مقالات وآراء سياسية

المعراكة والدوكة ومافي طايوق (إدارة الفوضى في الحالة السودانية)

عثمان يس ود السيمت

إن مفهوم الفوضى أو الفوضى العارمة chaos هو مفهوم واضح ومتفق على تعريفه وكذلك متفق جدا على (إجراءات) مواجهته. حيث تنشأ الفوضى عندما تعجز السلطة المدنية أو تتعطل أو تصبح غير فعالة. عندها تعلن السلطة التشريعية العليا الأحكام العرفية martial law وتدار الدولة وفق هذه السلطة ويصبح القائد أو المسئول العسكري بالمنطقة أو المحافظة أو الولاية هو الحاكم العسكري وتصبح جميع السلطات في يده حتى السلطة القضائية المدنية (ما لم تظل السلطة القضائية متماسكة).
من هذه المقدمة يتضح ضرورة وجود سلطة تشريعية عليا تعلن الأحكام العرفية. لذلك في حالات الحروب الأهلية يجتهد الوسطاء في الحفاظ على سلطة الرئاسة (إن كانت موجودة أصلا) أو إيجادها بهدف حسم الفوضى بإعلان الأحكام العرفية (ومن هنا نستوعب اعترافهم بسلطة الأمر الواقع دائما) كالتي في بورتسودان ، ورأينا تطبيقا عمليا على ذلك خلال الحرب الأهلية اللبنانية وكيف عمد من يريدون استمرار وتصعيد حالة الفوضى إلى (تغييب) رئيس الجمهورية لدرجة اللجوء لاغتياله ، وذلك لمنع إجراءات الأحكام العرفية. ونرى أنه في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت الأحكام العرفية في بعض الولايات تسعة مرات بعد الحرب العالمية الثانية غالبيتها نتيجة كوارث طبيعية لمنع الفوضى.
وفي الحالة السودانية ولأننا (حقنا كتر ويمين نضمنا كتر) فإن ما يجري الآن من حالة فوضى عارمة تتميز بالآتي:
1. لم يعلن عنها كحالة فوضى رسميا أو حالة طوارئ برغم ما يلمسه الداني والقاصي من إنفراط تام لحالة الدولة. قارن ما حدث بعد الحرب بأي حالة إعصار في أمريكا أعلنت فيها حالة الطوارئ لترى فرق ونوعية التعامل.
2. طال الأنهيار السلطة التشريعية العليا بدخولها كطرف في الحرب الأهلية. والحالة التي نعيشها فريدة كما سنرى.
3. فالمعضلة الأكبر أن النزاع القائم هو بين أكبر رمزين للسلطة التشريعية في الدولة (بحكم الأمر الواقع) وجرد رئيس السلطة التشريعية نائبه من سلطته ، وهي حالة نادرة جدا أن يكون طرفي الحرب الأهلية الرئيس ونائبه.
4. كما أن الطرفين المتحاربين ينتميان حسب المعلن لمؤسسة واحدة هي المؤسية العسكرية والتي يقودها الرئيس ونائبه.
هذه النقطة الرابعة تعتبر (بيضة أم كتيتي) لا يمكن التعامل معها، فما ممكن تشيلها (وتكتل أمك) ولا تخليها (وتكتل
أبوك) ولا تكسرها  (وتموت انت) فحالة استقطاب القوة في طرفين حيد بشكل كبير جميع القوى الأخرى التي تحمل السلاح وأصبحنا لا نعرف أين هي بيضة أم كتيتي فقد تلخص الوضع في إما أن تكون مع أحد القوتين أو ترفض الحرب وتقبل وصمة الخيانة..
غير أن الغريق دائما قدام كما يقولون عندما ننظر للوضع ونحاول تحليل الوضع المشربك situation analysis نجد أن الوضع السوداني يكمن تعقيده في أن واجهته رأسي السلطة الرئاسية لكنهما يقودان حربا بالوكالة. فالرئيس يقود حربا بالوكالة لطرف داخلي هو الاسلاميين الطامعين في العودة للسلطة ونائبه يقود حربا بالوكالة لجهات أجنبية إقليمية ودولية و(مصلحته هو في الموضوع لا يعلمها إلا هو) ، وحيث أن الجهات الدولية لا تترك الملعب لجهة أو قطب ليمارس نفوذه (مستريحا) فقد تدخلت جهات إقليمية ودولية أخرى في الصراع وهي جهات دأبت على التدخل دائما بمنطق (يا فيها يا أفسيها) وده طبعا بعدما انتقلنا من اللعب بكرة الشراب للعب بالكورة أم بوز (الكفر) وليتنا صبرنا على كرة الشراب حيث لا أحد يحلم مجرد حلم يفسيها لينا.
