مقالات سياسية

وهل كان (محجوبا) يساريا..؟!

حكايةالحوار "المستحيل".. عشية ضرب مصنع الشفاء..!

يرويها/ هاشم عبد الفتاح

إلى وقت قريب ، كنت أحتفظ بنسخة من حوار صحفي نادر كنت قد اجريته على (حلقتين) ، مع الراحل ،مربي الأجيال ..وعميد الصحافة السودانية الأستاذ/ محجوب محمد صالح ،الصحفي (المعتق) وكانت هذه العبارة قد أطلقها عليه الأستاذ/ الصحفي حيدر المكاشفي احتفاءا بالحوار وتعليقا على ما جاء فيه من إفادات جريئة ومهمة.

تم إجراء هذا الحوار في (باحة) منزل الراحل محجوب محمد صالح بضاحية شمبات بالخرطوم بحري عشية ضرب مصنع الشفاء ببحري في العشرين من أغسطس 1998 حيث كانت عقارب الساعة تشير إلى السابعة والربع حينما سمع سكان منطقة بحري والمناطق المجاورة لها (مفزوعين) بسبب صوت إنفجار قوي مصحوب بشعاع احمر كثيف في الأفق كاد أن يغطي المنطقة بكاملها.

وما هى الحكاية إذن..؟
نعود إلى قصة هذه المقابلة الصحفية وقبل الولوج إلى تفاصيلها وما حملته ثناياها من حقائق ومعلومات وافادات وأقول بأني كنت قد التحقت بصحيفة (أخبار الساعة) تقريباً في منتصف العام 1998 وبتوصية وتذكية من أخونا واستاذنا عمر إسماعيل عبد الصادق (ربنا يطراه بالخير ويمتعه بالصحة والعافية).

فكنت رئيسا لقسم الاخبار مع مجموعة من الزملاء اذكر منهم الأخ والصديق المهاجر محمد عثمان (حبة) وانعام عقارب والصحفية المهاجرة منى ابو زيد وعصام حميدان وغيرهم وكان الأستاذ محمد لطيف يرأس تحرير الصحيفة، وكنت قد طرحت عليه وقتها فكرة إجراء حوار صحفي مع الأستاذ محجوب محمد صالح لعدة أسباب ودواع ذكرتها له في حينها ، فكان رده وبطريقته الساخرة المعهودة : (طبعا مستحيل)..
فقلت: لماذا وما المانع ؟
فقال: إذا كان هو رفض العديد من المحاولات ومن كبريات الصحف والقنوات مثل الشرق الأوسط والحياة اللندنية وغيرها لإجراء حوار صحفي معه ..فهل تتوقع أن يقبل (محجوب) أن تحاوره صحيفة (تافهة) كأخبار الساعة ؟
.. عموماً وحتى لا نحبطك..
امشي حاول..لكن بالضرورة خلي (وائل) ده يكون دليلك ومرشدك عشان يرتب ليك المقابلة ..طبعا (وائل) الذي أشار إليه الأستاذ محمد لطيف ،هو وائل محجوب محمد صالح كان هو أيضا والاخ مصطفى سري في بدايات مشروعهم الصحفي في (أخبار الساعة) .
عموما نضجت فكرة الحوار..
وربما أن الصحفيين يؤمنون بنظرية (الممنوع مرغوب)..
ولهذا كنت حريصاً على إجراء هذا الحوار،ويقيني في ذلك أن الأستاذ محجوب محمد صالح شخصية (مفصلية) ومهمة في تاريخ الصحافة السودانية وله فيها إرث وتجارب ونضالات بمثل ما له سهم ودور في تاريخ الحركة الوطنية كما أنه نال من شرف الصحافة السودانية الكثير من النجاحات والجوائز والتجارب ،وبالطبع الرجل كان من الرعيل الأول ومن اؤليك الذين ارسوا واسسوا دعائم وركائز الصحافة السودانية وصاغوا تاريخها ونضالاتها طيلة حقب الحكم الوطني في السودان كما تشير إلى ذلك سيرته المهنية ..
ملامح شخصية ..!

