حرب السودان : البحث عن الثأر والإنتقام ، ومواصلة الحرب فى الأرض والإعلام ، بدلاً عن البحث عن السلام !

فيصل الباقر
هناك ما يستحق أن يُروي عن تجربة سنجة من دروس وعِبر فى المناصرة والحملات! .
مدار أوّل:
“سلامٌ لأرضٍ خُلِقت للسلام … وما رأت يوماً سلاما” ((محمود درويش))
-1-
يستطيع كاتب هذا المقال أن يقول ، بل ، يؤكّد : “أنّ ما تمّ – ويتم – توثيقه ، من إنتهاكات لحقوق الإنسان ، فى الحرب الكارثية “المليجيشية” بين القوات المسلحة ، والدعم السريع ، منذ اندلاعها فى صباح يوم السبت 15 أبريل 2023م ، فى قلب عاصمة البلاد الخرطوم ، وانتقالها لولايات دارفور ، وولايتي كردفان والجزيرة، وإنتهاءاً بولاية سنار ، وعاصمتها مدينة سنجة ، ليست سوى “رأس جليد جبل الإنتهاكات والفظائع التى تُرتكب بحق المواطنين وكافة الأعيان المدنية”، وجميع هذه الإنتهاكات يحرمها القانون الدولي الإنساني ، وقواعده التى تسعى إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة ، ويضع قيوداً على وسائل الحرب وأساليبها ، ويؤكّد على إحترام الكرامة الإنسانية ، والحق فى الحياة ، وحماية المدنيين…!.
-2-
كل الحقائق على الأرض ، تؤكّد – يوماً ، بعد يوم – أنّ طرفي الحرب “الأساسيين”، الدعم السريع ، والقوات المسلحة وتحالفاتهما المسلحة ، من المليشيات المسلحة التابعة لتنظيم “الحركة الإسلامية”، وأبرزها ما يُعرف بإسم “كتبة البراء بن مالك”، وكتائب “القعقاع” و”البنيان المرصوص” ، وغيرها ، وما يُسمّى بـ”قوات العمل الخاص” وما يُعرف بـ”المقاومة الشعبة” و”المستفرين” لأسباب آيديولوجية ، أو جهوية ، أو عرقية ، أو “مالية” ، والحركات المسلحة ، التى خرجت عن ما اسمته بالـ”حياد” إلى إعلانها “الإنحياز” للجيش ، لسادرون – جميعهم – فى جنونهم الحربي ، وماضون فى مواصلة السير فى طريق استمرار الحرب ، وتوسيع دائرتها الشريرة ، بروح البطش والثأر والإنتقام ، بدلاً عن البحث عن السلام ، وهاهم يواصلون “جنونهم” الحربي ، غير آبهين ، بكل المساعى المبذولة ، لوقف الحرب ، لتجنيب البلاد خطر الحرب الأهلية (الشاملة) والتشرزم والإنقسام ، بل، و”التشتت” والتشظّي ، والإنهيار التام ، الذى أصبح وشيكاً أو “قابر قوسين أو أدني”، إن لم تُوقف هذه الحرب الكارثية (اليوم) ، وليس (الغد) ، وقبل فوات الأوان !.
-3-
لقد شهد السودان ، – ومازال يشهد – كما يشهد العالم أجمع ، وبصورة يومية ، أفظع جرائم “توجيه الهجمات ضد المدنيين” و”نهب الممتلكات” و”قصف المُدن” و”تدمير البنى التحتية المدنية”، وغيرها من الإنتهاكات والجرائم البشعة ، المصنفة عالمياً تحت (جرائم الحرب) ، و(الجرائم ضد الإنسانية) ، و(جرائم الإبادة) ، وإذا ما سمح العالم المتحضّر ، و”المجتمع الدولي” ، ومجلس الأمن الدولي ، ومجلس السلم والأمن الأفريقي ، بإستمرار هذه الحرب الكارثية العدمية ، دون إتخاذ قرارات وإجراءات كفيلة بفرض حظر شامل لدخول السلاح لكل مناطق السودان وأقاليمه ، فإنّ العالم ، سيكون موعوداً – بلا شك – بفظائع ، تفوق وبكثير – كمّاً ونوعاً – ما حدث فى الحرب الرواندية (1990م – 1994م).
