
خليفة دسوقي
1. يوم حافلولدت ريحانه في بيت جدّها بعد أن هجر والدُها الموسر والدتَها وطلّقها وهي حامل بها ولم يلق نظرة واحدة على طفلته منذ مولدها وحتى يوم مماته المفاجِئ ولو من باب الفضول وحب الإستطلاع. كان رجلاً غليظ القلب أتاحت له ثروته أن يتزوج هذه ليطلقها ويتزوج بتلك ويكرّر ذلك مرّات ومرّات دون حسيب من قلب أو رقيب من ضمير.
وهكذا ، نشأت “ريحانه” بين الرياحين ، نشئت وهي تشاهد (جدّتها) “كوكب” تعتني بحديقتها خلف البيت- حديقة كثيرة النباتات متعدّدتها يغلب عليها الريحان وكأنه كالملك المتوج على ما يجاوره من نباتات … الشذاب والنعناع وعباد الشمس والليمون وغيره مما تسمع عنه من الأعشاب والنباتات والأزهار ، فلقد كانت العجوز تمارس الطبابه هوايةً ، فترى عندها النساء اللاتي يأتين وعيونهن يملؤها الذعر على ولدٍ يبدو عليه كسر في الذراع فتعالجه كوكب بالزيوت المختلفة التي تضيق بها خزانتها أو تُجَبر تلك الذراع أو العضد أو الساق. وكنت سترى الشابات الحديثي الأمومة يأتين وفي أذرعهن صغارهن الذين لا يتوقفون عن البكاء إلاّ على يد كوكب التي تسقي الواحد منهم لبناً ممزوجاً بسائل من مستحضراتها فيستولي الهدوء على الصغير وتنزل عليه السكينة ، ولا تنسى كوكب أن تهب قارورة مملوءة بما يبدو عليه ماءاً فيه بضعة نقط من مستحضرها ذلك ، وتوصي الأم الصغيرة بمدوامة سقي الولد من الزجاجة كلما دعت الحاجة أو كلما أسرف الطفل في الصراخ والبكاء. والأغرب من ذلك أنك كنت سترى في أحيان كثيرة من يجئ أو يجئ بابن له تكاد المياه الزرقاء أن تعميه ولا يرى فيما يراه إلاّ كالضباب والأشباح ، فتبدأ كوكب بتهشيم قارورة من الزجاج ، ثم تأخذ بقطعة من القطع المتناثرة وبجانب الحد الجديد منه تكشط المياه الزرقاء بدقة عالية ، ثم توصي بحجب أشعة الشمس عن عين الطفل أو الرجل لبضعة أيام بوضع قماش أو شاش على عينيه ، وسوف تعجب حين تعلم أن الولد أو الرجل قد رُدّ له بصره بعد ذلك وأصبح لديه من حدّته ما لأقرانه. لم تكن كوكب تكسب شيئاً من عملها هذا سوى رضا الأهلين ومحبّتهم لها وتوقيرهم اياها ، فكل شئ هنا بالمجّان ومن أجل الأطفال. كانت كوكب فيما بدا من سلوكها تحب جيرانها وأطفالهم لأنها لم تكن تحب مخلوقاً قدر حبها للأطفال- أي طفل- ولا تحب من الأشياء شيئا قدر حبها لحديقتها التي لا تسمح لأحد أن يطأها بقدميه إلا في ما ندر ولأطفال حفيدتها ريحانه فقط وهم حبها الذي يصدر عن حبّها الأكبر … حبّها لريحانة. ولكن كان لكوكب حب آخر أيضاً هو حبها لكلبها الهائل ، الجميل. كان كلباً فريداً بلون جلده البني المائل للحمره الداكنه والذي تنتشر على كل مساحته دوائر صغيرة بيضاء تجعله يبدو وكأنه يلبس على جسمه سترة أنيقة ، غالية الثمن. كانت كوكب تعرف الكلب معرفة حقة ويبدو أن الكلب أيضا كان يعرف هذه الحقيقة وإلاّ فلن يكون هناك تفسير لإتمامه كل حركة تأمره بها كوكب : إذهب يا “موتشال” ، وهذا اسمه ، فيذهب ، تعال ياموتشال فيأتي ، لا تنبح ياموتشال فيمتثل ، أجلس هاهنا ياموتشال فيجلس باسطاً ذراعيه للأمام ، صاغراً وأذناه تتدليان على جانبي رأسه ، لا تقترب من هنا يا موتشال وهو لن يقترب ومع كل ذلك كانت كوكب دائمة العطف عليه غيورة لا تحب من يؤذيه. كان الكلب يخيف ابن ريحانه البكر ، أمين ، ويرعبه ، لذا كان لا يقترب لدق الباب عند زيارته لكوكب لتفتح هي له فيدخل ، بل يقف بعيداً ويصرخ باسمها عالياً ، منادياً لها حتى تفتح الباب كل ذلك خوفاً من الكلب الذي يأخذ في النباح قبل أن يقترب الصبي من الباب. ولم يخطر ببال أمين أن الكلب ربما كان قد عرف- بحساسية الكلاب المعهودة- مَن القادم من رائحته على البعد لما لابد أن أحَسّ به من حب كوكب للولد. ولم يَدُر بخاطره أن الكلب ربما كان فرِحاً بقدومه وأن نباحه ذلك لم يكن إلاّ ترحيباً به ، أو ربما إخطاراً لكوكب بقدوم من تُحِب. ربما كان الأمر كذلك حينها ، ولكن الصبي لم يكن ليدرك كل هذه الخواطر ، وحتى لو كان قد أدركها ومن ثم ناقش هذه الأفكار مع نفسه فالمغامرة التي لا بد وأن تغري بها مثل تلك الهواجس لن تقلّ عن مغامرة فتح الباب من الخارج والدخول دون أن يأبه بالكلب ونباحه، ولكن هذه سابقة لم تحدث وربما يعقبها ما لا يحمد عقباه إن حدثته نفسه بالمخاطرة فتنتهي بذلك إلى مأساة مروِّعة ، أو لعلّ الصبي حسبها كذلك ، وفي كل مرة يتأهّب لزيارة العجوز كان يتمنى أن يصل فلا يجد للكلب أثراً ولا لنباحه صدى أو يتمنى لو يصل هناك فتخبره كوكب أن الكلب قد مات. ولكن هيهات ، فالذين عاصروا كوكب قد شاهدوا ذلك الكلب وقد عاش زمناً طويلاً حتى كبر وشاخ ، عاش كالمؤمِّن على شيخوخته عند كوكب ، حتّى بدأت أسنانه في التساقط وغزاه الزمان من كلّ صوب ، وهي … هي هي ، لم تبخل عليه بمأكل أومشرب أو مأوى ، عبارة عن كوخ صغير منخفض السقف عند الركن الأقصى من السور الذي يحيط بالبيت ولم تبخل عليه بالرّحمة وحفظت له العشره والمودّة. كانت حقاًّ سيّدة قوية شجاعة لا تتكلم كثيراً ولكن فعلها كان ينمّ عن خلقها ويجسِّده. كان هناك أيضاً ذلك الطفل اليتيم الذي كفلته كوكب منذ زمن طويل ، مبروك، تركه أبوه ، القادم من الأرياف المنهكة المحيطة بالمدينه على قارعة الطريق من شدّة الفقر والإملاق وهولهما ، ولكنه عاد فندِم على فعلته واستدل على ابنه وتيقّن أنه عند كوكب. جاء صباح يوم وأتى يطرق باب بيتها يستعطف ثم يهدِّد ويتوعّد ليعود فيستعطف إلى أن رأى ابنه وقد اختلفت أحواله وتبدل مظهره ، متعلّقاً بأذيال كوكب بوجهها الشاحب والتي أخذت تحدّق بعينيها الواسعتين في الرجل وهي لا تنطق ولو ببنت شفة. ثم أنه هدأ ورأى الخير في أن يترك ابنه عندها ، فبقي الصبي معها ومع زوجها ياسين ولكن علاقته بأبيه لم تنقطع أبداً ، فلقد كان الأب دائم الزيارة والتردّد وخاصة أن كوكب لم تكن لتتركه دون أن يحتسي عدداً من فناجين القهوة وربما زادت على ذلك كوباً من الشاي المُسَكَّر. وكبر الطفل وبلغ مبلغ الرجال وعمل بمصنع للزّجاج لوقت طويل قبل أن يتوفّاه الله في عُمْر مبكّر ، وبعد أن كانت كوكب قد وعدته بقطعة أرض تبنيها بيتاً داخل سور بيتها الكبير إن سعى للزّواج ، ولكن العُمر لم يمهله. كان ياسين زوجها وجدّ ريحانه قد توفي عنها قبل سنوات. وأجدر ما يروى عنه هنا هو ما كانت تسرّه كوكب نحوه ، نحو زوجها ياسين –المرحوم ياسين ، فلقد اطّلع الصبي ابن ريحانه على سرّها دون قصد منه أو رضا منها. ففي ليلة قضاها في بيت كوكب ، بعد وفاة زوجها بزمن طويل، كان ينام في الحجرة الوسطى المجاورة لغرفتها يفصل بينهما باب ، وتقع الحديقة خلف هذه الغرفة التي ينام الصبي الآن فيها ، غرفة تعبق بروائح النباتات المجاورة العالقة بجو الغرفة والريحان منه بصفة خاصة ؛ كانت تلك تتسلل من النافذه العالية المطله على الحديقة ، فتملأ خياشيمه.
استيقظ عند انبلاج الصباح باكراً ، منزعجاً لسبب لا يمكن أن يفسّره ، أحسّ بالحركة في الغرفة المجاوره حيث تنام كوكب ، ثم أخذ يدعوها بصوت ذاهل وخافت :”يمّا” ولكنها لم تجبه …. ربما لأنها كانت منهمكة في صلاتها صبحاً ، وهي من الذين لا يؤجّلون أو يقطعون صلواتهم لأي سبب من الأسباب.
