مقالات وآراء

السينما المتجولة.. ليت أيامك تعود !

 

مناظير
زهير السراج

 

* بعيدا عن الحرب القذرة والموت والتدمير الممنهج لبلادنا الحبيبة، أعود معكم اليوم إلى الماضي الجميل، متحدثا عن تلك الوسيلة الجميلة التي ظلت سنوات طويلة مصدر الوعي والتثقيف والترفيه لشعبنا الجميل، وهى السينما المتجولة التي ستكون موضوع كتاب للزميل الصحفي القدير (عباس موسى عباس)، سيصدر قريبا بالمملكة العربية السعودية إن شاء الله.

* كان والدي يعمل مهندسا بوزارة الأشغال بالخرطوم، قبل منتصف الستينيات من القرن الماضي، ونقل إلى مدينة حلفا الجديدة مع آخرين للقيام بتشييد المدينة الجديدة والقرى التي تحيط بها لاستقبال المواطنين المهجرين من منطقة وادي حلفا في أقصى شمال السودان مع الحدود المصرية التي ستغرقها مياه نهر النيل (أو ما عرف ببحيرة النوبة) بسبب بناء السد العالي لأغراض تخزين المياه وتوليد الكهرباء لجمهورية مصر أو ما كانت تعرف وقت ذاك بالجمهورية العربية المتحدة.

* جاء والدي بمفرده أولا إلى حلفا الجديدة ولحقنا به بعد بضعة أشهر، وكنا نسكن في حي صغير خصص لموظفي الحكومة يدعى (مربع ستة) أو حي الموظفين الذي كان يتوسط المدينة تقريبا، وهو من أول الأحياء التي تم تشييدها لإسكان موظفي الحكومة خاصة المهندسون والأطباء والقاضي الشرعي وضابط المجلس البلدي المنقولين من الخرطوم وبعض المدن الكبري مثل (ود مدني) لتسيير الحياة في المدينة الجديدة.

* كانت الوسيلة الوحيدة في ذلك الوقت لسماع الأخبار والترفيه هي الراديو، بالإضافة إلى مكتبة تبيع الصحف والمجلات التي ترد من الخرطوم وخارج السودان مثل (العربي الكويتية) و (ميكي وسمير والصبيان)، بالإضافة إلى الصحف اليومية التي كانت تصل إلى منزلنا ومنازل المشتركين الآخرين بواسطة شاب يقود دراجة ويقوم برمي الصحف والمجلات من فوق حائط المنزل، وكانت متعة لا تضاهيها متعة انتظار هذا الرسول الرائع.
كنت أول من يقرأ الصحف لاستيقاظي مبكرا قبل الآخرين، وكنت في ذلك الوقت في الصف الثاني من المرحلة الابتدائية التي كان يطلق عليها وقتذاك اسم المرحلة الأولية. أما الراديو فكان حكرًا تقريبا على الوالد في الصباح الباكر وعند عودته قبل غروب الشمس بقليل وأحيانا في المساء عندما يكون العمل في القرى خارج المدينة.

* فوجئنا ذات يوم ونحن نتناول طعام الغداء بصوت يأتي عبر ميكرفون من خارج المنزل يعلن عن قدوم عربة السينما المتجولة في يوم الخميس لعرض بعض المواد الثقافية والأغاني وغيرها، وسألت والدي ما هي السينما المتجولة، وكنا في الخرطوم ونحن أطفال صغار في سن الثالثة والرابعة نذهب برفقة والدي أو عمي الأصغر عبد المجيد السرَّاج (لهما الرحمة والمغفرة) لدور السينما في أم درمان لحضور بعض الأفلام، فشرح لنا أنها شاشة تحملها عربة لعرض بعض المواد المصورة وكانت المرة الأولى التي نسمع فيها بوجود مثل هذه الآلة العجيبة، وظللنا ننتظر وصول يوم الخميس بشوق وترقب كبيرين وفي الأثناء يسرح كل منا بخياله في الآلة العجيبة وماذا ستحمل لنا.

* أخيرا جاء يوم الخميس بعد خمسة أيام ولكنها مرت وكأنها خمس سنوات كاملة، فلقد ظلنا نحسبها بالدقيقة والثانية واللحظة بل واقل من ذلك بكثير.
تركنا كل شيء وتفرغنا للحساب في انتظار عربة السينما، وخرجنا في ذلك اليوم مبكرا من المدرسة بقرار من الناظر ليستعد التلاميذ خير استعداد لاستقبال الحدث السعيد وكأنه العيد، وكان عيداً بالفعل بل أسعد كثيرا من العيد.

