري بالنهود.
بارح قرية دبرين قبيل مغيب شمس ذلك اليوم ، متوجها غربا. وبعد ان قطع مسافة قصيرة استرعی انتباهه رجلين يركبان جملين ويبدو انهما يلاحقانه. ابطأ السير املا في ان يصلا اليه كي يطلب اليهما مرافقته لهما ، لكنهما اختفيا.
أرخی الليل سدوله وغطی الظلام الارجاء القريبة والبعيدة. واصل أشر سيره ، وهو يمني النفس بوصول قرية من القری يقضي فيها ليلته ، غير أنه لم تلح له اي قرية. ولما دب اليأس في نفسه قرر ، فجأة ، ان يقضي ليلته في مكان ما وسط الاحراش.
اناخ جمله واعد العدة للمبيت ، غير انه تناهی لسمعه صوتا رجلين يتحدثان بصوت خفيض فهم منه انهما يبحثان عنه ويتربصان به. تجمد حيث كان وايقن انهما ينويان اخذ جمله غصبا. تداعت حينئذ ، تهديدات مسؤول الامن بالنهود الی ذاكرته ، لكنه تماسك ولم يحرك ساكنا خشية سماع صوت منه يدلهم علی مكانه.
ولم يتنفس اشر الصعداء الا عندما سمع احدهما يقول للاخر:(يا زول زولك دي يمكن مشيه بعيد … خلينا نرجع). وبالفعل عادا ادراجهما وقضی أشر الليلة بذاك المكان.
واصل سيره صباح اليوم التالي حيث اضحی طوال الصباح والنهار يسير وسط السهول والفيافي والمزارع ، وقد أخذ منه النصب والعطش  كل مأخذ بعد نفاد الماء الذي كان بحوزته. كان وقتها ، يتحرق شوقا لاطلالة قرية من القری ليعرج عليها بغية اطفاء نار عطشه واخذ قسط من الراحة ، ولكن لم تطل اي قرية.
وبعد مسير لمسافة طويلة لاحت لناظريه مدينة من علی البعد فطار فرحا برؤيتها. كانت تلك المدينة هي ود بنده التي بلغها بعد ساعة من رؤيته لها.
توجه صوب السوق وطلب الی اول شخص قابله ان يعطيه ماءا ففعل الرجل ونصحه بأن يشرب قليلا قليلا كي لا يتضرر جراء شرب الماء بصورة متواصلة.
وقد قضی اشر ليلته تلك بشرطة ود بنده حيث استضافته الشرطة التي لجأ اليها ، واكرمت وفادته.

تعليق واحد

  1. شكرا تابعت كل الحلقات وفي انتظار الرابعة ولكن ما لفت نظري في الحلقات الثلاثة انعدام الأمن وانتشار قطاع الطرق واللصوص فهنا يبرز سؤال مهم جدا هل ان مناطق دارفور وكردفان هذه طبيعتها من زمن سحيق؟!!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..