ثم مرة أخرى بصوت أكثر جهرة: “يُمّا”! ولكنها لم تجبه هذه المرّه أيضاً أو ربما لم تسمعه. نهض من السرير وتوجّه لغرفتها وحال تجاوزه الباب بين غرفتيهما رآها جالسة ، يواجهه ظهرها ، في وضع من يصلّي ويقرأ التحيات ولكنها لم تكن تقرأ التحيّات بل كانت تُكَلّم شخصاً ، شخصا لا يراه. هزّه الموقف وبُهِت ثم أصابه الهلع وتصور أنه قد انتهك حرمة من الحرمات ولا يدري ما هي ، ها هي دمائه قد تجمّدت في عروقه أو هكذا حَسب. حاول الأستدارة والعودة من حيث أتى ولكنه توقّف بعد أن تنبه أن حديث كوكب ، ومخاطبتها لمن لا يراه، حديث مفهوم. كانت ، كما بدا له ، تكلّم شخصاً ما ، بدأ يعي ما كانت تقوله كوكب فتسمّر في مكانه ….. سمعها تكلم وتدعو زوجها ياسين الّذي توفي من سنين ، بل إنها الآن تكلّمه وكأنه أمامها يسمع ما تقول وينفعل ويرد. كانت قد بدأت تنهره بدون أن يبدو للصبي ما يدعوها لذلك ، كانت تنهره لخيانته إياها وتركه لها خلفه في هذه الدنيا بخياراتها القاسية : أكان العهد كذلك؟ تتساءل كوكب ثم تصمت فترة قصيرة كأنها تنتظر الرد أو كأنها كانت تسمعه لأنها تضيف بعد لحظة الصمت: “لا لم يكن كذلك. ولكني أغفر لك هذه المرّة وفي الحقيقه أنا لا أستطيع إلاّ أن أغفر لك ، وأبحث ودائماً أجد العذر لك ، ولكن أن تتركني ينتهبني القلق وتنهشني الوحدة ، أكابد وحدي حبي لبنتي التي لم تلدها بطني، وهي …. هي مكّارة مثلك ، تقيّدني للحياة بتوسّلات عينيها وتزوّدني من حبها وقودا أستهلكه يوماً بعد آخر ، أصدِّقك … نعم … ربما كان القدر هو من قضى بأن تذهب وحدك ولكن أن أبقى بعدك كل هذه السنين … هو عذاب أليم ، أتراه عقاباً لذنب أرتكبته … ياله من ثقل لا تطيقه النفس ولا تحتمله إلا مكرهة … والآن … الآن فاض بي الكيل وطفح ، وكرهت البقاء ومللت الدنيا التي تخلو منك ، آه …. ما أشقّ أن تكون حي اً، لأني وإن كانت نفسي تهفو وروحي تشتاق لأن أكون معك ، إلا أن قلبي يتمزّق ويدمى لمجرّد التفكير في فراق ريحانة …. آه من ريحانة وأبناءها ، ريحانة الإبنة التي لم تحملها بطني ، يالك من مكّار ياسين .. تظن أنك أورثتني حب حفيدتك … لا والله لقد شاهدتها قبلك ولمستها قبلك وضممتها إلى صدري قبلك وأحببتها قبلك ، هي سلواي وسلوى فؤادي إنها وأطفالها هم سلواي فلم يبق هناك غير ريحانه ، ولكنني أحسّ أنني ممزّقه فشوقي لوجه الكريم وشوقي لك يضنيان روحي …. آه ريحانة … لا يمكنني أن أترك ريحانه واطفالها خلفي ، أترى ما اقترفته يداك حين فارقتني يا ياسين! إني أريد الموت ولقاء الأحبة والله يشهد على ذلك ، ولكن فراق ريحانه … فراق أولادها … فراقهم شيء لا وصف له ، وشوقي لك لا وصف له بنفس القدر. إنها لدوّامة!
عند هذه النقطة تيقن الولد أنه بوقوفه هناك ودون أن تشعر به كوكب ، ينتهك حرمة الجدّة فانسحب إلى غرفته بهدوء حيث حاول جلب النوم لعينيه اللتين رأتا ما يكفي لصباح واحد ، ولم يكن ككل صباح ، عرف الصبي منذ تلك اللحظه عن كوكب مالا تعرفه حتى ريحانه … وعرف صراع الحب والموت الذي يدور في صدر كوكب كما لا تعرفه ريحانه ولا يدور في خاطرها. وفي تلك السن المبكّرة لامس الفتى الحبَّ في أسمى معانيه ذلك الصباح وسَتمُرّ سنوات طويله حتى يجد نفس هذا الحب يقف أمامه مجدّداً وبصور أخرى ، ولكن درس ذلك الصباح لم يكن درساً ككل الدروس فهو لم يكن يعلَم ، ولم يكونوا ليعلّمونه ذلك في المدرسة أو البيت، من ذلك الذي يخبرك عن الحب فضلا عن أن يقول لك أن هناك حب بين الكبار بل والعجائز أيضاً ، حب مثل ذلك الذي شاهد مظهره ولامسه هذا الصباح العجيب. وعحيب أمر هذا الحب ، فهو قبيح ومأفون بين تلك الحسناء الجميلة “جوليانا” النصف إيطالية و ” ليجيسي ” الحبشي، عازف الهارمونيكا الموهوب ، الأعرج ، واللذان استأجرا غرفة واحدة ، متهالكة ، بثمن ليس ببخس ، متحدّيان بذلك والدة الفتاة التي لم تبدي قلقا أو يأسا من ارتباط ابنتها بذلك الرجل الذي عاشت معه زمناً قصيراً كانت تعاشره أثناءها معاشرة الأزواج ، كانا أثناءها يشجيان الجيران ويفرضان عليهما نغمات العزف على الهارمونيكا المنبعت من غرفتهما في كبد الليل أحياناً كثيرة ، أو يزعجانهم بصوت شجارهما العالي في أحيان أخرى ، إلى أن كان يوما جاءت فيه الشرطه لتأخذه للحجز عندها بسبب شجار عنيف شبّ بين الحبيبين ، فخلف الحبيب الغرفة وراءه ووجهه أخاديد تجري فيها أنهار الدم خلّفتها أظافر جوليانا فيه ، وكان أن عادت هي لوالدتها التي كانت قد سئمت مصاريف تربيتها ، ولكن كان عليها الآن أن تأخذها مكرهة.
ما الفرق إذن ، فكّر الصبي ، بين هذا الحب ، حب جوليانا لعشيقها المأزوم وحب كوكب العجيب … حب لرجل كان قد رحل منذ وقت طويل ، ولكن الحب لذلك الراحل كان يبدو أكثر رصانة ًوأكمل عافيةً وأوضح سلطاناً.
جائت ريحانه لبيت الجدّه مبكرة لتأخذ ابنها للبيت حيث يعدّ نفسه للذهاب للمدرسة ، أصرّت الجده على إعداد الإفطار ولكن ريحانه أفهمتها أن الأمر لا يحتاج ذلك لأنها ستفعل نفس الشيئ في منزلها في حين يعدّ الولد نفسه للمدرسة أثناءها توفيراً للوقت.
كانت ريحانه تمسك بيده طيلة الطريق وهو ساهم ، يفكّر فيما رآه وسمعه هذا الصباح ، وحين كادت ريحانه أن تفتح شفتيها لسؤاله عما يشغله ويجعله صامتاً ، سبقها الفتى وألقى علي مسمعها السؤال القنبله: “ريحانه” وكان لا يدعوها أو يخاطبها إلاّ باسمها “هل تحبين أبي؟”. كان للسؤال وقعاً فاقعاً في نفسها وأدركت أنه سمع أو رأى في بيت الجدة ما دفعه لإطلاق ذلك السؤال الذي يشبه الكمين. ولكنها تداركت نفسها ثم توجّهت بالحديث نحوه: ” هذا سؤال لا يليق توجيهه لأمك والسبب في ذلك أنه كان عليك أن تعلم أن ليس هناك جواب مباشر لمثل هذا السؤال وخاصة لمن في مثل سنّك ، لماذا؟ لأنك قد لا تفهم ولأن الله قد جعل الحب من عالم القلوب التي لا يطّلع على مكنونها سواه وجعل للحب علامات ودلائل وأعراض تشي به للعباد يتلمّسونها ليتحققوا منه ، خذ مثلاً أنا وأباك ، نحبك أنت ، لا شك في ذلك ، وإلاّ فما الذي يجعلني أقطع المسافة بين بيت الجدّه كوكب ومنزلنا في هذا الصباح القارس البرد لآتي بولد مشاكس إلى البيت وإعداده للمدرسة؟ وأنت لا تملك إلا أن تحبنّا ، أي أن أبيك وأنا نحبك ، وأنت تحبنا كلينا، وسؤالك من هنا يجد له جواباً في هذه الشبكة من إرتباطات الحب ، الحب تعرفه دون سؤال يُنْطق أو تساؤل يثار. ثم أن مسألة هل تحبني أو هل يحب فلان يحب فلانا إنما هي أسألة تشغل الأطفال الصغار أما أنت فقد قاربت على السن التي فيها يفهم الأولاد دون إرهاق قلوب ذوويهم ، يفهمون دون أن يسئلوا فهلاّ تعلّمت الصبر ، ألم يقل لك أبيك أن الصبر مفتاح الفرج .
لم يدرك الصبي ما قالته أمه إلاّ بطريقة مبهمة لا يمكن أن يفصل فيها ، ولم يعر الأمر انتباها فهو ، على كل حال، لم يكن ينتظر جواباً مستقيما لسؤاله وحتى حين أتاه ذلك ، فإنه جاء ملفوفاً بالغموض ككثير من الأجوبه على الإسئله التي يوجّهها للكبار.