ولكن يبدو واضحاً أن (محجوبا) كان يتخذ لنفسه موقفاً فيه الكثير من (العصامية) ،ونأى بنفسه بعيدا من المشاريع السياسية أو الصحفية طيلة فترة العقد الأول من عمر النظام القديم.

واعتقد أن كل هذه التجارب الممتدة والمواقف هى التي شكلت ملامح شخصية الأستاذ الراحل محجوب محمد صالح ولهذا فهى التي دفعتني وشجعتني لإجراء هذه المقابلة الصحفية معه خصوصا أن الرجل وكما أشرنا آنفا ظل بعيدا عن (الميديا)وعن دائرة الضؤ رغم تجاربه التاريخية الثرة في بلاط صاحبة الجلالة.

ولكن كيف تم إجراء الحوار..؟
بالتأكيد بدأت مشوار البحث عن هذا الحوار بإعمال (وصية) الأستاذ محمد لطيف بأن استعين بالاخ والصديق وائل محجوب باعتباره هو مدخلي الأساسي للاستاذ محجوب.. فذهبنا سويا في اليوم التالي إلى مكتب الأستاذ محجوب بعمارة أبو العيلا بشارع الجمهورية فقابلته وعرفته بنفسي فالرجل أكرمني ورحب بي كثيراً خصوصا حينما أبلغته بأن صحفي وباحث في تاريخ الصحافة السودانية وإني كذلك اطلعت وقراءت كثيراً في أحد مؤلفاتك وهو ( كتاب الصحافة السودانية في نصف قرن) باعتباره أحد أبرز الكتب والمراجع المعتمدة والتي تدرس لمعظم طلاب الصحافة والإعلام بالجامعات السودانية.

وابلغته كذلك بأني شديد الرغبة لإجراء حوار صحفي معك لأهميته .
أولا: بالنسبة لي على الصعيد الشخصي.
وثانيا: لأهميته للصحيفة التي أعمل بها فهى صحيفة وليدة وتحتاج إلى حوارات مميزة ومع شخصيات بارزة ومهمة وذات تاريخ وتجارب في الشأن العام .
ربما يبدو أن طلب الحوار كان مفاجئا له ..فصمت (برهة) ثم أجاب: (مبدئياً ) لا مانع.. بس ما الآن.. خلينا نشوف الأسبوع القادم وممكن تجي مع وائل) .

كانت هذه الإجابة (مريحة) بعض الشئ بالنسبة لي .. خصوصاً حينما اتذكر العبارة (المحبطة) من الأستاذ محمد لطيف حيث كان يعتقد (استحالة) إجراء هذا الحوار ..فخرجت من مكتبه بشئ من الاطمئنان والارتياح على أمل العودة الأسبوع القادم .
واذكر أنه حينما عدت إلى مقر الصحيفة قابلني الأستاذ محمد لطيف عند الباب ..عاجلني بسؤال مباغت : (اها إنشاء الله عملت الحوار؟)
قلت : الأسبوع القادم إنشاء الله
فرد على بعبارة أخرى أكثر احباطا: (أنت بتحلم )
بعد أسبوع..ذهبت وللمرة الثانية للاستاذ محجوب في مكتبه ومعي أيضا الأستاذ وائل وجددت له الرغبة في اجراء الحوار ..فكانت إجابته أيضا بذات العبارات التي قالها أولا.
وعندما عدت إليه للمرة الثالثة.. ولكن يبدو أنه احترم (إلحاحي) الشديد ورغبتي الأكيدة والجادة من أجل إجراء هذا الحوار..
فكان رده :(أعتقد الأفضل نجري الحوار في البيت).
فقلت : لا مانع لدي..
قال: خلاص تعال مع وائل بكرة بعد العصر..
فأجبته (بحزم) : جدا يا استاذ ..