* جاءت العربة الكبيرة تتهادى بعد غروب الشمس مباشرة وصوت موسيقى عالية وأناشيد ينبعث منها ويعطيها نوعا من السحر الغريب. كان يجري خلفها مئات الناس، أطفال وكبار ونساء ورجال وشباب وشيوخ، يسقط منهم على الأرض من يسقط ثم ينهض ليستكمل المسيرة وراء العربة الضخمة إلى أن توقفت أخيرا في الميدان الذي تفتح عليه منازل مربع (٦) أو حي الموظفين الذي شهد منذ منتصف نهار ذلك اليوم احضار مئات الكراسي والمقاعد التي جلس عليها كبار الضيوف والموظفون وكبار السن، بينما توسد النساء والشباب والأطفال الأرض في حلقة دائرية كبيرة في مواجهة العربة التي كانت تذيع الموسيقى والأناشيد الوطنية وأغاني كبار المطربين وقتذاك وأذكر منهم وردي وسيد خليفة وأحمد المصطفي.
وفجأة صمت كل شيء وانبعث صوت من داخل العربة يعلن عن بداية العرض السينمائي، متزامناً مع انبعاث ضوء من شاشة بيضاء كبيرة ملصقة على جانب العربة ثم ظهرت صورة الرئيس اسماعيل الأزهري وبجانبه رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب وهما يرفعان علم السودان (في يناير من عام 1956)، إيذانا ببدء احتفال السودان باستقلاله من الحكم الثنائي الإنجليزي المصري وفي الخلفية نشيد وردي المعروف “اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطر التاريخ مولد شعبنا.. يا أخوتي غنوا لنا”.

* كان الجميع في حالة صمت وذهول غريب ولكن ما أن اكتمل ارتفاع العلم السوداني وأنزل العلمان الإنجليزي والمصري من ساريتيهما حتى ساد المكان تصفيق شديد وهتافات وزغاريد تعبر عن سعادة المشاهدين بالحدث.

* ثم توالت المشاهد للقطات ومناظر من مختلف أنحاء السودان كانت بالنسبة لنا حدثا فريدا في نوعه، فلأول مرة نرى مشاهد حية من غرب وشرق وجنوب السودان وشعوب تلك المناطق وهم يمارسون حياتهم ومناشطهم المتنوعة.

* لكن الحدث الأول الذي خلب أنظار الجميع كان الفيلم الذي يحكي عن مشروع الجزيرة وقصة بدايته والقطار الذي يتهادى بين الحقول، ومنظر المزارعين والنساء والتلاميذ وهم يجمعون القطن ويضعونه في أكوام كبيرة ثم يُوضع في أجولة من الخيش لتحمله جرارات إلى المحالج. وكان كل ذلك مصحوبا بتعليق صوتي باللغة العربية الفصحى التي تشرح كل لقطة في الفيلم وكل خطوة من خطوات المشروع الزراعي الكبير الذي تحتضنه منطقة الجزيرة المروية.

•أخيرا  اُختتم العرض بلقطات من مباريات لفريقي الهلال والمريخ مع بعض الفرق الاوربية ثم بعض الاغاني، وكانت تتخلل المشاهد استراحة تعرض فيها بعض الاعلانات، وما زلت اذكر حتى اليوم اعلان (حبوب كافينول) لعلاج الصداع و(اندروس الفوار) لعلاج حموضة المعدة.

* انتهى العرض عند العاشرة مساء وكان الكل يصفق معجبا وفرحا بما شاهد وبهذه الالة العجيبة التي ارته ما لم يره من قبل، وانارت عقله وقلبه بما يحدث حوله داخل وخارج السودان.

* كانت ليلة عجيبة اذهلت الكل، واستمرت بعدها الليالى المثيرة مع السينما المتجولة التي ظلت تاتي لمربع (٦) بحلفا الجديدة كل شهر مرة، وتطوف الكثير من المناطق والقرى تُسعد المواطنين وترفع درجة الوعى وتربط الناس بوطنهم واهلهم والعالم الخارجي، فما احلاها من ليالى وما اجملها من وسيلة تثقيفية تعليمية ترويحية، وما اعظم الدور الذي قامت به في توعية وتسلية الناس.

* اختم حديثي عن السينما المتجولة التي كانت تتبع لوزارة الاعلام بالقول .. ان انس لن انسى تلك الايام الجميلة وساظل اذكر ما حييت السينما المتجولة التي اعطتنا الكثير ، وساظل اشكر في سري وجهري الذين كانوا يقفون وراء ذلك المشروع ويفكرون في توعية وتسلية المواطن في ذلك الزمن الجميل .