وعند بلوغ الفتى وأمه أطراف حيّهم بدا في البعد “جويدو”، وهو يدفع عربته المعدّة بجهّاز لسن السكاكين وقسم آخر من العربه فيه ما يلزم للحام الأطباق المعدنيه والصحون وأي شيئ قابل للحام ، و “چويدو” هو ذلك الإيطالي الذي يعيش ، منذ انتهاء العهد الإيطالي في أربعينيات القرن العشرين ، مروراً بعهد الإنتداب البريطاني إلي الإحتلال الإيثيوبي، في هذا الحي ، وهو رابع أربعة من بني جلدته اتخذوا من الحي مسكنا لهم ووطناً ، فكان الثاني هو “ڨاكارو” صاحب المزرعة الكبيره التي تقع على طرف الحي الغربي التي تنتج الخضروات مثل الجزر والفجل ومختلف السلطات بجانب بيع الحليب الناتج من أبقاره التي كان يقوم بتربيتها إلاّ أن أهالي الحي والكبار منهم بشكل خاص كانوا لا يحبذون جلب الحليب منه لتربيته الخنازير أيضاً في مزرعته لتسمينها وبيعها لمحلات الجزارة الإيطاليه في الحي الأنيق من المدينه لذا فإنه كان يرشو الطفل الذي يأتي لشراء لتر من الحليب منه جزرة كاملة تغريه بالعودة للشراء منه في مرّة قادمة بدلاً من الذهاب لمكان آخر يخلو من الخنازير ويخلو أيضا من هذه المكرمة. ورب المزرعة هذا كان متزوجاً ولم يرزق بأطفال وربما كان لجمال زوجته الحبشيه الشابة الجميله التي تصغره بما لا يقل عن عشرين سنه دور في علاقتهما التي كان يبدو من ظاهرها أن مقاليد الحكم في المزرعة وفي الرّجل أيضا في يدها.
كان” جويدو” ربما في الستين أو أقل قليلاً ، رجلاً ممتلئ الجسم قصير القامة أصلع الرأس ولذا فإنك لن تراه دون قبعته المهترئه على رأسه الصلعاء العظيمه ، يلبس بنطلوناً أوسع منه يثبته على جسمه ، بحبل يشبه حبل الغسيل وفوقه قميص لا يمكن أن تحزر لونه ، فالزمن قد أبهته وغيّر من لونه مرات عده ، وغبار السّن واللحام، لا شك ، لهما باع طويل في ما تردّى له القميص ، وفوق كل هذا يلبس سترة مهترئة هي الأخرى عانت نفس عوامل السَّن واللحام وغبارهما وغبار والزمن ، فكان مجمل ما كان يبدو من جويدو بحذائه المهتريئ الكبير- المميز – حذاء من نفس نوع الأحذيه التي يلبسها رجال الشرطة والجيش– هو مظهر “تشارلي تشابلن” الخالق الناطق كما يقولون، صحيح أن فيه من البدانة شيئاً ليست في تشارلي ، إلاّ أنه يبقى تشارلي في غير ذلك من مظهر وحركه.
وهكذا ، نشأت “ريحانه” بين الرياحين ، نشئت وهي تشاهد (جدّتها) “كوكب” تعتني بحديقتها خلف البيت- حديقة كثيرة النباتات متعدّدتها يغلب عليها الريحان وكأنه كالملك المتوج على ما يجاوره من نباتات … الشذاب والنعناع وعباد الشمس والليمون وغيره مما تسمع عنه من الأعشاب والنباتات والأزهار ، فلقد كانت العجوز تمارس الطبابه هوايةً ، فترى عندها النساء اللاتي يأتين وعيونهن يملؤها الذعر على ولدٍ يبدو عليه كسر في الذراع فتعالجه كوكب بالزيوت المختلفة التي تضيق بها خزانتها أو تُجَبر تلك الذراع أو العضد أو الساق. وكنت سترى الشابات الحديثي الأمومة يأتين وفي أذرعهن صغارهن الذين لا يتوقفون عن البكاء إلاّ على يد كوكب التي تسقي الواحد منهم لبناً ممزوجاً بسائل من مستحضراتها فيستولي الهدوء على الصغير وتنزل عليه السكينة ، ولا تنسى كوكب أن تهب قارورة مملوءة بما يبدو عليه ماءاً فيه بضعة نقط من مستحضرها ذلك ، وتوصي الأم الصغيرة بمدوامة سقي الولد من الزجاجة كلما دعت الحاجة أو كلما أسرف الطفل في الصراخ والبكاء. والأغرب من ذلك أنك كنت سترى في أحيان كثيرة من يجئ أو يجئ بابن له تكاد المياه الزرقاء أن تعميه ولا يرى فيما يراه إلاّ كالضباب والأشباح ، فتبدأ كوكب بتهشيم قارورة من الزجاج ، ثم تأخذ بقطعة من القطع المتناثرة وبجانب الحد الجديد منه تكشط المياه الزرقاء بدقة عالية ، ثم توصي بحجب أشعة الشمس عن عين الطفل أو الرجل لبضعة أيام بوضع قماش أو شاش على عينيه ، وسوف تعجب حين تعلم أن الولد أو الرجل قد رُدّ له بصره بعد ذلك وأصبح لديه من حدّته ما لأقرانه. لم تكن كوكب تكسب شيئاً من عملها هذا سوى رضا الأهلين ومحبّتهم لها وتوقيرهم اياها ، فكل شئ هنا بالمجّان ومن أجل الأطفال. كانت كوكب فيما بدا من سلوكها تحب جيرانها وأطفالهم لأنها لم تكن تحب مخلوقاً قدر حبها للأطفال- أي طفل- ولا تحب من الأشياء شيئا قدر حبها لحديقتها التي لا تسمح لأحد أن يطأها بقدميه إلا في ما ندر ولأطفال حفيدتها ريحانه فقط وهم حبها الذي يصدر عن حبّها الأكبر … حبّها لريحانة. ولكن كان لكوكب حب آخر أيضاً هو حبها لكلبها الهائل ، الجميل. كان كلباً فريداً بلون جلده البني المائل للحمره الداكنه والذي تنتشر على كل مساحته دوائر صغيرة بيضاء تجعله يبدو وكأنه يلبس على جسمه سترة أنيقة ، غالية الثمن. كانت كوكب تعرف الكلب معرفة حقة ويبدو أن الكلب أيضا كان يعرف هذه الحقيقة وإلاّ فلن يكون هناك تفسير لإتمامه كل حركة تأمره بها كوكب : إذهب يا “موتشال” ، وهذا اسمه ، فيذهب ، تعال ياموتشال فيأتي ، لا تنبح ياموتشال فيمتثل ، أجلس هاهنا ياموتشال فيجلس باسطاً ذراعيه للأمام ، صاغراً وأذناه تتدليان على جانبي رأسه ، لا تقترب من هنا يا موتشال وهو لن يقترب ومع كل ذلك كانت كوكب دائمة العطف عليه غيورة لا تحب من يؤذيه. كان الكلب يخيف ابن ريحانه البكر ، أمين ، ويرعبه ، لذا كان لا يقترب لدق الباب عند زيارته لكوكب لتفتح هي له فيدخل ، بل يقف بعيداً ويصرخ باسمها عالياً ، منادياً لها حتى تفتح الباب كل ذلك خوفاً من الكلب الذي يأخذ في النباح قبل أن يقترب الصبي من الباب. ولم يخطر ببال أمين أن الكلب ربما كان قد عرف- بحساسية الكلاب المعهودة- مَن القادم من رائحته على البعد لما لابد أن أحَسّ به من حب كوكب للولد. ولم يَدُر بخاطره أن الكلب ربما كان فرِحاً بقدومه وأن نباحه ذلك لم يكن إلاّ ترحيباً به ، أو ربما إخطاراً لكوكب بقدوم من تُحِب. ربما كان الأمر كذلك حينها ، ولكن الصبي لم يكن ليدرك كل هذه الخواطر ، وحتى لو كان قد أدركها ومن ثم ناقش هذه الأفكار مع نفسه فالمغامرة التي لا بد وأن تغري بها مثل تلك الهواجس لن تقلّ عن مغامرة فتح الباب من الخارج والدخول دون أن يأبه بالكلب ونباحه، ولكن هذه سابقة لم تحدث وربما يعقبها ما لا يحمد عقباه إن حدثته نفسه بالمخاطرة فتنتهي بذلك إلى مأساة مروِّعة ، أو لعلّ الصبي حسبها كذلك ، وفي كل مرة يتأهّب لزيارة العجوز كان يتمنى أن يصل فلا يجد للكلب أثراً ولا لنباحه صدى أو يتمنى لو يصل هناك فتخبره كوكب أن الكلب قد مات. ولكن هيهات ، فالذين عاصروا كوكب قد شاهدوا ذلك الكلب وقد عاش زمناً طويلاً حتى كبر وشاخ ، عاش كالمؤمِّن على شيخوخته عند كوكب ، حتّى بدأت أسنانه في التساقط وغزاه الزمان من كلّ صوب ، وهي … هي هي ، لم تبخل عليه بمأكل أومشرب أو مأوى ، عبارة عن كوخ صغير منخفض السقف عند الركن الأقصى من السور الذي يحيط بالبيت ولم تبخل عليه بالرّحمة وحفظت له العشره والمودّة. كانت حقاًّ سيّدة قوية شجاعة لا تتكلم كثيراً ولكن فعلها كان ينمّ عن خلقها ويجسِّده. كان هناك أيضاً ذلك الطفل اليتيم الذي كفلته كوكب منذ زمن طويل ، مبروك، تركه أبوه ، القادم من الأرياف المنهكة المحيطة بالمدينه على قارعة الطريق من شدّة الفقر والإملاق وهولهما ، ولكنه عاد فندِم على فعلته واستدل على ابنه وتيقّن أنه عند كوكب. جاء صباح يوم وأتى يطرق باب بيتها يستعطف ثم يهدِّد ويتوعّد ليعود فيستعطف إلى أن رأى ابنه وقد اختلفت أحواله وتبدل مظهره ، متعلّقاً بأذيال كوكب بوجهها الشاحب والتي أخذت تحدّق بعينيها الواسعتين في الرجل وهي لا تنطق ولو ببنت شفة. ثم أنه هدأ ورأى الخير في أن يترك ابنه عندها ، فبقي الصبي معها ومع زوجها ياسين ولكن علاقته بأبيه لم تنقطع أبداً ، فلقد كان الأب دائم الزيارة والتردّد وخاصة أن كوكب لم تكن لتتركه دون أن يحتسي عدداً من فناجين القهوة وربما زادت على ذلك كوباً من الشاي المُسَكَّر. وكبر الطفل وبلغ مبلغ الرجال وعمل بمصنع للزّجاج لوقت طويل قبل أن يتوفّاه الله في عُمْر مبكّر ، وبعد أن كانت كوكب قد وعدته بقطعة أرض تبنيها بيتاً داخل سور بيتها الكبير إن سعى للزّواج ، ولكن العُمر لم يمهله. كان ياسين زوجها وجدّ ريحانه قد توفي عنها قبل سنوات. وأجدر ما يروى عنه هنا هو ما كانت تسرّه كوكب نحوه ، نحو زوجها ياسين –المرحوم ياسين ، فلقد اطّلع الصبي ابن ريحانه على سرّها دون قصد منه أو رضا منها. ففي ليلة قضاها في بيت كوكب ، بعد وفاة زوجها بزمن طويل، كان ينام في الحجرة الوسطى المجاورة لغرفتها يفصل بينهما باب ، وتقع الحديقة خلف هذه الغرفة التي ينام الصبي الآن فيها ، غرفة تعبق بروائح النباتات المجاورة العالقة بجو الغرفة والريحان منه بصفة خاصة ؛ كانت تلك تتسلل من النافذه العالية المطله على الحديقة ، فتملأ خياشيمه.
