
د. محمد حمد مفرح
حسبما ذهبت إليه في الجزء الأول من هذا المقال فان معلم الأجيال والمبدع الاستاذ محمد رشوان شاعر ظل ينظم الشعر معبرا من خلاله عن مختلف المواقف والوقائع والمناسبات التي صادفته في حياته. اطلعت على نماذج من قصائده فوقفت على شاعرية متقدة تعكس انفعالا عميقا بالمناسبات والمواقف والوقائع ذات الصلة بتلك القصائد. وبدا لي ان ذلك الانفعال نابع من إحساس صادق يتجلى عبره دفق الشاعرية الحقة. وقد ايقنت ، حينها ، ان الشعر ، ووفقا لأحد تعريفاته هو بالفعل (محاولة تحويل الدم الى حبر) ، أي ان الشاعر ينفعل بموقف او موضوع ما حتى يجري منه مجرى الدم فيدفعه الى التعبير عن ذلك الموقف كتابة ، اي القيام بتحويل الدم الى حبر. كما ايقنت بأن القصيدة ، كما وصفها احد الشعراء ، هي التي تكتب الشاعر وليس العكس. وهذا يعني ان موضوع القصيدة يدفع الكاتب دفعا للتعبير عنه ، أي عن ذلك الموضوع. وبذا. تقوم القصيدة ، اتساقا مع هذا المعنى ، بدور الفاعل بعد لحظات المخاض الشعري الغلاب.
ويعد التعريف والوصف انفا الذكر ، دون ريب ، ابلغ بكثير من احد تعريفات الشعر في اللغة الانجليزية بأنه
(Best words in their best order) أي (افضل الكلمات الموضوعة في افضل المواضع) أو ان شئت (مفردات منتقاة يتم ترتيبها ترتيبا مثاليا).
من جانب اخر فقد وقفت ، من خلال اشعار أستاذنا المبجل ، على البعد الانساني الذي تصطبغ به قصائده فضلا عن حب المكان وتجذره في نفسه. ذلك ان موضوعات هذه القصائد هي الانسان المتمثل في أفراد اسرة الشاعر و غيرهم ، علاوة على انها تتضمن المكان بكل دفئه وحميميته.
ويتجلى ذلك من خلال نماذج شعرية كثر لشاعرنا الهمام منها قصيدة نظمها في ابنه معتز المولود في العام ١٩٧٠م والمقيم بالدوحة بدولة قطر ، تقول بعض ابياتها:
بني حياتي وكل المنا
حبيب إلى كسحر الدنا
حبيب إلى كبرق السيوف
غداة الجهاد وطعن القنا
حبيب إلى كباقة ورد
و ما الورد غير الجمال لنا
حبيب إلى كنشر الورود
ورود الليالك والسوسنا
حبيب إلى كيوم مطير
بغرب بلادي الجميل هنا
حبيب إلي كمسري الدعاش
يهدهد روحي إذا ما دنا
حبيب إلى كشعبي العظيم
كريم السجايا عريق البنا
حبيب إلى كأرض بلادي
فداها النفوس وأولادنا
وقصيدة أخرى نظمها الشاعر بمناسبة استقباله لابنته مها المولودة في العام ١٩٧٥م بمدينة النهود ، وتقول بعض ابياتها:
وذات صباح جميل
أطلت علينا مها
سمعت طيور الرياض
تغني وتشدو لها
وورد الحديقة زاد
بهاءا بها وإزدهي
كما ان لشاعرنا مرثية رثى فيها والده الذي توفي في العام ١٩٧٣م حيث كان وقتها منتدبا للتدريس بليبيا ، وتقول:
النار تحرق مهجتي وفؤادي
والحزن في جنبي شوك قتاد
النور قد أضحى بصيصا خافتا
والقلب أصبح مضرب الأوتاد
ما بال عيني قد تحجر دمعها
وعهدتها تهمي كسيل الوادي؟
ما بال قلبي لم يذوبه الأسي
وعهدته – قدما- رفيق سهادي؟
ما بال يومي قد تكدر صفوه
وكسته أحزاني ثياب حداد؟
غاب “الأمين” عن الديار فما بدت شمس المروءة في سماء بلادي
كان’ “الأمين” لكل بيت بسمة
كان “الأمين” لكل ركب حادي
كان “الأمين” إذا مشي في ربعنا
غنت له فوق الغصون شوادي
كان “الأمين” لكل جرح بلسما
عز الدواء تمزقت أكبادي
ما كان مشاءا يشيع نميمة
بل كان زين محافل ونوادي
خبر التجارة لم يطفف وزنه
راجت موفقة بغير كساد
كان”الأمين” إذا تعهد زرعه
جادت سنابله بخير حصاد
لو أن كل القوم كانوا مثله
لغدت بلادي فوق كل بلاد
لو أن في الأمصار كثرا مثله
ساد السلام مكللا بوداد
لو أن هذا الموت كان منازلا
لحملت سيفي وأمتطيت جوادي
وأذقته من صارمي ماذاقه
الأعداء في شيكان من أجدادي
لكنني ما كنت يوما مشركا
أو ضالعا في موكب الإلحاد
ما مات من عاش الحياة كريمة
بل قد سما بمراقي إستشهاد
ستظل سيرتك التي أبدعتها
نورا يضيء مسالك الأحفاد
سيظل ذكرك-يا أبي – في قلبنا
ما قام بالبيت العتيق منادي
وكذلك لشاعرنا مرثية أخرى يرثي فيها شقيقته زينب التي تخرجت في كلية معلمات الأبيض وكانت من الرائدات اللاتي عملن في ريف دار حمر الحبيبة. وتقول المرثية:
أحكي لكم أحبتي من قلبي الحزين
عن شقيقتي العزيزة زينب الأمين
و لا نزكي أحدا علي ذي القوة المتين
غدت زينب في رحاب رب العالمين
هي جذوة وقادة من كرام طيبين
ووردة فواحة من رياض الصالحين
وغرسة أصيلة من الوداد والحنين
ونسمة عليلة للروح والجبين رفيقة الطفولة وأنضر السنين
كريمة السجايا فهي ذات الدين
قدوتها على الدوام أمهات المؤمنين
وسورة البقرة حرزها المتين
ووردها اليومي وحصنها الحصين
دارها بهية بكل ما يزين
نفورة بطبعها عن كل ما يشين
وعطرها الأثير فل وياسمين إدمها شهي وثريدها سخين
ونهجها الإتقان وأداؤها رصين نذرت حياتها لتعليم البنات والبنين
لجارها وضيفها بشاشة في كل حين
إدخلها يا رباه مع غرك المحجلين
أسقنا جميعا من حوض سيد المرسلين
وإجعل يا ربنا كرامك الكاتبين يكتبون ما ينجينا من هول يوم الدين
تغشاك يا أختاه رحمات رب العالمين
كما جادت قريحة شاعرنا بالقصيدة التالية وموضوعها هو مدينة النهود التي غاب عنها لفترة طويلة من الزمن. ثم زارها بعد ذلك فدفعته اطلالتها الى نظم هذه القصيدة. وقد بعث بها للأستاذ (المذيع وقتها البروف حاليا) عوض إبراهيم عوض وكان يوم ذاك في ذروة شبابه ومجده الإذاعي، وسعد ايما سعادة عندما سمعهاعلي أثير اذاعة أم درمان بصوته الشجي ، حفظه الله. وتقول القصيدة:
حللت سعيدا بأرض الوطن
نضوت ثياب الأسى والشجن
فسحر النهود بديع بديع
تبذ “جنيفا” عروس المدن
بلاد الرجال الأباة الأولي
شقوا بظفر صخور الزمن
بلاد الشباب الوفي الذي
ألان بعزم قناة المحن
بلاد الشباب الأبي الذي
أقام وعلا صروح الوطن
بلاد الصبايا ذوات العفاف
بلاد الحرائر ، طوبى لهن
كم من محب براه الهوي
أراه صريعا بهن أفتتن
أحب الخريف ومسري
الدعاش
يهدهد روحي إذا الليل جن
أحب إخضرار الربي والمروج
سجع الحمائم فوق الغصن
أحب التبلدي وصمغ الهشاب
وأهوى سنابل عيش الدخن
إذا لم أغن بحب النهود
قل لي بربك أشدو لمن
وإليك ، عزيزي القاريء، أبيات من قصيدة أخرى نظمها شاعرنا المجيد في العام ١٩٧٣م خلال العطلة المدرسية في ليبيا حيث زار كلا من إيطاليا و سويسرا وفرنسا وبلجيكا. وقد بدأ رحلته على متن طائرة كرافيل ليبية ثم سافر بالقطار من محطة روما عبر سويسرا إلى العاصمة الفرنسية باريس ، وواصل رحلته برا إلى العاصمة البلجيكية بروكيا ، وأخيرا زار ميناء انتورب البلجيكي. وقد نظم هذه القصيدة وهو على متن القطار قائلا :
فجر الحضارة في باريس مزدانا
وليل الحضارة في باريس قد حانا
فمن روما عبرت جنوبها ثملا
من سحرها الأخذ نشوانا
وقطارنا المراح يجوب رحابها فرحا
في دفتيه حوي درا ومرجانا
قد كنت أحسبني والسحر
يأخذني
في قلب عدن وذاك الشعب رضوانا
بشوشا ودودا باسما أبدا
شيباوشبانا صبيات وولدانا
من الواضح والجلي ان أستاذنا الجليل محمد رشوان وكما تعكس قصائده السابقة ظل يحمل منطقة دار حمر في دواخله ، معبرا عن حبه للمكان بكل ابعاده الجاذبة ، والانسان بكل سجاياه السمحة ، وكذا الزمن الجميل. وكاني به يحاكي الكاتب الايرلندي جيمس جويس والذي سأل ، ذات مرة عن مدى شوقه لمدينته التي أحب (دبلن) بعد أن فارقها فترة من الزمن ، فقال قولته الشهيرة : (أنني لم افارقها قط) معبرا بذلك عن انه يحملها في دواخله.
وبعد …اثرت ، من خلال المقال السابق المكون من جزءين ان اشرك معي القاريء الكريم في سيرة ومسيرة أستاذنا الجليل محمد رشوان ، هذا المبدع والشاعر المرهف والعاشق للتراث. وفي حقيقة الأمر فهو ، في الاصل ، قد تواصل معي بغرض تزويدي بنماذح من التراث الغناني بدار حمر حتى اضيفه الى ما يتوافر لدي من مواد تراثية ، لكنني عمدت الى استنطاقه وكانت محصلة ذلك هذه السيرة الباذخة والمسيرة الزاخرة بالابداع.
رحم الله الأستاذ محم الأمين رشوان وغفر له وجعل الفردوس الأعلى من الجنة مسكنه..جعل الله البركة في ذريته..بارك الله فيك كاتب المقال فقد طوفت بنا في حديقة غناء من بدائع الكلم لشاعر مجيد.
الاستاذ محمد الامين رشوان كاتب فذ اطال الله في عمره بالصحه والعافيه