مقالات وآراء

رواية شِيكا لتاجوج حامد .. جموح الخيال وروعة الحبكة

إبراهيم سليمان

محاولة نقدية

• لغة  السرد
لغة الرواية لغة عربية فصحى ، باذخة المفردة ، والحوارات بين شخوصها سلسة ، وعلى درجة عالية من الندية. لغة السرد على مستويين ، في الغالب على لسان المتحدث العليم ، وأحياناً على لسان شخوص الرواية ، دون اختلال التماسك أو ربكة في البنية.
• الجمال الوصفي
التوصيفات الفنية تدل على أن الكاتبة غزيرة الثقافة ، واسعة الاطلاع ، طرح الرواية يبدو لبرالي إلى حدٍ ما ، والمفردة المستخدمة تدل على أنّ الكاتبة تمتلك ناصية اللغة العربية ، ومن أمثلة إبداعها الوصفي حيث رسمت لوحة جمالية لإحدى نزيلات السجن وهي تريزا دينق حيث قالت:
“مما دفع عبد الحي إلى ابتلاع ريقه بشهوانيّةٍ مفضوحة، مُحاولاً التماسك عبثاً أمام امرأةٍ تحمل على جسدها الفراديس ، ويبلغ طولها مائةً وسبعين ليس سنتمتراً وإنما جمالٌ مجنون ، وصفها في رأسه بلوح شوكولاتةٍ بانحناءاتٍ جهنمية وعيون دعجاء تتسق تماماً وذاك الجِلد الحريري الأسود والشعر المحلوق حِلاقةً صبيانية تُتيح لعنقها الطويل فرصة معانقة الحياة.”
كما تجلّت الكاتبة إبداعيا حين وصفت على لسان شهرزاد توقف عقارب الساعة بموت البطلة “حنين”:
” ما يزال الزمن يتلكأ ويماطلُ ويستطيل ، وما يزال العالَم يصحو ويلهثُ وينام ، يمارس طقوسه التي جُبِل عليها منذ بضعة مليارات من السنين ، دون أن يعترض أو يتذمّر أو يَكِلّ ، يعملُ كالحِمارِ بآليةٍ مدهِشة ، ويتجاهل كل هذا الخراب الذي لم تستطع أن تتجاهله حنين.”
• الهيئة  البنيوية
البداية الفعلية للرواية من حادث مقتل البطلة “حنين”، وانتهت بإنهاء توجيه الاتهام للقاتل المحتمل ، تيفور مكي، ومعرفة دوافع الجريمة “تخمينياً”. أي أن الرواية بدأت من القمة ، في منحدر حاد ، نجح المحقق الشاب عبد الحي ، في السيطرة على مجرياته بصعوبة ، تورط خلالها في علاقة عاطفية مع أحدى نزيلات السجن ، أثمرت تكوين عائلة.
• تناقضات شخصية البطلة  “حنين” وتفاسير مقتلها
تقول شهرزاد عن صديقتها القتيلة “حنين”:
“آه لقد أحب الجميع حنين ، مساجينَ وحرّاساً ، فقد اهتمّت لأمرنا كلنا”
وتقول عنها زعيمة السجن سعيدة ، والتي لم تطقها في البداية: “في الحقيقة لو كنتُ أكثر تديناً بقليل لأقسمت لك أنها نبي الله الخضر.” وقالت عنها النزيلة تريزا دينق: “امرأةٌ مثل حنين يا سيدي كانت تليقُ بأن تكونَ مبعوثاً للمسيح”
لكن النزيلة سعيدة أضافت : “بالطبع أقصد شهرزاد مكي، فحتى مجيء حنين لم تكن تتحدث إلى أي أحد، ثم جمعتهما صداقةٌ سرى بين الجميع أنها والعياذ باللهِ سحاق.”
إنها القشور والزيف، و”الدغمسة” الخلقية.
حسب اعتقاد العاهرة تريزا ، فإن “حنين” قتلت لأنها لم تنصاع للقاعدة الآمنة: “ابقي قدمَيكِ مفتوحتينِ وفمكِ مغلقاً” والتي التزمت بها هي لتجنب مصير حنين.
تقول شهرزاد :
“وربما هذا ما حدث مع أبي ، كذلك وجدوه ميتاً عندما حضر العسكر ليأخذوه ولم يترك لأمي وإخوتي فِلساً واحداً”
سلوك القتيلة “حنين” تماثل سلوك المشعوذين والمهوسين وتجار الدين بالسجون ، يمثلون أدوار الدعاة المصلحين، يظهرون القشور ، وإنما في جوهرهم فاسدين.