استيقظ عند انبلاج الصباح باكراً ، منزعجاً لسبب لا يمكن أن يفسّره ، أحسّ بالحركة في الغرفة المجاوره حيث تنام كوكب ، ثم أخذ يدعوها بصوت ذاهل وخافت :”يمّا” ولكنها لم تجبه …. ربما لأنها كانت منهمكة في صلاتها صبحاً ، وهي من الذين لا يؤجّلون أو يقطعون صلواتهم لأي سبب من الأسباب.
ثم مرة أخرى بصوت أكثر جهرة: “يُمّا”! ولكنها لم تجبه هذه المرّه أيضاً أو ربما لم تسمعه. نهض من السرير وتوجّه لغرفتها وحال تجاوزه الباب بين غرفتيهما رآها جالسة ، يواجهه ظهرها ، في وضع من يصلّي ويقرأ التحيات ولكنها لم تكن تقرأ التحيّات بل كانت تُكَلّم شخصاً ، شخصا لا يراه. هزّه الموقف وبُهِت ثم أصابه الهلع وتصور أنه قد انتهك حرمة من الحرمات ولا يدري ما هي ، ها هي دمائه قد تجمّدت في عروقه أو هكذا حَسب. حاول الأستدارة والعودة من حيث أتى ولكنه توقّف بعد أن تنبه أن حديث كوكب ، ومخاطبتها لمن لا يراه، حديث مفهوم. كانت ، كما بدا له ، تكلّم شخصاً ما ، بدأ يعي ما كانت تقوله كوكب فتسمّر في مكانه ….. سمعها تكلم وتدعو زوجها ياسين الّذي توفي من سنين ، بل إنها الآن تكلّمه وكأنه أمامها يسمع ما تقول وينفعل ويرد. كانت قد بدأت تنهره بدون أن يبدو للصبي ما يدعوها لذلك ، كانت تنهره لخيانته إياها وتركه لها خلفه في هذه الدنيا بخياراتها القاسية : أكان العهد كذلك؟ تتساءل كوكب ثم تصمت فترة قصيرة كأنها تنتظر الرد أو كأنها كانت تسمعه لأنها تضيف بعد لحظة الصمت: “لا لم يكن كذلك. ولكني أغفر لك هذه المرّة وفي الحقيقه أنا لا أستطيع إلاّ أن أغفر لك ، وأبحث ودائماً أجد العذر لك ، ولكن أن تتركني ينتهبني القلق وتنهشني الوحدة ، أكابد وحدي حبي لبنتي التي لم تلدها بطني، وهي …. هي مكّارة مثلك ، تقيّدني للحياة بتوسّلات عينيها وتزوّدني من حبها وقودا أستهلكه يوماً بعد آخر ، أصدِّقك … نعم … ربما كان القدر هو من قضى بأن تذهب وحدك ولكن أن أبقى بعدك كل هذه السنين … هو عذاب أليم ، أتراه عقاباً لذنب أرتكبته … ياله من ثقل لا تطيقه النفس ولا تحتمله إلا مكرهة … والآن … الآن فاض بي الكيل وطفح ، وكرهت البقاء ومللت الدنيا التي تخلو منك ، آه …. ما أشقّ أن تكون حي اً، لأني وإن كانت نفسي تهفو وروحي تشتاق لأن أكون معك ، إلا أن قلبي يتمزّق ويدمى لمجرّد التفكير في فراق ريحانة …. آه من ريحانة وأبناءها ، ريحانة الإبنة التي لم تحملها بطني ، يالك من مكّار ياسين .. تظن أنك أورثتني حب حفيدتك … لا والله لقد شاهدتها قبلك ولمستها قبلك وضممتها إلى صدري قبلك وأحببتها قبلك ، هي سلواي وسلوى فؤادي إنها وأطفالها هم سلواي فلم يبق هناك غير ريحانه ، ولكنني أحسّ أنني ممزّقه فشوقي لوجه الكريم وشوقي لك يضنيان روحي …. آه ريحانة … لا يمكنني أن أترك ريحانه واطفالها خلفي ، أترى ما اقترفته يداك حين فارقتني يا ياسين! إني أريد الموت ولقاء الأحبة والله يشهد على ذلك ، ولكن فراق ريحانه … فراق أولادها … فراقهم شيء لا وصف له ، وشوقي لك لا وصف له بنفس القدر. إنها لدوّامة!
عند هذه النقطة تيقن الولد أنه بوقوفه هناك ودون أن تشعر به كوكب ، ينتهك حرمة الجدّة فانسحب إلى غرفته بهدوء حيث حاول جلب النوم لعينيه اللتين رأتا ما يكفي لصباح واحد ، ولم يكن ككل صباح ، عرف الصبي منذ تلك اللحظه عن كوكب مالا تعرفه حتى ريحانه … وعرف صراع الحب والموت الذي يدور في صدر كوكب كما لا تعرفه ريحانه ولا يدور في خاطرها. وفي تلك السن المبكّرة لامس الفتى الحبَّ في أسمى معانيه ذلك الصباح وسَتمُرّ سنوات طويله حتى يجد نفس هذا الحب يقف أمامه مجدّداً وبصور أخرى ، ولكن درس ذلك الصباح لم يكن درساً ككل الدروس فهو لم يكن يعلَم ، ولم يكونوا ليعلّمونه ذلك في المدرسة أو البيت، من ذلك الذي يخبرك عن الحب فضلا عن أن يقول لك أن هناك حب بين الكبار بل والعجائز أيضاً ، حب مثل ذلك الذي شاهد مظهره ولامسه هذا الصباح العجيب. وعحيب أمر هذا الحب ، فهو قبيح ومأفون بين تلك الحسناء الجميلة “جوليانا” النصف إيطالية و ” ليجيسي ” الحبشي، عازف الهارمونيكا الموهوب ، الأعرج ، واللذان استأجرا غرفة واحدة ، متهالكة ، بثمن ليس ببخس ، متحدّيان بذلك والدة الفتاة التي لم تبدي قلقا أو يأسا من ارتباط ابنتها بذلك الرجل الذي عاشت معه زمناً قصيراً كانت تعاشره أثناءها معاشرة الأزواج ، كانا أثناءها يشجيان الجيران ويفرضان عليهما نغمات العزف على الهارمونيكا المنبعت من غرفتهما في كبد الليل أحياناً كثيرة ، أو يزعجانهم بصوت شجارهما العالي في أحيان أخرى ، إلى أن كان يوما جاءت فيه الشرطه لتأخذه للحجز عندها بسبب شجار عنيف شبّ بين الحبيبين ، فخلف الحبيب الغرفة وراءه ووجهه أخاديد تجري فيها أنهار الدم خلّفتها أظافر جوليانا فيه ، وكان أن عادت هي لوالدتها التي كانت قد سئمت مصاريف تربيتها ، ولكن كان عليها الآن أن تأخذها مكرهة.
ما الفرق إذن ، فكّر الصبي ، بين هذا الحب ، حب جوليانا لعشيقها المأزوم وحب كوكب العجيب … حب لرجل كان قد رحل منذ وقت طويل ، ولكن الحب لذلك الراحل كان يبدو أكثر رصانة ًوأكمل عافيةً وأوضح سلطاناً.
جائت ريحانه لبيت الجدّه مبكرة لتأخذ ابنها للبيت حيث يعدّ نفسه للذهاب للمدرسة ، أصرّت الجده على إعداد الإفطار ولكن ريحانه أفهمتها أن الأمر لا يحتاج ذلك لأنها ستفعل نفس الشيئ في منزلها في حين يعدّ الولد نفسه للمدرسة أثناءها توفيراً للوقت.
