مقالات وآراء سياسية

من الراس والكراس

عثمان جعفر النصيري

 

السلام عليكم وما إلى ذلك
محاكمة أنصار السلام
1 – مدخل
2 – يسار ذلك الزمان الماركسي
3 – شيوعيو بلاد القاضي تردول
4 – المحاكمة وما بعدها
5 – ما العمل ؟
6 – الختام

1 – مدخل
المحاكمة التي أمّها نحو عشرين من الشيوعيين السودانيين ، قبل نحو سبعين عاما، كانت الاولى لشيوعيين يعملون تحت واجهات علنية. القاريء قد يجد بين المتهمين أسماء مألوفة وأخرى منسية أو مجهولة أصلاً. ذكرها الآن في هذا الزمن الفظ قد يكون تذكرة أخرى بأن ثمة شيء اسمه التاريخ وان الذي يفوت لا يموت.
يعني سوف يأتي وقت يكتب فيه آخرون عن كيف انتهت حرب الفر والفر هذه. الطرفان النتنان يتفادان مواجهة بعضهما البعض. يتباريان حول أيهما يلحق الأثر الأبلغ في أذى المدنيين وفي خراب عالمهم. ملايين من أهلنا الصامدين في السودان وفي الشتات الإلزامي لا يجدون أنفسهم جزلين لانتصار طرف أو حزانى لهزيمة الطرف الآخر.
الملايين في السودان مرغمون على معايشة هذه الحرب لا خيار لهم، تعرّد معهم حيثما يعّردون لأنهم يدفعون ثمنها يومياً في فقد الأحبة ومتاع الدنيا الذي قد لا يعوّض قط فضلاً عن ضياع العالم الوحيد الذي ألفوه والذي ما ألفوا سواه رغم سنوات الغربة والشتات.
بين هؤلاء من كانوا خلال أشهر الحرب الأولى يأكلون من شحمهم ، وهم الان يأكلون من لحمهم الحي ويدركون أنهم على موعد غير بعيد من ان يأكلوا من العظم ذاته. ذلك مما يضاعف التلف النفساني الذي لا حدود له.
وهناك كثيرون يأكلون من لحم ذويهم المغتربين ويدركون أن ذلك اللحم يكاد يحتك احتكاكاً بالعظم.
رغم كل ذلك فهم جميعهم متجملون. ما يحتل بالهم ليس بالمستقبل البعيد وانما اللحظة الحاضرة: كيف يمكن للستر أن يسود ولشرف الأسرة والأهل أن يصان.
• القراء يذكرون شغبة المرغمابية وكيف كانت تقود قومها بسلطة الشعر للثأر من البطاحين وكيف أرغمت ولدها على الإشتراك في المقاتلة بأن نفضته تبرءاً منه:
يا حسين انا ماني أمك
وإتّ ماك ولدي
بطنك كرّشت غي البنات ناسي
ودقنك حمسّت جلدك خرش ما في
(……….)
متين يا حسين اشوف لوحك معلق
لا حسين كتل لا حسين مفلق
لا حسين ركب للفي شايتوغلق
قاعد للزكاة ولقيط المحلق
———
القاريء يدرك أن حسين هذا ليس نموذجاً لأهلنا في السودان، بطونم ما كّرشت وجلودهم تكسرت فيها النصال على النصال وهم مضروبون لا بالأسلحة البدائية ولكن بالدانات والقصف بالطائرات والمسيّرات. كما يدرك أنه ليست هناك زكاة تتم جبايتها أو ايتاؤها لأن لا أحد سوى الكيزان وقادة الجيش والجنجويد قد يضمن قوت يومه دع عنك قوت العام.
• هناك حكاية القسيس الذي قال للأم المكلومة بفقد وحيدتها التي كانت تتأهب للزواج : “لا تحزني إنها الآن في نعمة مع الرب خالقها. فقالت له: لا اريد لها أن تكون مع الرب. أريدها أن تكون معي أنا. وللمناسبة أين كان هو ونحن نلهث لهاثاً بحثاً عن السلامة والنجاة؟”.
فاتني أن أسمع رد القسيس ولكن يبدو أن الرد كان مفحماً لأن السيدة المكلومة سكتت عن الكلام المباح وزاولت التردد على الكنيسة في الأحاد المقبلة.