لكن الزعيمة المريضة سعيدة التي تمثل الشر المطلق ، ترى أن حنين كانت: “تبحث عن الخير في الناس ولهذا قُتِلَتْ”
أي أن رسولة الايدلوجيا الماسونية “حنين”، لم تنصاع لرغبات العُصبة الحاكمة ، مؤسسي سجن شِيكا فاغتالوها.
• العقدة الدرامية
غرابة سجن شِيكا ، كونه سجن خاص ، تكّفل به خيرون ، يختارون مأمورها ، وسجيناتها ، ويتكفلون باستحقاقات تشغليها من رواتب الحراس ومعيشة النزيلات ، هذا اللغز، يمثل العقدة الدرامية للرواية ، إلاّ أن هذا السجن ، لا يختلف عن السجون الأخرى في شيء ، من حيث ممارسة السادية والاستغلال من قبل الحراس ، والشذوذ الجنسي والتنمر وسط النزيلات.
ليلة القدر ، التي حلت بوالد النزيلة شهرزاد ، وأحال والدها إلى مصاف الأثرياء فجأة ، رافضا مظاهره المادية.
ثراء مكي تيفور أحد مؤسسي سجن شِيكا السبعة ، تمثل هذه الواقعة، واحدة من الأساطير والألغاز ، والغرابة أن يكون مكي تيفور وأبنته شهرزاد من نازحي معسكر كلما جوار مدينة نيالا ، والغموض أن يصبح ثرياً في لحظة ، ويكون أحد مؤسسي سجن شِيكا؟. هنالك تمويه يتسق مع ضليل العصبة التي استولت على السلطة في 30 يونيو 89، وادعائهم الزهد والتقشف ، وهو مخطط قائم على الهرطقة ، والهوس الديني ، والخرافة.
الحوارات المطولة ، لم تجد حلاً مرضيا للقارئ ، ولم تسفر عن فك لغز اغتيال البطلة “حنين”، رغم تباين الآراء في هذا الشأن. وعندما أقترب المحق عبدالحي من معرفة الحقيقة ، بتوجيهه أصابع الاتهام لمكي تيفور ، اختيار الأخير الموت منتحراً فيما يبدو ، على فضح أمره ، رغم أن المحقق تمكن من التعرف على بقية زملائه.
• مفاهيم فلسفية تستحق الوقوف
هنالك مفاهيم تستحق الوقوف عندها عن معاني الحرية ، ومفهوم الإرادة الشخصية:
ــــ قالت تريزا على لسان الضحية النزيلة “حنين”: “فحدثتنا عمّا يمكن أن يكون عليه السجن لو أننا توقفنا عن النظر إليه كسجن ، وشجعتنا على الحياةِ فقالت: جميعنا لا نرى سِوى العراقيل والجدران، ولكن ماذا إن قلنا لكل ما لا ترغبه صدورنا «لا تكن »؟”
ــــ “ففي الصباح التالي بعد أن صفعتها أمام الجميع جلسَتْ “حنين” تحت قدميها لتعتذر سألتُها : لِمَ فعلتِ ذلك يا حنين؟ فأجابتني ببساطةٍ: أردتها أن تعلم أني أكترث.”
هذا مفهوم فلسلفي لمعنى الاعتذار ، وهي واحدة من دلائل العمق الفكري لحوارات رواية شِيكا.
وكذلك قول شهرزاد صديقة الضحية حنين : “لا يمكن للشاعرِ أن يكونَ مادياً حتى وإن رغِب.”
وتضيف شهرزاد: “وكانت الدنيا صَخب ، حيث أضع قدميَّ يغمرني الصخب حتى قابلتُ حنين ، فاقتنعتُ بسذاجةٍ أن الهدوء وهمٌ ، ولكن حتى في الصخب ألحان..  وهو ما صاغته بقولها : يخشون الظُلمةَ والظلمة نورٌ من نوعٍ مختلفِ. كان تفاؤلها معدياً ومنطقها يسحر”.
وجنس هذا الكلام نظنه مؤثرا على القناعات ، وهو ما يحسب للرواية ، رغم انه يشكل تأطيراً للطرح اللبرالي.
ــــ “كَم لذيذٌ هو الشعور ، تماماً كما كانت تَصِفُه حنين: «لا يهم بأي شيءٍ تشعرين ، طالما تشعرين فأنتِ ما تزالين حية”.
وهذه أيضا ضمن حزم الطاقة الإيجابية التي كانت الضحية “حنين”، تبثها وسط النزيلات كأنها رسولة المؤسسين السبعة.