كانت ريحانه تمسك بيده طيلة الطريق وهو ساهم ، يفكّر فيما رآه وسمعه هذا الصباح ، وحين كادت ريحانه أن تفتح شفتيها لسؤاله عما يشغله ويجعله صامتاً ، سبقها الفتى وألقى علي مسمعها السؤال القنبله: “ريحانه” وكان لا يدعوها أو يخاطبها إلاّ باسمها “هل تحبين أبي؟”. كان للسؤال وقعاً فاقعاً في نفسها وأدركت أنه سمع أو رأى في بيت الجدة ما دفعه لإطلاق ذلك السؤال الذي يشبه الكمين. ولكنها تداركت نفسها ثم توجّهت بالحديث نحوه: ” هذا سؤال لا يليق توجيهه لأمك والسبب في ذلك أنه كان عليك أن تعلم أن ليس هناك جواب مباشر لمثل هذا السؤال وخاصة لمن في مثل سنّك ، لماذا؟ لأنك قد لا تفهم ولأن الله قد جعل الحب من عالم القلوب التي لا يطّلع على مكنونها سواه وجعل للحب علامات ودلائل وأعراض تشي به للعباد يتلمّسونها ليتحققوا منه ، خذ مثلاً أنا وأباك ، نحبك أنت ، لا شك في ذلك ، وإلاّ فما الذي يجعلني أقطع المسافة بين بيت الجدّه كوكب ومنزلنا في هذا الصباح القارس البرد لآتي بولد مشاكس إلى البيت وإعداده للمدرسة؟ وأنت لا تملك إلا أن تحبنّا ، أي أن أبيك وأنا نحبك ، وأنت تحبنا كلينا، وسؤالك من هنا يجد له جواباً في هذه الشبكة من إرتباطات الحب ، الحب تعرفه دون سؤال يُنْطق أو تساؤل يثار. ثم أن مسألة هل تحبني أو هل يحب فلان يحب فلانا إنما هي أسألة تشغل الأطفال الصغار أما أنت فقد قاربت على السن التي فيها يفهم الأولاد دون إرهاق قلوب ذوويهم ، يفهمون دون أن يسئلوا فهلاّ تعلّمت الصبر ، ألم يقل لك أبيك أن الصبر مفتاح الفرج .
لم يدرك الصبي ما قالته أمه إلاّ بطريقة مبهمة لا يمكن أن يفصل فيها ، ولم يعر الأمر انتباها فهو ، على كل حال، لم يكن ينتظر جواباً مستقيما لسؤاله وحتى حين أتاه ذلك ، فإنه جاء ملفوفاً بالغموض ككثير من الأجوبه على الإسئله التي يوجّهها للكبار.
وعند بلوغ الفتى وأمه أطراف حيّهم بدا في البعد “جويدو”، وهو يدفع عربته المعدّة بجهّاز لسن السكاكين وقسم آخر من العربه فيه ما يلزم للحام الأطباق المعدنيه والصحون وأي شيئ قابل للحام ، و “چويدو” هو ذلك الإيطالي الذي يعيش ، منذ انتهاء العهد الإيطالي في أربعينيات القرن العشرين ، مروراً بعهد الإنتداب البريطاني إلي الإحتلال الإيثيوبي، في هذا الحي ، وهو رابع أربعة من بني جلدته اتخذوا من الحي مسكنا لهم ووطناً ، فكان الثاني هو “ڨاكارو” صاحب المزرعة الكبيره التي تقع على طرف الحي الغربي التي تنتج الخضروات مثل الجزر والفجل ومختلف السلطات بجانب بيع الحليب الناتج من أبقاره التي كان يقوم بتربيتها إلاّ أن أهالي الحي والكبار منهم بشكل خاص كانوا لا يحبذون جلب الحليب منه لتربيته الخنازير أيضاً في مزرعته لتسمينها وبيعها لمحلات الجزارة الإيطاليه في الحي الأنيق من المدينه لذا فإنه كان يرشو الطفل الذي يأتي لشراء لتر من الحليب منه جزرة كاملة تغريه بالعودة للشراء منه في مرّة قادمة بدلاً من الذهاب لمكان آخر يخلو من الخنازير ويخلو أيضا من هذه المكرمة. ورب المزرعة هذا كان متزوجاً ولم يرزق بأطفال وربما كان لجمال زوجته الحبشيه الشابة الجميله التي تصغره بما لا يقل عن عشرين سنه دور في علاقتهما التي كان يبدو من ظاهرها أن مقاليد الحكم في المزرعة وفي الرّجل أيضا في يدها.
كان” جويدو” ربما في الستين أو أقل قليلاً ، رجلاً ممتلئ الجسم قصير القامة أصلع الرأس ولذا فإنك لن تراه دون قبعته المهترئه على رأسه الصلعاء العظيمه ، يلبس بنطلوناً أوسع منه يثبته على جسمه ، بحبل يشبه حبل الغسيل وفوقه قميص لا يمكن أن تحزر لونه ، فالزمن قد أبهته وغيّر من لونه مرات عده ، وغبار السّن واللحام، لا شك ، لهما باع طويل في ما تردّى له القميص ، وفوق كل هذا يلبس سترة مهترئة هي الأخرى عانت نفس عوامل السَّن واللحام وغبارهما وغبار والزمن ، فكان مجمل ما كان يبدو من جويدو بحذائه المهتريئ الكبير- المميز – حذاء من نفس نوع الأحذيه التي يلبسها رجال الشرطة والجيش– هو مظهر “تشارلي تشابلن” الخالق الناطق كما يقولون، صحيح أن فيه من البدانة شيئاً ليست في تشارلي ، إلاّ أنه يبقى تشارلي في غير ذلك من مظهر وحركه.
كان جويدو يعيش وحيداً دون زوج أو رفيق أو ولد ، وهو يمتلك البيت الذي يسكنه ولا يسمح لأحد بدخوله أو زيارته فيه ، ولكن ما يراه الأشقياء من الأطفال من خلال ثقب مفتاح بيته هو العجب العُجاب. ولو أتيحت لك تلك الإطلالة على منزل جويدو فإنه لن يأخذ منك سوي نظرة واحده لتدرك أن الرجل كان يعيش في مستعمرة من حديد أكله الصدأ فكساه بتربة حمراء متكلسة.
لم يأخذ ذلك وقتاً طويلاً فسرعان ما أصبح جويدو ومنشأته بمحاذاتهم، وأخذ بتوجيه الحديث نحو ريحانه ، يسألها ، إن كانت لا تريد أن يقرأ لها كفها (وهذه كانت حرفة إضافية للخواجه جويدو) مقابل مبلغ ضئيل ، ولكنها لم تجبه بل أجفلت فأسرعت الخطا مبتعدة وهي تحض ابنها على الإسراع. ولكن عيون الفتى كانتا لا تتحولان عن جويدو كأنه يراه لأول مرة فما كان من الأم إلا أن عادت بضع خطوات وأخذت بيده وسحبته بشئ قليل من العنف تحضه به على الحركة والإبتعاد. ولكنه حتى عند ما أخذ في السير بمحاذاة أمه لم يتوقف عن التفكير والتفكر في “جويدو” وكأنه لم يره أويسمع به من قبل. ولكن الحقيقة كانت أنه كان يعرف جويدو حق المعرفه ويعرف ، بل ، وينهمك أحياناً فيأخذ له دوراً ، في تلك القصص التي يتبادلها الصبيان حول جويدو وعن طريقة تناوله الطعام تلك التي تدلّ على النهم وفراغ العين كما يقولون ، ولكنّ الصبي هذا الصباح كان في مزاج بعيد كل البعد عن كل هذا ، راغب عن البحث عن الأشياء المألوفه المرحة المريحه ، كأن تجربته عند كوكب هذا الصباح قد هزّته وجعلته يفيق ويبحث عن أشياء غير مألوفة لا يدري ماهي ، كيف لم يتصور قبلاً اختلاف جويدو عن كل من يعرفهم؟ جويدو الذي لا زوجة له ولا ولد ، مثل كل الرجال الذين يعرفهم ولن يكون له ذلك لأنه كان من الوضوح أن العمر قد ختم على ذلك ، لا بد وأنه يحس تلك الوحده الشديده كتلك التي تكشّفت له لدى كوكب وهي تبث شوقها لزوجها الراحل منذ وقت طويل وتعاتبه على خيانته لها حين تركها نهبا للوحده. ولكن كوكب تحس الإمتلاء من ناحية أخرى فهي لا تريد فراق ريحانه وأولادها إنهم من يشدّونها للحياة ويكسرون وحدتها ويجعلون حياتها ملاء بعد أن كادت تجف وتذوي من ناحية أخرى. فمن لجويدو إذن؟ من له فكّر الصبي!
لأول مرة يرى الصبي “جويدو” في ضوء جديد ، ضوء يشوبه التعاطف وربما الشفقه لرجل لم يكن يدري أنه لا يعرف عنه شيئاً حتى ذلك الصباح ، ولكنه الآن عرف أشياء حتى دون النطق ببنت شفه كما تمنّت له ريحانه. لقد فتحت كوكب في نفسه شيئاً جديداً ، شيئا أحس ثقله .. شيئا جديداً لم يعرفه من قبل. ربما كان من العسير له في تلك السن أن يدركه ، ولكن إحساس المسؤليه لم يكن بعيداً عما كان يحسّه ويجيش به صدره ، مسؤلية نحو لا أحد مسؤلية فحسب.
وصلوا منزلهم ، لبس على عجل وتناول إفطاره الّذي أعدّته ريحانه ، على عجل أيضاً ثم سار نحو مدرسته مهرولا أدرك طابور الصباح وقضى أربع ساعات كاملة كان فيها شارد العقل ساهما يحدّق في السبوره ولا يتفاعل مع المدرّس. بعدها اتجه لمنزلهم حيث يبقى لحين الفترة المسائية من الدراسة التي تبدأ من الساعة الثانية وحتى الخامسة. وفي بداية هذه الفترة كانت تنتظره مفجأة من مفاجآت ذلك اليوم وعلومه. لقد كان يوما حافلاً بكل ماتحمله الكلمة من معنى.