مثل ذلك السؤال لا محل له في السودان. كما قد لا يمكن اللجوء الى مقايسة ديزموند تيتو عند سؤاله للرب: مع من يقف ؟ مع السود أم مع جلاىديهم . ؟ ذلك قد يتيسر بشيء من التوضيب بحيث تسأل الرب تعالى َمن بين االمدنيين والمسلحين النتنين هو الجدير بأن يكون الأقرب اليه.
• أجابة أهلنا المدنيين على الرزايا التي تأتي بها الحرب يومياً هو قولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا يجمل بأحد لوم شعبنا على أنه سلّم أمره الى الله وليس لدينا نحن ما نقدمه له سوى عشم بأن الأمور لا يمكن ان تستمر على هذا المنوال . بل لا يجمل بأحد الأسى أذا أضحت تلك العبارة شعاراً لحزب سياسي خصوصاً والعديد من اهلنا ينطقونها ك: “حزبنا الله ونعم الوكيل”

ذلك القول يصفونه بإنه “أعظم سلاح يحمله المؤمن في الأزمات ويلجأ اليه في الملمات ويتحصن به في الكربات”. قلت لا يجمل بأحد الإعتراض على أن يكون ذلك القول شعاراً لحزب سياسي: اما أن يكون هو البرنامج والخط السياسي لحزب سياسي فهو أمر يدعو الى المزيد والمزيد من التأمل. ذلك اننا في حال يكون فيه من في يده السلاح ما بيكتب نفسه شقيأً بل يكتب الآخرين أشقياء لأجيال وأجيال.
• ليس بين القراء من لم يسمع بحسن الطاهر زروق: وهو أول شيوعي إفريقي أوعربي يفوز بانتخابه عضواً في برلمان ديموقراطي. كان حسن الطاهر في كوبر فأخذ أحد المعتقلين الشباب على نفسه خدمته بحكم السن والمكانة. ويبدو أن حسن الطاهر تعوّد على تلك العلاقة باعتبار أنه كان معلماً وبأعتبار أن صغير القوم خادمهم. المهم هذا الشاب المعتقل شرع في التقاعس عن الأداء الفوري للمهام بسبب إنشغالاته فيما يبدو، حينئذ قال حسن الطاهر له: “يعني اللي يعتمد عليك يتكل على الله وبس”. للقاريء المتربص اقول إن ذلك يعني ان حسن الطاهر زروق كان يفهم “اعقلها وتوكل” كما كان يدرك معنى الأخذ بالأسباب.
وللقاريء الذي ما زال يظن الظنون بحسن الطاهر زروق لماذا لا أنقل له ما كتبه في جريدة “السودان الجديد ” في اول سبتمبر العام 1945، أي قبل نحو ثمانين عاماً ؟.
“لاسبيل أمام العالم سوى نظام أُممي يستند الى مصالح الإنسانية برمتها ويؤدي بالعالم الى أن يرتب حاله على نسق يقترب من الإشتراكية. ولا حاجة الى أن يكون ذلك النسق مماثلاً للنظام الموجود في روسيا والذي له ظروفه الخاصة به، ولكن يمكنه الإنتفاع من التجربة الروسية العظمى مع تفادي نواقصها في الوقت ذاته وهي غياب ضمانات حرية الفرد وسلامته وكذلك عدم تثمين دور الدين في حياة الأمم”.