أما المضحك المبكي فهو أن نفس الجهات المتصارعة المتحاربة ونفس الجهات الإقليمية والدولية تتبادل الأدوار كحليف وكوسيط لحل الصراع والنتيجة الوحيدة المتوقعة لمثل هذه الحالة هي (إتفاق طائف سوداني) يكرس وضعا أكثر تشويها من تكريس الطائفية السياسية اللبنانية في إتفاق الطائف ومحاصصاتها ، واللبنانيون صبورون ولديهم في حياتهم ما يلهيهم عن السياسة ويستطيعون العيش دون حكومة ودون رئيس لسنتين (كما هو الوضع الآن) ويبدو أن الدماغ السياسي في لبنان أكبر وفيهو طايوق أنضف أو فيهو حاجة تانية مصبراهو) . أما إتفاق طائفنا نحن فسيفضي لوضع تنفجر فيه (حلة البريستو) في زمن قياسي فور أن تتبين أطراف المحاصصة السودانية الجديدة أن الوضع قبل الحرب الأهلية أفضل من إتفاق الطائف السوداني الذي يراد له بالتأكيد أن ينتج من تمثيلية انتخابية وضعت أسماء الفائزين فيها على كراسي مجلس البرلمان قبل بدئها (وكلو بالمحاصصة) . فالوقت قبل الانتخابات (الفطيرة التي ستأتي) لن يسعف اللاعبين الحقيقيين وهم (شباب الثورة) من تكوين تنظيمهم السياسي لذلك سيخرجون من تمثيلية الانتخابات بدون حمص. والأحزاب التقليدية (والتي كلما شافت ليها بت حلوة مدت قرعتها وبتحب تحتضن الثورات لحدما تديها قبلة الموت) ستدخل من الباب وتخرج فورا من الباب الآخر هذه المرة وسيكون نصيبها من المحاصصة مخصوم منه نصيب الحركات والبركات الكثيرة التي (طفحت) على السطح. أما الأحزاب العقائدية اليسارية (فمتعودة دايما) تدخل الانتخابات كمتفرج. الجهة الوحيدة التي ستفوز في الانتخابات الفطيرة هي الاسلاميين للأسف للأسباب الآتية:
1. هي الجهة الأكثر تنظيما خلال ثلاثين سنة أقصت فيها جميع التنظيمات الأخرى.
2. هي الجهة التي (فعليا) على رأس السلطة و(سلطة الأمر الواقع) الآن وهي التي ستدير وتتحكم وتزور الانتخابات ولا يحدثني أحد عن الرقابة الدولية.
3. هي الجهة الوحيدة التي تملك المال اللازم واللوجستيات.
4. طرف الحرب الثاني وهو حميدتي يملك المال واللوجستيات لكنه لن يملك الوقت الكافي للتحول لحزب سياسي (ولن يتاح له ذاك). وهو لا يملك أي خبرة سابقة بالانتخابات فضلا عن جهويته وقبليته التي لن تسعفه في الانتخابات.
لذلك ستعود الحرب الأهلية فور إعلان النتيجة لأن تفكير طرفي الحرب بعد أن يتشرنقا ويتحولا لمرحلة الحزب السياسي هو تفكير يتمثل القانون الفسيولوجي all or none law. وهو ترجمة للقانون السوداني (يا فيها يا أفسيها) . والإقصاء اصلا ليس غريبا على الطرفين وهما لا يعرفان ولا يؤمنان بمبدأ تداول السلطة (سلميا) فمن اراد السلطة يلاقينا في لب الوادي.
هذا الوضع الدائري المفرغ لن تحله في الوضع السوداني إلا (الدوكة والمعراكة) ، ولمن لا يعرفون الدوكة فهي لوح مستدير من الفخار الملمع يقوم مقام الصاج لعواسة الكسرة أما المعراكة فهي قطعة قماش تستخدم لتنظيف الدوكة كلما عوسنا طرقة.