وصل للمدرسة وبالكاد أدرك طابور المساء ودخل الفصل وجلس إلي جانب زميله محسن ولاحظ أن هناك ملصق كبير على السبورة ، ربما كان خريطة جغرافية ، ويبدو أنها نفس تلك الخريطة التي كانت معلّقة على جدار من جدران مكتب المدرّس الأول ومدير المدرسة الأستاذ سليمان. سأل محسناً عمّن أتى بالخريطة فلم يكد يفتح فمه للإجابه حتي فتح الباب ودلف منه الأستاذ سليمان كالعاصفه وفي يده عصاه المعتادة النحيفة ، قصيرة كالتي يتأبطها الجنرالات العظام وبخلاف عصا الجنرال لم تكن عصا الأستاذ محاربه فهي لا تقع على يد أو ظهر طالب من الطلبة المشاغبين ولا ترهبهم قدر إرهاب هيبة الأستاذ نفسه . توجه الأستاذ نحو السبورة مباشرة وقد انقطع هدير الطلبه بمجرد دخوله. مباشرة أشار بعصاه نحو الملصق وقال هذه خريطة أفريقيا! ثم أخذ في تفسير معنى الخارطة وموقع الوطن فيها ثم أشار لركنها الشمالي الشرقي وقال هنا تقع مصر وأقصاها الشرقي الشمالي هو قناة السويس ثم أخذ في شرح معنى القناة وقناة السويس وأهميتها، ومصر هذه ، قال الأستاذ ، هي موطن الشيخ مصطفى الغرابي إمام مسجد العاصمة الأكبر ، فهي لهذا ولغيره أخت كبرى لوطننا ، كل تلك الكتب والقصص التي توزّع عليكم وتقرأونها وتستمتعون بذلك ، كتاب “أرنب في القمر ، “كنز الشمردل”، “دمنه وشتربه” وكل تلك الكتب التي توزع عليكم إنما جاءت من هناك دون كبير ثمن أو بلا ثمن أحياناً. تعرضت مصر هذا الصباح لغزو أسرائيلي -أنجليزي – فرنسي لأنها رفضت أن يكون ملاك آخرون لقناة السويس غيرها . ولكن مصر لم تنكفئ أو تهاب فهي منذ الصباح ترُدّ على حرب جنود المظلات. وبعد هذه المقدمة أخذ المعلم يشير بعصاه فتمشي على الخارطة ؛ هذه أسمرا ، نحن هنا عند هذه النقطة وهذه ، استمر الأستاذ بالإشارة بعصاه بحركة دائريه ، هذه هي إريتريا وهذا هو السودان ثم هذه مصر وتلك قناة السويس معقد الحرب وهدفها. ثم دخل الأمر للبحر الأبيض المتوسط وأوروبا وانجلترا التى كانت هنا قبل منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
بدأ رأس الصبي يدور وهو يدرك بوعي هذه المرة كيف أن العالم أكبر مما كان يعتقد. وفي الحقيقة فأن العالم ماانفك يتسع في أفقه منذ زمن طويل ولكنه لم يكن أبداً بنفس وتيرة تسارع دروس هذا اليوم العجيب. صحيح أنه كان يعرف أن هناك بلد اسمه السودان لأن جارتهم “مريم” كانت قد سافرت لذلك البلد للحاق بزوجها السوداني الذي كان يقيم بنفس حييهم منذ أن ترك الأنجليز البلاد وكان قدم إلى إريتريا عسكريا بجيشهم الذي انتصر على إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. ثم مصر … نعم كان يعرف أن هناك ذلك البلد لأن خاله إبراهيم وخاله الآخر إدريس يدرسان فيها منذ وقت طويل وهو لا يعرفهما إلا من صورهم وأحدهم كان بالزي الأزهري كاملاً ، نعم كان يعرف أن مصر موجودة ولكنه وجود يشبه وجود أمنا “الغوله” ولم تكتسب ذلك الوجود الحي إلا علي لسان المعلِّم الماهر. بل وحتى إيطاليا التى كبر وهو يرى مواطنيها المرفهين في أرقي أحياء المدينه وكبُر وهو يتمنى حياة أبناءهم الذين يتفجرون صحة وسعادة في ملابسهم النظيفه الأنيقة وشعورهم التى ينظمونها بطريقة جميله ودراجاتهم اللامعة الجميله ، وبريطانيا تلك التي كان يعرف أنها موجودة ولم يحس بها إلاّ اليوم حية تسعى في خياله على شرح الأستاذ في ذلك اليوم. كثيرون من الطلبه تململوا وملّوا حديث الأستاذ ، كيف لا وقد أتت على وقت الحصة والتي تليها فمضى وقت الحصة المسائيه الثانيه وآن وقت الإنصراف. كان من القلائل الذين لم يحسّوا مرور الوقت لتعلّقهم بما يقوله المعلّم وما يسوقه من معارف. لقد كان درس ذلك اليوم أكثر الدروس تشويقاً للصبي ، ذلك ليس لمحتوى ما تعلّمه بل لاحساسه المفاجيئ بالرجوله ، لماذا إذن كان على الأستاذ أن يروي تلك العلوم التي لا يخوض فيها كما يبدوا إلا الرجال. نعم كانت أحاديث الكبار تدور أحيانا عن بلدان تهاجم أخرى وتلك تدافع وأحاديث عن رجال عظماء يحرّكون الأشياء الكبيرة دون أن يتحرّكوا هم أنفسهم. كانو كثيراً ما يتحدّثون عن إيطاليا “والدّوتشي” وهم يقصدون موسوليني زعيم الفاشيه في إيطاليا يوم كان لتلك الحركة السؤدد في إيطاليا ، كانوا يتحدثون عن حرب ليبيا التي شارك الكثيرون منهم فيها حين لم يكن لهم مورد رزق إلا التّعسكر في جيش روما القوية. نعم حديث اليوم لا يشبه حديث الأمس ولكن اليوم يشبه الأمس كثيراً ، لقد قدّم المعلّم لهم كل ما كان يحكيه أبائهم وأجدادهم من قصص ما مضى حاضراً أمام عيون عقولهم وفهمها الصبي في ضوء جديد لعالم جديد …. لقد كان نصراً مؤزّراً وخاتمة ليوم مليئ بالدروس.
ولكن الخاتمة لدروس ذلك اليوم لم تكن! خرج من بوابة المدرسة مع صديقه محسن الذي صرّح له ما كان يحس به من ملل وكيف أنه أمضى يغالب النوم أثناء شرح الأستاذ الوقت كله. كان محسن من أب يمني وأم إريتريه لكنه يعيش مع جدّه لأمه ، موسى ، الذي تكفل بتربيته بعد أن هجر والده أسرته الصغيرة في وقت مبكر من حياة محسن واختفى في مجاهل الحبشه ولم يسمع به أحد بعدها. كان جدّ محسن غاية في الرفق به ، مسرفاً في ذلك ساعده فيه أنه كان أكثر من “ميسور الحال”، دارة كبيرة بغرف كثيره يزين المدخل الذي يؤدي لها تعريشه من سيقان وأوراق نبات العنب، والجد هو ثاني إثنين في الحي كله ممن يمتلكون سيارة خاصة تنتقل بهم من أعمالهم لمقر إقاماتهم وبالعكس. وبالرغم من التفاوت الكبير في تعلق كل منهم بالمدرسة وما يدور في المدرسة فإنهما كانا أقرب صديقين وكثيراً ما تراهم سوية في شوارع الحي أو في منزل أحدهما. ولكن أمين كان يبدو عليه الإرهاق هذا اليوم وهو يستعجل الوصول للبيت حتي ينال قسطاً من الراحة ويدير في رأسه كلما رآه وسمعه في ذلك اليوم. ولاستعجاله اقترح على محسن أن يأخذا طريقاً أقصر لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المرور في ذلك الشارع الضيق وهو طريق سيئ السمعة ومحل حنق اهالي الحي وتبرّمهم لاحتواءه على اثنين من البيوت التي تبيع “المريسا” المسكِره لروّادها القادمين من الريف لبيع منتجاتهم ، مع انغام موسيقى “الكرار” التي تشبه العود في مظهرها واستعمالها ، وكان لمثل هذه البيوت تواجد أكبر في الأحياء الأخرى والذي جعل الأقتصار على بيتين فقط هو أن الحي تسكنه غالبيه من المسلمين ، فكانت الإداره الأنجليزيه وقبلها الأيطاليه لا تشجّع على انشاء مثل هذه البيوت مجاملة لسكانه. وكان كل بيت من هذه البيوت ملزم قانونا ، وهي أماكن مصرح بها وتحميها الحكومة طالما اتبعت اللوائح ودفعت مقرراتها ، كان ملزما بتعليق علم أحمر في مكان ظاهر أعلى باب الدخول بالإضافه لقائم أو وتد بطول متر تقريبا شيئا شبيها بالعصا يوضع مقلوباً عليه قدح أبيض يعرف بالمنليك وعليه صورة مطبوعة للإمبراطور منليك الذي عاش وحكم الحبشه قبل مائة عام. وهذا القدح هو وحدة بيع المريسا في طول البلاد وعرضها كما أنه وحدة بيع الحبوب الغذائيه في نفس الطول والعرض.