فخرجت فرحا ومسرعا وكأني أجريت الحوار ..وذهبت إلى مقر الصحيفة..وكنت أتحاشى مقابلة أستاذ (لطيف).. هكذا كنا نتعامل معه .
..دخلت صالة التحرير.. وبدأت بجد واجتهاد في صياغة وترتيب أكبر قدر من الأسئلة والمحاور .. وتجهيز (عدة الشغل)..من مسجل وأشرطة وحجارة بطارية ..ذهبت في اليوم التالي برفقة الأخ وائل في الموعد المحدد ..وقابلت الأستاذ محجوب يجلس على كرسي (خشبي) داخل حديقة منزلية صغيرة وبجواره كرسي (فارغ) آخر يشئ إلى أن هنالك ضيفا قادم ..

وبدأ الحوار..!
يبدو أن الأستاذ محجوب كان مهيأ تماما لمقابلتنا.. بدأنا الحوار بالضغط على مشغل جهاز التسجيل وطرح السؤال (المفتاحي) أو الاستهلالي .. ويبدو أن مزاج الرجل كان رايقا ومنفتحا طرحنا عليه العديد من الأسئلة بلا أدنى تحفظ.. أو تردد
فكانت إجاباته بكل وضوح وشفافية ..تحدث كثيراً عن دور الصحافة السودانية ومسيرتها إبان الحركة الوطنية وعن رموزها وقياداتها .. وعلاقتها بالأنظمة السياسية والعسكرية..وكيف أنها واجهت تلك الأنظمة ..
وتحدث كذلك عن قرار (تأميم الصحف) في فترة حكومة جعفر نميري..وعن تجربة صحيفة الأيام ومؤسسيها الأوائل..(صحيفة المحجوبين)
واذكر جيدا حينما طرحنا عليه سؤالاً حول علاقته بالحزب الشيوعي..واتهام البعض له بالانتماء للحزب الشيوعي..
فكانت إجابته بهذا الوضوح والشفافية : ( يا ابني.. صحيح انا يساري ولكن لا علاقة لى بالحزب الشيوعي ..)
ومن الأشياء الغريبة في هذا الحوار .. أنه وأثناء انسجامنا في طرح الأسئلة ورصد الاجابات عبر (جهاز التسجيل) ،فوجئنا بصوت طائرات أو ربما صاروخ أعقبه إنفجار مصحوب بحزمة اشعاع أحمر كثيف يغطي الأفق الأمر الذي جعلنا (نقطع الحوار) ونهرول إلى داخل الصالون تاركين خلفنا كل ما كان على التربيزة من أوراق وأقلام وجهاز تسجيل وكنا نظن أن هذا الإنفجار في محطة كهرباء منطقة بحري ..
ويبدو أن جهاز التسجيل التقط كل الأصوات ..وكما ذكرنا آنفا أن الساعة كانت تشير إلى السابعة والربع عند سماع هذا الانفجار
وفي اليوم التالي وحينما كان الناس بما في ذلك الحكومة نفسها (يتجادلون) ..هل ضربت امريكا مصنع الشفاء بطائرات.. أم بصواريخ ..؟ كنا نحن في صحيفة أخبار الساعة قد خرجنا للناس..وبخط رئيسي في الصفحة الولى (مانشيت) : أن أخبار الساعة تملك (وثيقة صوتية) تؤكد أن ضرب مصنع الشفاء تم بصاروخ..!
(كان لابد لهذه الرواية أن تكتب بمناسبة تأبين عميد الصحافة السودانية)..

[email protected]

‫3 تعليقات

  1. ياهاشم العنوان الصحيح ( هل كان محجوب يساريا بتنوين الباء مضموما ) نعم كان يساريا كنت اتمتع برؤته كلمامررت بمقر صحيفة الايام عندماكانت بالخرطوم 2 وقابلت رفيق بشيرمحمد سعيد الله نسيت اسمه رحمة الله عليهما وذلك برفقة الاستآذ الجليل عبدالله ادم خاطر الله يطرآه بالخير .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..