حسنالطاهر زروق هذا كان من أبرز المتهمين في قضية أنصار السلام وأكبرهم سناً
• في هذه المقالة بالغة الطول أبدأ بسرد موجز لحال يسار ذلك الزمان ثم ادلف الى كشف بعض حال الشيوعيين في بلد القاضي تردول، الذي نظر القضية، بما في ذلك من صلة بين البلدين في هذه الصفة. ثم أسعى لتقديم وصف للمحاكمة مشيراً بشيء من التفصيل الى بعض المتهمين ومن ثمة ألتمس أن يكون الختام محاولة لفهم معنى حضور مثل ذلك التاريخ في زماننا. وإن كان يعيننا في الإجابة على السؤال الأزلي: ما العمل؟ .

..أهم مصادر هذا الجزء هو الوثائق البريطانية السرية التي حان أوان الكشف عنها. ولقد أمدني بروفسور فاروق محمد إبراهيم من على البعد بالقسم الأعظم مما كنت في حاجة اليه. بيد أن مدد بروفسور فاروق الذي لم يكن لي غنى عنه قط تمثل في ذخيرة المعلومات عن اسماء بعضها ضاع في خضم الضجيج السياسي . أمد الله في عمره ومتعه بالعافية والصبر الجميل.

وهناك شهادات أو إفادات شخصية شفهية او مكتوبة تناثرت كمقتطفات من مطبوعات لحركة اليسار المصري وغيرها فضلاً عن كراسة د. جعفر بخيت “النشاطات الشيوعية في الشرق الأوسط بين عامي 1919 و1927 باشارة خاصة الى مصر والسودان وكذلك كتيب د. محمد نوري الأمين حول بروز حركة اليسار وتطورها في السودان خلال الثلاثينيات والأربعينيات.
وهناك بالطبع نسخ جريدة الرأي العام التي جاد بها من مقتنياته، مشكوراً، د. فيصل عبد الرحمن علي طه والتي سجلت المحاكمة بحذق ودقة والتي لولا إمداده لي بها ما كان لي أن أقف على تلك الصفحات من تاريخنا. هو الآخر أمدني، مشكوراً بمراجع ووثائق تتصل بالحركة الوطنية في سياق ترجمتي الى الإنكليزية كتابه: “السودان على مشارف الإستقلال الثاني”..
*
2 – يسار ذلك الزمان الماركسي
ورد في تقرير حرره في نوفمبر العام 1949 مفوض الشرطة واعتمده سير جيمس روبتسون السكرتير الإداري ان عدد سكان السودان بلغ وقتها سبعة مليون ونصف مليون نسمة اي ميل مربع لكل 8 أشخاص. نصف مليون من هؤلاء يسكنون في 17 مدينة وبلدة رئيسة أكبرها امدرمان التي كان سكانها 117 ألف نسمة وأصغرها واو وكان سكانها 6 آلاف نسمة. الملايين السبعة المتبقون يعيشون في مناطق ريفية . هناك 31 الف أجنبي. .بينهم 16,340 مصري 570, 6 أوروبي وأمريكي .
——–
القاضي تردول، قاضي جنايات الخرطوم ، الذي ينظر القضية، عليم بالأدبيات المتعلقة بالحياة السياسية في البلاد. تقارير الاستخبارات الأسبوعية والدورية تنمو الى علمه بصفته طرفاً في جهاز الدولة الإستعماري .
أنه عليم بتقارير من عينة “الشيوعية في السودان” كما هوعليم بالقوائم التي تحوي أسماء وتفاصيل هوية العشرات بل المئات من أعضاء الحركة السودانية للتحرر، ( حستو). وهو عليم كذلك بهويات بضع بريطانيين لعبوا دوراً في نشرالشيوعية بين الشباب السودانيين.