عند وصول الولدين لجزء من ذلك الطريق الذي يقابل حانة من الحانتين خرجت من الباب سيدتان إحداهما يبدو عليها- من ملابسها وغطاء الرأس “الرشوان” وعليه “النطلا” وهي غلالة تستعملها السيدات نفس استعمال “الملاية اللف المصريه” تقريبا -أنها مسلمه ، سيدة طويله يبدو عليها الجمال والأناقه طويله ببشرة سمراء لامعه تميل للنحوله ، والأخرى – المسيحيه – أقل منها طولاً ببشرة فاتحة وعلى جبهتها وسم لصليب أزرق كبير يشبه ذلك الوشم الصغير الذي يبدو على معاصم بعض الأقباط المصريين. وبمجرد اقتراب السيدتين في اتجاههما المعاكس من الولدين حتى لاحظ أن السيدة الطويله صاحبة “الرشوان” ترشقه بنظرات ثابته ثم أنه عند اقتراب الصديقين من خط سيرهما لم يحس إلا وأن السيدة الطويله تقبض علي يديه ثم تطبق عليه وهي تدعوه باسمه وتوسعه قبلات في جبهته وعلى عينيه ورقبته فحاول التملص من قبضتها وصديقه يضحك ويصفق ولكنها كانت أقوى وأشد منه فلم يجد لنفسه فكاكا إلاّ حين أطلقته هي بنفسها وعندما جرى منها صارت تضحك ثم قالت له بصوت لابد وأن كل الحارة قد سمعته: ” قل لذلك الفرعون ، أبيك ، أن جدّتك زينب قد أخذت منك قبلات تكفيها لثلاثين سنة قادمة”، وهكذا كان فهو لم ير هذه المرأة إلا بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما أو ربما أكثر قليلا .
ظل عطر السيدة في خياشيمه طوال الرحلة من ذلك الشرك وحتى وصول الولدين إلي منزليهما المتقابلين. وقبل أن يفترقا قال محسن موجها حديثه لصديقه: “ألن تخبرني من هي هذه السيده العجيبه المسلمه التي تخرج من باب خمّارة مع صديقة مسيحيه ، لا بد أن تكون على علم بها” ولكن أمين أكّد له أنه لا يعرفها وعندما سأله أن يقسم على ذلك تلكّأ ثم قال له دعني أسأل وأتأكد من “ريحانه”
لم يكن أمين يبحث عمّن يقول له من تكون تلك السيده فهي قد قالتها: “زينب!” وحتى لو كانت كتمت وأنكرت ولم تقل من هي لم يكن ليحتاج من يقول له من هي. فمن بالله يمكن أن تكون تلك التي تملك الشجاعة ليس في الدخول للخمّارة فحسب ولكن في الخروج منها في وضح النهار أيضا غير “زينب”! وبرفقة أمرأة مسيحيه! لقد كسرت هذه المرأه كل الأعراف. ثم خطر بباله أنها ربما كانت ثمله ولكنه تراجع وهو يتذكر رائحتها الذكيه وعطرها الفوّاح. لا لم تكن ثملة هذه المرة ولكن لكثرة ما استرقت واقتطفت أذناه من كلمات تخرج من افواه الكبار تشيطن زينب وتنال منها فإنه بناء على ذلك وصل لنتيجة مؤداها أن المرأة وإن لم تكن ثملة هذه المرّه فلا بد أنها كانت ثملة ذات مرة وستفعلها ثانية .
لم يأخذ ذلك وقتاً طويلاً فسرعان ما أصبح جويدو ومنشأته بمحاذاتهم، وأخذ بتوجيه الحديث نحو ريحانه ، يسألها ، إن كانت لا تريد أن يقرأ لها كفها (وهذه كانت حرفة إضافية للخواجه جويدو) مقابل مبلغ ضئيل ، ولكنها لم تجبه بل أجفلت فأسرعت الخطا مبتعدة وهي تحض ابنها على الإسراع. ولكن عيون الفتى كانتا لا تتحولان عن جويدو كأنه يراه لأول مرة فما كان من الأم إلا أن عادت بضع خطوات وأخذت بيده وسحبته بشئ قليل من العنف تحضه به على الحركة والإبتعاد. ولكنه حتى عند ما أخذ في السير بمحاذاة أمه لم يتوقف عن التفكير والتفكر في “جويدو” وكأنه لم يره أويسمع به من قبل. ولكن الحقيقة كانت أنه كان يعرف جويدو حق المعرفه ويعرف ، بل ، وينهمك أحياناً فيأخذ له دوراً ، في تلك القصص التي يتبادلها الصبيان حول جويدو وعن طريقة تناوله الطعام تلك التي تدلّ على النهم وفراغ العين كما يقولون ، ولكنّ الصبي هذا الصباح كان في مزاج بعيد كل البعد عن كل هذا ، راغب عن البحث عن الأشياء المألوفه المرحة المريحه ، كأن تجربته عند كوكب هذا الصباح قد هزّته وجعلته يفيق ويبحث عن أشياء غير مألوفة لا يدري ماهي ، كيف لم يتصور قبلاً اختلاف جويدو عن كل من يعرفهم؟ جويدو الذي لا زوجة له ولا ولد ، مثل كل الرجال الذين يعرفهم ولن يكون له ذلك لأنه كان من الوضوح أن العمر قد ختم على ذلك ، لا بد وأنه يحس تلك الوحده الشديده كتلك التي تكشّفت له لدى كوكب وهي تبث شوقها لزوجها الراحل منذ وقت طويل وتعاتبه على خيانته لها حين تركها نهبا للوحده. ولكن كوكب تحس الإمتلاء من ناحية أخرى فهي لا تريد فراق ريحانه وأولادها إنهم من يشدّونها للحياة ويكسرون وحدتها ويجعلون حياتها ملاء بعد أن كادت تجف وتذوي من ناحية أخرى. فمن لجويدو إذن؟ من له فكّر الصبي!
لأول مرة يرى الصبي “جويدو” في ضوء جديد ، ضوء يشوبه التعاطف وربما الشفقه لرجل لم يكن يدري أنه لا يعرف عنه شيئاً حتى ذلك الصباح ، ولكنه الآن عرف أشياء حتى دون النطق ببنت شفه كما تمنّت له ريحانه. لقد فتحت كوكب في نفسه شيئاً جديداً ، شيئا أحس ثقله .. شيئا جديداً لم يعرفه من قبل. ربما كان من العسير له في تلك السن أن يدركه ، ولكن إحساس المسؤليه لم يكن بعيداً عما كان يحسّه ويجيش به صدره ، مسؤلية نحو لا أحد مسؤلية فحسب.
وصلوا منزلهم ، لبس على عجل وتناول إفطاره الّذي أعدّته ريحانه ، على عجل أيضاً ثم سار نحو مدرسته مهرولا أدرك طابور الصباح وقضى أربع ساعات كاملة كان فيها شارد العقل ساهما يحدّق في السبوره ولا يتفاعل مع المدرّس. بعدها اتجه لمنزلهم حيث يبقى لحين الفترة المسائية من الدراسة التي تبدأ من الساعة الثانية وحتى الخامسة. وفي بداية هذه الفترة كانت تنتظره مفجأة من مفاجآت ذلك اليوم وعلومه. لقد كان يوما حافلاً بكل ماتحمله الكلمة من معنى.