-4-
آخر سلسلة الإنتهاكات الشنيعة ، تمّت – جهاراً ، نهاراً – فى مدينة سنجة ، عاصمة ولاية سنار ، التى دخلها الدعم السريع ، عصر يوم السبت 29 يونيو 2024م ، وبحسب شهادات مواطنين فارين من الحرب فى سنجة – وليس من رأى كمن سمع – لم يجد المواطنون فيها جيشاً (يحمي “حِمى” “حاميته”) ، ناهيك عن تصدّيه لمهمة وواجب الدفاع عن المواطنين ، أو حمايتهم الواجبة ، من العدوان المسلّح ، وبحسب شهادات ناجين وناجيات ، فقد ترك الجيش سنجة ، خلفه ، مكشوفة الظهر ، ليعيث فيها “أشاوس” الدعم السريع ، فسادهم المعهود والمشهود فى الأرض ، بدءاً ، بنهب العربات ، والدرّاجات البخارية “المواتِر” وحتّى الدراجات الهوائية “العجلات”، و”شفشفة” المنازل والمحال التجارية ، وسلب الأموال الثابتة والمنقولة ، وسرقة “حُلي النساء”، ومصادرة أو “قلع” العملات النقدية ، وتجريد السكان من كل ممتلكاتهم ، حتّى الهواتف المحمولة “الموبايلات” الذكية وغير الذكية ، ولم تنجو من السرقة حتّى “لٌعب الاطفال”، وفوق كل هذا وذاك ، ومن قبل ومن بعد ، ترويع الأطفال والنساء والشباب وكِبار السن ، والمرضي ، وذوي وذوات الإعاقة الحركية والسمعية والبصرية ، وليس إنتهاءاً بتهجير المدنيين “قسراً” من بيوتهم ، ومدينتهم ، نحو المجهول !.
-5-
أمام هذا العنف الممنهج ، والقسوة “الجنجويدية”، فرّ من استطاع من سكان سنجة ، بجلودهم ، سيراً على الأقدام ، لمواجهة المجهول ، فى رحلة البحث عن ملاذات آمنة ، عسى – ولعلّ – يجدونها – ولو إلى حين – فى الخلاء العام ، أو فى القري والمدن المُجاورة ، بدءاً من الدندر، التى أُضطُّروا لمغادرتها هى أيضاً ، لكونها لم تعد ملاذاً آمناً ، يُحفظ لهم فيها “الحق فى الحياة”، ليواجهوا – مرّةً أُخرى ، وليست أخيرة – مخاطر نزوح ، وهجرات أقسى ، وأطول ، وأمرّ طعماً ، صوب مدينتي القضارف ، أو الدمازين ، اللتين لم تعودا ملاذات آمنة ، بسبب تلميحات – بل تصريحات – القادة والجنود الميدانيين للدعم السريع ، بأنّها ستكون وجهتهم القادمة !.
-6-
من جهتها تتواصل الحرب الموازية فى الإعلام ، بين الطرفين ، وحلفائهما – وهي حرب الدعاية و(البروباقاندا) الحربية ، التى – ظلّت – وبقيت – ومازالت ، مشتعلة ، ومستعرة ، تنفُخ بسمومها فى القنوات والفضائيات العربية ، والقنوات والمواقع الإليكترونية المملوكة لأطراف النزاع ، أو الداعمة لأحدهما ، كما فى الميديا الإجتماعية ، المكرسة لبث ونشر خطاب الكراهية والتمييز فى “الميديا الإجتماعية”.
-7-
مازالت هذه الحرب الإعلامية، “تُبشّر” الناس ، بإنتصارات زائفة لأحد الطرفين ، فنسمع من قادة الجيش ، أحاديث سمجة – ومكرورة – عن “رد العدوان” ، و”تلقين” المليشيا “درساً لن تنساه”، وغيرها من الهطرقات الكاذبة ، فيما نجد فى المقابل ، دعاية أُخري ، من جانب الدعم السريع ، تسعى لتطمين المواطنين ، بأن الأمن والإستقرار ، وتقديم الخدمات الضرورية ، من مأكل ومشرب ومسكن وعلاج وتعليم ، ستكون مبذولة ، فى المناطق التى تقع تحت سيطرتهم ، وهو ما يكذبه الواقع المرير ، على الأرض!.
-8-
ويبقي أن “ليس من رأي ، كمن سمع” للحديث عن (سرديات) طبيعة وحجم ونوع الإنتهاكات التى تحدُث فى المناطق التى تجتاحها قوات الدعم السريع ، ولا يمكن المحاججة ، او تصديق السردية “البايخة” القائلة بأنّ “الفلول” – حتماً “لا أستثني منهم أحداً”، كما قال الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب ، فهؤلاء “أسوأ من سوء الظن” على حد قول الأستاذ الشهيد محمود محمد طه – أو أنّ “جهات غير معروفة” ، هم الذين يدخلون المدن ، لسرقتها ، بعد أن يدخلها ، أو يخرج منها “أشاوس” الدعم السريع ، فهذا الزعم غير مقبول ، ولا يمكن أن يتقبله العقل والوجدان السليم، لأنّ من المعروف من أبجديات (القانون الدولي الإنساني) ، أو “قانون الحرب”، هو مسئولية طرفى النزاع ، وبخاصة الجهة المسيطرة على الأرض ، عن ضمان سلامة وحماية المدنيين ، والأعيان المدنية ، وهناك مقاطع فيديو مصوّرة ومنشورة ، يعبّر فيها “أفراد” من مقاتلي الدعم السريع – بكل وضوح – عن إستيائهم من ظاهرة النهب والسلب التى تحدث عند دخولهم المدن ، أو بعد خروجهم منها ، وهذا دليل قاطع على أن تتحمّل قيادتهم مسئولياتها فى منع هذه الجريمة المنظمة، بدلاً عن مواصلة الإنكار الخجول ، والهروب للأمام، أو الوراء ، من مسئوليتهم المباشرة عن الإنتهاكات ، وتحمُّلهم وزر إرتكابها ، لطالما هم المسيطرون على الوضع القتالي على الأرض!.