ــــ قول مأمور السجن مبرراً تجاوزات حراسه الجنسية بقوله: “وليس من الضروري أن يكون كل طبيعيٍّ صحيحاً” مستشهداً بقول الحلاج: “) ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له إياكَ إياكَ أن تَبتَلَّ بالماءِ(“وتشطط شهرزاد في إلحادها، وتقول للمحقق عن الفيلسوفة “حنين”: “إلا أنها لم تفهم يوماً أننا في دارفور نحتاج إلهاً لا رساماً يقتله الضجر!” وكأّن الله غائباً ، والعياذ الله بعنايته عن دارفور.
• تأصيل
بت المطر :
وصفت الكاتبة ، النزيلة تريزا ديق ، الفاتنة الجمال ، والعاهرة التي لا تمانع في إرضاء الجميع جنسيا في من أجل أن تعيش بسلام ، والتي تبدوا مسلوبة الإدارة ، وصفتها بأنها “بت المطر”.
هذا الوصف في الأصل تطلق على فتاة المتعة التي تتم اختيارها بعناية لهذا الغرض في القصور الملكية والبيوتات السلطانية ، وليس لأهلها حق الرفض أو الاعتراض.
الطوطم :
تقول الكاتبة أن القبائل الأفريقية “اتخذوا من الغزلان طوطماً”: الطوطم هو أي كيان يمثل دور الرمز للقبيلة ، وأحيانا يُقّدس باعتباره المؤسس أو الحامي.
• الحبكة الدرامية
بهذه الحبكة عالية الرمزية ، البعيدة كل البعد عن المباشرة في التناول ، تجّسد الكاتبة القديرة تاجوج حامد ، حالة اغتيال الدولة السودانية ، نتيجة للهوس الديني ، والهرطقة والخرافة، وعصيان الانقياد للدولة الرسالية المزعومة. فالسبعة المؤسسين لسجن شِيكا ما هم إلاّ مدبري ومنفذي انقلاب يونيو 89 ، أضاعوا الوطن ، ولم يتركوا لأهله فلسا.
حجم الرواية رشيقة ، والحبكة مشوقة ، لذا يمكن إلتهامها خلال بضع قراءات ، والبحث عن المزيد.
• الترميز الفني
“كانت هناك طفلةٌ صغيرة اكتشفت حديقةً للورد لتوَّها ، خرجت لتقطفه يوماً فوجدت الورد ذبُل وحزنت، فأوجد الله لأجلها قوس قزُح ، ومن يومها كلما هيمن الغيم أسعدنا الكون بألوان الطيف.”
وطالما أن الضحية “حنين” كانت ذات ميول مثلية ، فإن تمجيد قوس قزح ، وطرحه كبديل طبيعي للإمتاع الجمالي الحسي ، قد لا تكون رمزية بريئة هنا.
• التشابه بين المحقق كونان والمحقق عبدالحي
تعتبر رواية شِيكا كعمل فني مشابهاً لأعمال المحقق الياباني كونان، الذي أعاد إحياء شخصية المحقق شارلوك هولمز ، والتشابه يتمثل في رصد أحداث تتسم بالجريمة والغموض المثار حولها ، إلى جانب القليل من الرومانسية. كما أن العمل الفني يستعرض وبشكل واضح للقارئ مستوى الثقافة الثرة التي تتمتع بها الكاتبة.
• التشابه بين أجاثا كريستي وتاجوج حامد
الرواية بوليسية ، تشبه كتابات الروائية العالمية أجاثا كرستي ، وتندرج تحت الكتابات الجندية.
الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي الملقبة “بملكة الجرمية”. رددت أجاثا كثيرا ، أن أعظم متعة يحس بها المؤلف هي اختراع الحبكاتِ ، ولا شك أن الروائية تاجوج حامد ، قد وجدت المتعة في حبكة روايتها (شيِكا) وهي متفرّدة بحق. وكما في أعمال أجاثا كريستي ، فالقارئ يجد ذلك الكم الهائل من (الألغاز) و(الحبكات الغامضة) في هذه الرواية سواءً كان ذلك في البناء القصصي أو المعمار (مكتب مأمور السجن وشقة المحقق ، غرفة التحقيق) والدرامي أو في الحوارات أو الشخصيات.
• شخوص الرواية
“وكذا فإن سعيدة تمثل الغضب وشهرزاد الكبرياء وتيريزا الكسل .. كل واحدةٍ منكنَّ هي إحدى الخطايا السبع.”
هؤلاء النزيلات ما هن إلا نماذج للشعوب الهامشية والمتمردة من الشعب السوداني ، يريد المؤسسون إعادة صياغتهم قسريا عبر إدخالهم في وقوالب سجن شِيكا القائم على الأسطورة والخرافة.