وصل للمدرسة وبالكاد أدرك طابور المساء ودخل الفصل وجلس إلي جانب زميله محسن ولاحظ أن هناك ملصق كبير على السبورة ، ربما كان خريطة جغرافية ، ويبدو أنها نفس تلك الخريطة التي كانت معلّقة على جدار من جدران مكتب المدرّس الأول ومدير المدرسة الأستاذ سليمان. سأل محسناً عمّن أتى بالخريطة فلم يكد يفتح فمه للإجابه حتي فتح الباب ودلف منه الأستاذ سليمان كالعاصفه وفي يده عصاه المعتادة النحيفة ، قصيرة كالتي يتأبطها الجنرالات العظام وبخلاف عصا الجنرال لم تكن عصا الأستاذ محاربه فهي لا تقع على يد أو ظهر طالب من الطلبة المشاغبين ولا ترهبهم قدر إرهاب هيبة الأستاذ نفسه . توجه الأستاذ نحو السبورة مباشرة وقد انقطع هدير الطلبه بمجرد دخوله. مباشرة أشار بعصاه نحو الملصق وقال هذه خريطة أفريقيا! ثم أخذ في تفسير معنى الخارطة وموقع الوطن فيها ثم أشار لركنها الشمالي الشرقي وقال هنا تقع مصر وأقصاها الشرقي الشمالي هو قناة السويس ثم أخذ في شرح معنى القناة وقناة السويس وأهميتها، ومصر هذه ، قال الأستاذ ، هي موطن الشيخ مصطفى الغرابي إمام مسجد العاصمة الأكبر ، فهي لهذا ولغيره أخت كبرى لوطننا ، كل تلك الكتب والقصص التي توزّع عليكم وتقرأونها وتستمتعون بذلك ، كتاب “أرنب في القمر ، “كنز الشمردل”، “دمنه وشتربه” وكل تلك الكتب التي توزع عليكم إنما جاءت من هناك دون كبير ثمن أو بلا ثمن أحياناً. تعرضت مصر هذا الصباح لغزو أسرائيلي -أنجليزي – فرنسي لأنها رفضت أن يكون ملاك آخرون لقناة السويس غيرها . ولكن مصر لم تنكفئ أو تهاب فهي منذ الصباح ترُدّ على حرب جنود المظلات. وبعد هذه المقدمة أخذ المعلم يشير بعصاه فتمشي على الخارطة ؛ هذه أسمرا ، نحن هنا عند هذه النقطة وهذه ، استمر الأستاذ بالإشارة بعصاه بحركة دائريه ، هذه هي إريتريا وهذا هو السودان ثم هذه مصر وتلك قناة السويس معقد الحرب وهدفها. ثم دخل الأمر للبحر الأبيض المتوسط وأوروبا وانجلترا التى كانت هنا قبل منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
بدأ رأس الصبي يدور وهو يدرك بوعي هذه المرة كيف أن العالم أكبر مما كان يعتقد. وفي الحقيقة فأن العالم ماانفك يتسع في أفقه منذ زمن طويل ولكنه لم يكن أبداً بنفس وتيرة تسارع دروس هذا اليوم العجيب. صحيح أنه كان يعرف أن هناك بلد اسمه السودان لأن جارتهم “مريم” كانت قد سافرت لذلك البلد للحاق بزوجها السوداني الذي كان يقيم بنفس حييهم منذ أن ترك الأنجليز البلاد وكان قدم إلى إريتريا عسكريا بجيشهم الذي انتصر على إيطاليا في الحرب العالمية الثانية. ثم مصر … نعم كان يعرف أن هناك ذلك البلد لأن خاله إبراهيم وخاله الآخر إدريس يدرسان فيها منذ وقت طويل وهو لا يعرفهما إلا من صورهم وأحدهم كان بالزي الأزهري كاملاً ، نعم كان يعرف أن مصر موجودة ولكنه وجود يشبه وجود أمنا “الغوله” ولم تكتسب ذلك الوجود الحي إلا علي لسان المعلِّم الماهر. بل وحتى إيطاليا التى كبر وهو يرى مواطنيها المرفهين في أرقي أحياء المدينه وكبُر وهو يتمنى حياة أبناءهم الذين يتفجرون صحة وسعادة في ملابسهم النظيفه الأنيقة وشعورهم التى ينظمونها بطريقة جميله ودراجاتهم اللامعة الجميله ، وبريطانيا تلك التي كان يعرف أنها موجودة ولم يحس بها إلاّ اليوم حية تسعى في خياله على شرح الأستاذ في ذلك اليوم. كثيرون من الطلبه تململوا وملّوا حديث الأستاذ ، كيف لا وقد أتت على وقت الحصة والتي تليها فمضى وقت الحصة المسائيه الثانيه وآن وقت الإنصراف. كان من القلائل الذين لم يحسّوا مرور الوقت لتعلّقهم بما يقوله المعلّم وما يسوقه من معارف. لقد كان درس ذلك اليوم أكثر الدروس تشويقاً للصبي ، ذلك ليس لمحتوى ما تعلّمه بل لاحساسه المفاجيئ بالرجوله ، لماذا إذن كان على الأستاذ أن يروي تلك العلوم التي لا يخوض فيها كما يبدوا إلا الرجال. نعم كانت أحاديث الكبار تدور أحيانا عن بلدان تهاجم أخرى وتلك تدافع وأحاديث عن رجال عظماء يحرّكون الأشياء الكبيرة دون أن يتحرّكوا هم أنفسهم. كانو كثيراً ما يتحدّثون عن إيطاليا “والدّوتشي” وهم يقصدون موسوليني زعيم الفاشيه في إيطاليا يوم كان لتلك الحركة السؤدد في إيطاليا ، كانوا يتحدثون عن حرب ليبيا التي شارك الكثيرون منهم فيها حين لم يكن لهم مورد رزق إلا التّعسكر في جيش روما القوية. نعم حديث اليوم لا يشبه حديث الأمس ولكن اليوم يشبه الأمس كثيراً ، لقد قدّم المعلّم لهم كل ما كان يحكيه أبائهم وأجدادهم من قصص ما مضى حاضراً أمام عيون عقولهم وفهمها الصبي في ضوء جديد لعالم جديد …. لقد كان نصراً مؤزّراً وخاتمة ليوم مليئ بالدروس.
ولكن الخاتمة لدروس ذلك اليوم لم تكن! خرج من بوابة المدرسة مع صديقه محسن الذي صرّح له ما كان يحس به من ملل وكيف أنه أمضى يغالب النوم أثناء شرح الأستاذ الوقت كله. كان محسن من أب يمني وأم إريتريه لكنه يعيش مع جدّه لأمه ، موسى ، الذي تكفل بتربيته بعد أن هجر والده أسرته الصغيرة في وقت مبكر من حياة محسن واختفى في مجاهل الحبشه ولم يسمع به أحد بعدها. كان جدّ محسن غاية في الرفق به ، مسرفاً في ذلك ساعده فيه أنه كان أكثر من “ميسور الحال”، دارة كبيرة بغرف كثيره يزين المدخل الذي يؤدي لها تعريشه من سيقان وأوراق نبات العنب، والجد هو ثاني إثنين في الحي كله ممن يمتلكون سيارة خاصة تنتقل بهم من أعمالهم لمقر إقاماتهم وبالعكس. وبالرغم من التفاوت الكبير في تعلق كل منهم بالمدرسة وما يدور في المدرسة فإنهما كانا أقرب صديقين وكثيراً ما تراهم سوية في شوارع الحي أو في منزل أحدهما. ولكن أمين كان يبدو عليه الإرهاق هذا اليوم وهو يستعجل الوصول للبيت حتي ينال قسطاً من الراحة ويدير في رأسه كلما رآه وسمعه في ذلك اليوم. ولاستعجاله اقترح على محسن أن يأخذا طريقاً أقصر لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المرور في ذلك الشارع الضيق وهو طريق سيئ السمعة ومحل حنق اهالي الحي وتبرّمهم لاحتواءه على اثنين من البيوت التي تبيع “المريسا” المسكِره لروّادها القادمين من الريف لبيع منتجاتهم ، مع انغام موسيقى “الكرار” التي تشبه العود في مظهرها واستعمالها ، وكان لمثل هذه البيوت تواجد أكبر في الأحياء الأخرى والذي جعل الأقتصار على بيتين فقط هو أن الحي تسكنه غالبيه من المسلمين ، فكانت الإداره الأنجليزيه وقبلها الأيطاليه لا تشجّع على انشاء مثل هذه البيوت مجاملة لسكانه. وكان كل بيت من هذه البيوت ملزم قانونا ، وهي أماكن مصرح بها وتحميها الحكومة طالما اتبعت اللوائح ودفعت مقرراتها ، كان ملزما بتعليق علم أحمر في مكان ظاهر أعلى باب الدخول بالإضافه لقائم أو وتد بطول متر تقريبا شيئا شبيها بالعصا يوضع مقلوباً عليه قدح أبيض يعرف بالمنليك وعليه صورة مطبوعة للإمبراطور منليك الذي عاش وحكم الحبشه قبل مائة عام. وهذا القدح هو وحدة بيع المريسا في طول البلاد وعرضها كما أنه وحدة بيع الحبوب الغذائيه في نفس الطول والعرض.
عند وصول الولدين لجزء من ذلك الطريق الذي يقابل حانة من الحانتين خرجت من الباب سيدتان إحداهما يبدو عليها- من ملابسها وغطاء الرأس “الرشوان” وعليه “النطلا” وهي غلالة تستعملها السيدات نفس استعمال “الملاية اللف المصريه” تقريبا -أنها مسلمه ، سيدة طويله يبدو عليها الجمال والأناقه طويله ببشرة سمراء لامعه تميل للنحوله ، والأخرى – المسيحيه – أقل منها طولاً ببشرة فاتحة وعلى جبهتها وسم لصليب أزرق كبير يشبه ذلك الوشم الصغير الذي يبدو على معاصم بعض الأقباط المصريين. وبمجرد اقتراب السيدتين في اتجاههما المعاكس من الولدين حتى لاحظ أن السيدة الطويله صاحبة “الرشوان” ترشقه بنظرات ثابته ثم أنه عند اقتراب الصديقين من خط سيرهما لم يحس إلا وأن السيدة الطويله تقبض علي يديه ثم تطبق عليه وهي تدعوه باسمه وتوسعه قبلات في جبهته وعلى عينيه ورقبته فحاول التملص من قبضتها وصديقه يضحك ويصفق ولكنها كانت أقوى وأشد منه فلم يجد لنفسه فكاكا إلاّ حين أطلقته هي بنفسها وعندما جرى منها صارت تضحك ثم قالت له بصوت لابد وأن كل الحارة قد سمعته: ” قل لذلك الفرعون ، أبيك ، أن جدّتك زينب قد أخذت منك قبلات تكفيها لثلاثين سنة قادمة”، وهكذا كان فهو لم ير هذه المرأة إلا بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما أو ربما أكثر قليلا .
ظل عطر السيدة في خياشيمه طوال الرحلة من ذلك الشرك وحتى وصول الولدين إلي منزليهما المتقابلين. وقبل أن يفترقا قال محسن موجها حديثه لصديقه: “ألن تخبرني من هي هذه السيده العجيبه المسلمه التي تخرج من باب خمّارة مع صديقة مسيحيه ، لا بد أن تكون على علم بها” ولكن أمين أكّد له أنه لا يعرفها وعندما سأله أن يقسم على ذلك تلكّأ ثم قال له دعني أسأل وأتأكد من “ريحانه”
لم يكن أمين يبحث عمّن يقول له من تكون تلك السيده فهي قد قالتها: “زينب!” وحتى لو كانت كتمت وأنكرت ولم تقل من هي لم يكن ليحتاج من يقول له من هي. فمن بالله يمكن أن تكون تلك التي تملك الشجاعة ليس في الدخول للخمّارة فحسب ولكن في الخروج منها في وضح النهار أيضا غير “زينب”! وبرفقة أمرأة مسيحيه! لقد كسرت هذه المرأه كل الأعراف. ثم خطر بباله أنها ربما كانت ثمله ولكنه تراجع وهو يتذكر رائحتها الذكيه وعطرها الفوّاح. لا لم تكن ثملة هذه المرة ولكن لكثرة ما استرقت واقتطفت أذناه من كلمات تخرج من افواه الكبار تشيطن زينب وتنال منها فإنه بناء على ذلك وصل لنتيجة مؤداها أن المرأة وإن لم تكن ثملة هذه المرّه فلا بد أنها كانت ثملة ذات مرة وستفعلها ثانية .