 

[email protected]

الجريدة

‫13 تعليقات

    1. زمن جميل اتمنى ان يعود
      السينما المتجوله كلنت تعمل في ضواحي الخرطوم برضوا او القرى القريبه من الخرطوم . وانا اتذكر ذلك
      في الديمقراطية الثالثه اذكر انه تم استغلال السينما المتجوله في النشاط الخيري في بعض المدارس داخل الخرطوم فتجمع من خلالها الاموال لعمل ايام صحيه. يكون العلاج مجاني والادوية مجانيه .
      او صيانة المدارس الموجوده في المنطقه

  1. لك التحية استاذنا زهير. دة واحد من اجمل المقالات التي قرأتها لك. تلك كانت ايام طيبة قبل ان يظهر حثالة المشروع الحضاري الذين جلبوا للسودان سينما متجولة جديدة قوامها الكذب البواح والتضليل واخفاء الحقائق لخدمة مشروعم الاجرامي. نسأل الله ان يعود لبلدنا امنه واستقراره بعد ذهاب الغمة.

  2. الكتابة أنواع متعددة و أجمل أنواع الكتابة هي التي تدع القارئ يحس الراحة و الإمتاع بعيداً عن الحزن و الاستغراب.

  3. شكراً زهير.
    دمعت عيناي وأنا أقرأ هذا المقال وأستدعي من الذاكرة صور لزمن جميل مضى ولا أظنه يعود.
    رأيي الذي أعلنه دائماً هو أن من خرب السودان هو الملعون الهالك ترابي.
    زول جده أول من أدعى المهدية ونسيب آخر من إدعاها فهل ترتجي منه أو فيه خير؟

  4. السينما المتجولة كانت فى عربة كومر تتبع لوزارة الاعلام . وفى كل مديرية كانت تخصص لها عربة سينما وتبث الافلام ابيض اسود واغلبها اخبار الحكومة والمشاريع الزراعية ومكافحة الآفات والتعليم او البرامج الوثائقية . وكنا نشاهد زيارات الملكة اليزابيث والاميرة آن حول العالم والاسقبالات المدهشة لصاحبة الجلالة . ثم جاء النميرى وبدأ تخريب المؤسسات وتدمير الاقتصاد بمصادرة الاموال والمصانع والشركات والمشاريع الزراعية من اصحابها وذهبت الاموال المسروقة فى جيوب ضباط الجيش وبدأت نهاية ما كان يعرف ب جمهورية السودان سابقا .. مليون ميل ومليون فرح ممدود . الى ان وصلنا العهد الغيهب عهد الجمهورية الاسلامية العربية ومنظرها الهالك الترابى . فكتب شهادة وفاة الوطن بسرقة الجمهورية واهلها نيام . ولا زال هناك من يحن الى عهد النميرى . وسيظهر مستقبلا من يحن الى عهد الترابى وبيوت الاشباح وكذا زمن البرهان والجنجويد .

  5. من أشهر السيارات التي كانت تتواجد في كل مكان تقريبا في الخرطوم السابقة “عربة سينما سفارة نيجيريا”

  6. كيف كانت تاتي الصحف إلى حلفا الجديدة بحيث كنت تستيقظ مبكراً لتقرأها قبل الجميع ووسيلة المواصلات حينها كانت البص السريع الذي كان يقطع المسافة بين الخرطوم وحلفا الجديدة في ثمانية ساعات و القطار الذي يمر بخشم القربة ولا يصل حلفا الجديدة

  7. هذا هروب من الركام الماثل من صنائع ال دقلو ومن شايعهم لن يفيد المثقف او الكاتب شيء إجترار الذكريات شوفو علاج لهذا الواقع المؤلم
    المختصر ان هذا صراع بين اليمين واليسار على الحكم بادوات خبيثة مثل الجهوية والعنصرية او دعاوى مضلله مثل المدنية والوطنية
    كما تمت الفائدة سابقا بحل مشكلة جنوب السودان في نيفاشا بضغوط من المجتمع الدولي ممكن حل مشكلة دارفور بنفس الطريقة ونخلص

  8. المقال جميل ولكن التعميم بـ (ليتها تعود) فيه إخلال للموضوع، ليتها تعود إلى أي فئة؟. ذاك زمن مضى بلا وسائل للتثقيف والمعرفة بما يدور داخل القطر، ولكن الآن في عصر التقدم التكنولوجي، فكله متاح بضغطة زر من الهاتف المحمول أو الكمبيوتر، وكان على أخونا زهير التحديد بعودتها إلى الناس الذين يفتقدون الوسائل التكنولوجية الحديثة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..