بيد أن علمه هذا لا ينفعه لا في دنيا ولا في آخرة لسبب بسيط انه ليس علماَ قضائياً من المسلمات البديهية التي لا خلاف حولها مثل عدد ساعات اليوم او ايام الأسبوع أو تعداد السكان.. ما هو خلاف ذلك يلزم ان ينبني على تهمة محددة ذات اركان محددة يقوم مدع بتقديم البينات المقبولة لدى المحكمة بشأنها .
بذلك فان تقرير مفوض الشرطة أو السكرتير الإداري ذاته حول النشاط الشيوعي لاحد المتهمين ليس بينة في حد ذاته.
وكذلك ان يقول السكرتير العام للجنة انصار السلام إن خالدة زاهر عضو في اللجنة لا يكفي لإدانتها بتهة الإنتماء الى تلك اللجنة .
بعض تلك الإفادات قد تتصل بهؤلاء المتهمين. خذ مثلاً المتهم حسن الطاهر زروق:
جاء في تقرير من مكتب السكرتير الإداري في 22 أكتوبر1950 عنوانه “ملاحظات حول النشاط الشيوعي في السودان” إن حسن الطاهر زروق ابتدر في 12 سبتمبر ما اسماه ’جبهة السلام’ وتم له طبع استمارات وتوزيعها للحصول على توقيعات من السودانيين تعارض الحرب واستخدام القنبلة الذرية وفقاً لنداء مؤتمر استوكهولم للسلام”.
ولكن كلام السكرتير الإداري وحده لا يشكل بينة ولا يدخل في نطاق العلم القضائي الذي يلزم التسليم به. القاريء سيجد بعد وهلة ما فعله القاضي تردول بمثل هذا القول.
إنه يدرك شخصياً أن هناك منظمة اسمها الحركة السودانية للتحرر تكونت أولى خلاياها فيما يقال عام 1945 في كليتى الخرطوم الجامعية وفي عطبرة بعد توافق مجموعة سودانية تعمل في اطار الحركة المصرية للتحرر خلال الدراسة في الجامعات المصرية مع عناصر سودانية مقيمة في السودان كانت قد تلقت ادبيات عن الشيوعية والماركسية من اجانب في البلاد بينهم بريطانيون واجانب مجندون ومهنيون امثال هيربيرت ستوري.
ووفقا لمذكرة حررها مفوض الشرطة حول الشيوعية في السودان في ديسمبر 1949 فإن هناك “عدداً من البريطانيين بينهم عناصر تعمل في خدمة حكومة السودان احدهم محاضر في كلية غردون التذكارية وآخر على الاقل يعمل في شركة النور هؤلاء، على حد علمنا، لم يكن لهم هناك حتى الآن ضلوع في دور ايجابي لنشر الشيوعية ولكن من العسير قياس درجة نفوذهم وتأثيرهم. (….) وليس هناك دليل على أنهم اعضاء في الحزب الشيوعي البريطاني” .
ولكن حين اشارت المذكرة الى وجود عناصر شيوعية قائدة في مصر تدربت في روسيا طلب ديفيد ماكلين القنصل البريطاني في القاهرة من السكرتير الإداري، سير روبرتسون الإفاضة، اجاب الأخير بان ذلك التقرير مبني على معلومات بلغت مفوض الشرطة في الخرطوم من مصدر سوداني صلاته على تواصل مع عملاء الشيوعيين في القاهرة. ديفيد ماكلين رد على سير وبرتسون باقتضاب قائلاً : أليست هذه المعلومة مستندة، فوق ما ينبغي، على بينة أوهى من أن تصلح تقديمها كحقيقة؟ .