تقول شهرزاد عن الضحية “حنين”: فقد انضمت لمنظومةٍ إصلاحيةٍ تقوم بإرسال الرُسل.” إذا ، هي أداة في يد السبعة المؤسسين لسجن شيِكا ، والطغمة بدأت تأكل بنيها!
يقول المحقق عبدالحي للنزيلة شهرزاد : “تكرهين تيريزا لأنها مُستضعَفة وتكرهين سعيدة لأنها متنمّرةٌ، فأي نوع من البشر يروق لكِ إذن؟” مستغرباً استعلائها وكبريائها وهي نازحة من دارفور ، تورطت في تجارة المخدرات.
والمحقق عبدالحي نفسه رجلاً ليبرالياً ، رأسمالياً ، مستلب ثقافيا، يبدو معارضاً للنظام ، وغير واقعي. فقد والديه في أحداث ثورة 2013م لكنه يقول أنه فقد الوطن. يصفه شهرزاد المتمردة والمغرورة بالمسكنة والهبل ، لأنه في نظرها يطارد الغموض. لكن شهرزاد هذه ، وصفت والدها مكي تيفور مرة بالاستقامة ، ومرة بالنذالة ، لذا لا يمكن الاعتداد بتقييمها للناس.
بهذه المواصفات ، يمثل المحقق دور المعارضة ، التي تمكنت من التحقق في جرائم نظام الهوس الديني ، يمثلهم مكي تيفور ، وأن الضحية “حنين” ما هي إلاّ أيدولوجيتهم الماسونية ، ضحوا بها من أجل شيءٍ ما ، ربما عبروا بها مرحلة ، واغتالوها عندما فشلت في ترويض المارقين من الشعوب المهمشة ، وبهذه الصفحة ، أي المعارضة ، فإن عبدالحي يحقق من حيث لا يدرِ في سر مؤسسي سجن شِيكا (الطغمة الحاكمة) وليست في قضية مقتل “حنين” (فكر الدولة).
تورط المحقق عبدالحي في علاقة عاطفية من النزيلة الفاتنة تريزا دينق ، وهي عاهرة ، لا تخجل من المجاهرة بمهنته هذه ، ربما لقناعته أنها ضحية لعدم توفر العدالة الاجتماعية في مجتمعها ، وربما أنه غير مكترث بالمعايير القيمية ، فهو “غربي” الهوى حتى النخاع.
هذه أحدى القراءات الممكنة لهذه الرواية ولا أخفِ حيرتي ، فإن رواية شِيكا من أكثر الروايات التي قرأتها تعقيداً، حمالة أوجه ، كل شخص بإمكانه أن يقرأها من زاويته ، وهنا مكن البراعة ، وجموح الخيال الفني ، الناجم عن امتلاك الكاتبة على ناصية العمل الروائي ، الذي تسمو بالخيال الباذخ.
• الخلاصة:
تبدو جميع شخوص الرواية متمردات ، سيما النزيلات ، كلٍ على طريقتها ، وأن هذا التمرد سواءً  كان معتقداً أو اجتماعيا أو فلسفيا ما هو إلاً نتيجة (زَعَل) ، حسبما جاء على لسان البطلة سعيدة.
أما سبب مقتل النزيلة “حنين” كمحور أو بداية رأس الجليد للرواية، ففي رأي المحقق عبد الحي عثمان الفكي أن “حنين” كانت ضحية المعتقد الكاذب! . بينما ترى شهرزاد ، أن المعتقد هو الضحية “لحنين” ولأبيها! .
هنا مكمن التعقيد الفكري والدرامي في حوارات رواية شيِكا العجيبة والعميقة. وهي ليست مجرد فنتازيا سرد بوليسي فحسب ، وإنما رواية سياسية بامتياز ، ذات ترميز عالي ومعّقد. وبما أن جميع الرجال في مشهد الرواية ، هم أشرار. مأمور السجن (هارون) ونائبه زير النساء حليم ، والمرحوم موسى زوج المريضة سعيدة ، وموسى الآخر ، ومكي تيفور ، وحتى المحقق عبدالحي فهو متعالي ولم ينجو من شبهة استغلال ضعف النزيلة تريزا دينق. هذا الموقف تدرج الرواية ضمن الكتابات الجندية ، المنحازة ضد الرجال.
ومن المفارقات إن شيِكا الذي تعني حرفياً “أن الله هو الأكبر” تكون قلعة للفساد والاستغلال والقتل غير الرحيم، لنساء مكسورات الجناح ، بتدبير من رجال أشرار. وتندلع الثورة لتخليصهن من العذاب.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..