نحتاج الآن والدوكة ساخنة مولعة بنار :
1. الحرب الأهلية.
2. ونار الكراهية وعدم قبول الآخر.
3. ونار من اوصلونا لهذا الوضع الكارثي.
4. ونار انتشار السلاح بين الناس أكثر من سجاير البرنجي.
نحتاج للمعراكة والتي عادة يستخدم فيها الطايوق (لمسح الدوكة) وترتيب أوضاعها لتلقي كمشة عجين (جديدة) وحيث أن (البلد لم يعد فيها طايوق) فسنستعيض عنه برشة من (زيت عافية) وحيث أن العافية من الله ولم تعد فينا نحن الشعوب السودانية عافية فعلينا الإستعانة بجهة تملك العافية الكافية لتجلط الزيت وتمسك المعراكة ونمسح الدوكة جيدا لتزيل عنه:
أولا أطراف الحرب. وذلك بتحييد كل القوى على الأرض.
ثانيا كل من يحمل سلاح خارج القوات العسكرية الرسمية.
ثالثا قحت ثم قحت ثم كل ما له علاقة أو تناسل عن قحت.
رابعا الأحزاب الطائفية والجهوية التقليدية التي كبلت حياتنا منذ الاستقلال.
خامسا الأحزاب العقائدية اليمينية (وتشمل كل تنظيمات الاسلاميين) واليسارية بألوانها المختلفة.
سادسا اسكات جميع الأصوات الجهوية والقبلية والعنصرية بحيث تصبح (جريمة أمن دولة عقوبتها الاعدام) لنحافظ على ما تبقى من ترابنا.
السؤال المشروع : من سيبقى إذا؟
تبقى تنظيمات شباب الثورة يشكلونها كيف شاءوا بعد أن يضعوا الماضي وراءهم ولا يلتفت منهم أحد إلا هالك مثل إمرأة لوط.
هذا هو الوضع الطبيعي بعد الحروب الأهلية في أي مكان حيث تنفي كل خبث ما قبل الحرب (لتبدأ البلد على نضافة) ونحن لسنا حالة شاذة بل نحن أكثر إجراما وأضل عن سواء السبيل ، راجع ما حدث في حربنا في سنة وماحدث في أي حرب أهلية أخرى مهما طالت (على الأقل خلت تلك الحروب من التهجير والاغتصاب ودردوقات ودفارات بيع العفش) بل إن ما حدث لدينا من انتهاكات فاق ماحدث من انتهاكات في الحربين العالميتين في نوعيته ودرجة انتهاكه لحقوق الإنسان.
أما سؤال الحلقة من سيقوم بحمل المعراكة؟
والإجابة المنطقية أنه بافتراض (قام لينا طايوق جديد زي شعر الراس والطايوق طبعا لا يقوم) الحل يكمن في:
1. البند السابع والوصاية الدولية (إن رضي بنا أحد) وأشك  أن تقبل أي جهة بتوريط نفسها معنا نحن (كر علينا فقرانين وشينين) وكوننا ننام على ثروات يسيل لها اللعاب لن يسعفنا فنفس الثروات سيحصل عليها المتدخلون المحتملون (مننا) دون أن يسيل لعابهم ونوصلها لهم لحدي الباب عندهم وهي لم تنقطع عنهم حتى في زمن الحرب.
2. البديل هم شرفاء الجيش الذين هم على رأس الخدمة والمفصولين (للصالح العام) فقد جاء وقت (الصالح العام) الذي فصلوكم من أجله وأصبحتم (الخلاك أبوي دخري) . أما كيف فهذا ليس من شأني والعسكري النجيض ما بعلموهوا مسكة المعراكة.
3. في حال تعذرت الوصاية وفشل تطبيق البند السابع وفشل شرفاء الجيش في إحداث فرق ، لا يتبقى إلا الرضوخ لاتفاق الطائف 2 وانتظار دورة جديدة من الحرب الأهلية.
4. في حالة فشل جميع الخيارات (وهو أمر وارد حيث أن الكيزان إما أن يعودوا للسلطة أو تستمر حربهم) لا يتبقى إلا أن يشملنا الله برحمته قبل أن نتحول إلى أرض البعاعيت Land of zombies.
عثمان يس ود السيمت
1 يونيو 2024م
الاسبوع الثامن والخمسون والحسابة بتحسب .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..