-9-
فى مقابل كل هذا وذاك المشهد المظلم ، هناك ما يستحق أن يُروى من مشهد مضيء ، عن تجربة التعامل مع الحرب وعذاباتها من أهل سنجة ، وهو أنّ أهل سنجة لم يقفوا مكتوفي الأيدي ، بالإنتظار ، فى محطة “لطم الخدود” و”شق الجيوب”، أو الإكتفاء بالشكوى من هول المأساة ، وتردّى الأوضاع الإنسانية ، وكفى، ولكنّهم ، هبّوا رجالاً ونساء – فى الداخل والخارج – لتقديم نموذج إيجابي ، إنساني ، رائع ، يستحق التنبيه له ، والإشادة به ، بل ، والتبشير بما يجب أن يُحتذى به ، فى التعامل مع مآسى الحرب “المليجيشية” الكارثية ، وكوارثها الفظيعة ، فنهضوا بسرعة من حالة “الصدمة”، إلى العمل والفعل الإيجابي بتصميم وإدارة حملات مناصرة قوية وناجحة ، وعالية الجودة ، هدفت لتوفير الدعم المادي والمعنوي ، للتعامل مع الكارثة الإنسانية التى صنعتها وخلّفتها الحرب فى مدينة سنجة ، وولاية سنار.
-10-
جاءت حملة المناصرة “السنجاوية”، تحت شعار “مبادرة أنقذوا أهلنا فى سنجة” والهاشتاق (#أنقذوا – سنجة) ، بأن شكّلوا لجاناً للرصد والمتابعة ، تعني بتتبع رحلة الفارين والفارات من الحرب ، وضحاياها ، وأوضاعهم/ن ، والإعلان عن المفقودين/ات ، والبحث عن من تقطّعت بهم/ن السبل ، فى المدينة أو فى رحلة النزوح ، ويتم كل ذلك بمهنية وإحترافية عالية الجودة.
-11-
ومن الجديد فى التجربة “السنجاوية” الإنتباه لمحاربة خطاب الكراهية والتمييز، ومكافحة الأخبار المضطربة والمغلوطة والكاذبة ، بتشكيل لجنة للقيام بمهمة “مراقبة المحتوى” فى كل الوسائط الإجتماعية ، والتصدّى العاجل والسريع ، للشائعات والأخبار “المغلوطة” و”الكاذبة” والمضطربة” و”الملغومة”، وضبط النفس والخطاب الإعلامي، وهذا ما يجب التنبيه له من الدروس والعِبر فى التعامل مع الحرب ، فشكراً أهل سنجة ، على تقديم هذه التجربة الحيّة والذاخرة بمكارم الأخلاق ، فى المناصرة والحملات ، وبلا شك ، فإنّ تجربة مبادرة أهل سنجة ، ستلهم الكثيرين فى الولايات والمدن الأخري ، للإستفادة منها فى المناصرة والحملات ، التى تقوم بها القوي الشعبية ، فى مواجهة كوارث الحرب الكا رثية المليجيشية ، ويبقي التأسّى بالحكمة الصينية: “من الأفضل أن توقد شمعة ، خير من أن تلعن الظلام”… وللحديث عن تجربة سنجة ، وغيرها من التجارب الملهمة – حتماً – بقيّة !.
جرس أخير:
“يا ميامين يا كُتار … يا غلابِيِ ، الدُنيا كيف ؟ … قدرما وِسعت بِحار … فى النهاية بِحُوشا قيف … لمّا فوق الواطة نقعُد … الحرب تفتر … تقيف” ((محمد الحسن سالم “حميد”)) .
عنوان المقال جامع و معبر . أما حيثيات الحرب فحدث فلا حرج. أما أسئلة اسباب الحرب و الفاعل و الأهداف و ما يجب على المواطن فهمه و عمله؛ يظل هو التحدي الوحيد أمام دمار الوطن و الشعب