• وكذلك فإن السير جيمس روبرتسون، السكرتير الإداري، كتب تقريراً “شخصي وسري للغاية” بتاريخ 8 ديسمبر العام 1951. مرسلاً الى مجهول ولكن يبدو أنه تقرير شهري يفيد:
أنه كانت هناك “اضطرابات طفيفة تماماً كما إن جهود الأشقاء وجبهة الكفاح لإستثارة المشاعر المناهضة للحكومة قد باءت بالفشل”.
وأضاف: “سبب ذلك، عندي ، هو أن معظم السكان راضون عن الإدارة الراهنة لشئون البلاد وعن سياستها المتمثلة في التقدم المتئد المضطرد. وفي حديثي مع الصحفيين والزوار الأجانب كنت أردد أن ذلك هو السر. حيث أن كتيبة واحدة قوتها بين 600 و800 رجل علاوة على 150 من الضباط السياسيين و 12 من ضباط الشرطة و50 من ضباط قوة دفاع السودان مبعثرين على طول وعرض مليون ميل مربع لا تستطيع السيطرة على 8 مليون سوداني رغم أنوفهم . لا ريب أنهم راضون عن حالهم” .
• مثل هذه الحجة لا تختلف عندي كثيراً عن أن يتباهي باشكاتب في معسكرات الإعتقال النازية بأن حفنة من الحرس المسلحين بالأسلحة الخفيفة التابعين له قادرون على السيطرة على ستة ملايين من اليهود والغجر والشيوعيين والمثليين بحيث أنك لا تسمع منهم حتى أنة احتجاج قبل توجههم الى المحرقة.

سير روبرتسون يتناسى أن الناس يتعلمون من تجاربهم. إذا كانوا قد أدركوا أن قتل الأهالي لكلب تابع لقوات الإحتلال يعني إذاقة المر لقريتهم فإنهم يتركون الكلب يمرح على هواه. ذلك السلوك يلزم ألا يوحي لقوات الإحتلال ان الأهالي رفيقون بالحيوان على وجه الخصوص.
———
سجل المقاومة للإحتلال الثنائي يدل عليه عدد الإعدامات التي تم تنفيذها على السودانيين. تلك لا تشمل تقتيل قوات الإحتلال لأنصار ود حبوبة المسلحين بالسيوف والحراب وحدها ومن ثمة إعدام شيخهم في قرية مصطفى قرشي في العام 1908 وحسب وإنما، بالمثل، إعدامات أبطال ملحمة 27 و28 نوفمبر 1924 التي قتل فيها الإنكليز عبد الفضيل الماظ وجنوده قبل إعدام رفاقه حسن فضل المولى وثابت وسليمان محمد في 5 ديسمبر1924، شهداء الجمعية التشريعية فضلاً عن أعمال المقاومة القبلية في جبال النوبة وكذلك شهداء دينكا أجار الذين كانوا قد قتلوا الضابط البريطاني سكوت باربوو في العام 1901 والنيام نيام الذين واجهوا فصيلة كابتن ود عام 1903 والأنواك الذين قتلوا ثلاثة ضباط بريطانيين وثلاثة ضباط سودانيين و42 جندياً ثم هناك عصيان الشلك عام 1915 وعصيان النوير في أعوام 1913 و1914 و1917 علاوة على أدعياء المهدوية والعيسوية الذين يتم شنقهم بعد تكفيرهم (محمد عمر بشير – تاريخ الحركة الوطنية في السودان)
• ليست الأعمال المسلحة والإضرابات والمظاهرات، كما يدرك القارىء، هي أساليب التعبير الوحيدة عن رفض وجود المستعمر أو عدم الرضى عنه.
هناك كلمات مأثورات شعراً أم نثراً، تحمل معاني الجسارة والتحدي ونكران الذات وهي التي تبقى عبر الأزمنة، هي من تراث شعبنا الذي يستمد منه اليسار الإلهام، دون اي إدعاء باحتكاره: خذ عندك قولة ود النجومي: جبة مطروزة وحربة مركوزة وهو يكاد لا يقوى على الوقوف من شدة الجوع والرهق، وقولة عثمان دقنة للصديق الذي خانه وابلغ الإنكليز بمكان تواريه: ’علك ما بعتني رخيص’ وقولة ود حبوبة وقد افاده: الطليعة بان عسكر الحكومة قادمون والله يهوُن القواسي :’ قاسية متل دي ما بتهون’. وصيته الوحيدة أمام المشنقة هي تسليم سرواله بعد الشنق الى بنات عمه ليتحققن أن خاتمته جاءت بريئة من علامات الضعف والإنهيار، القاضي الذي حاكمه في الكاملين اسمه نيبلوك ولا أحد يذكره بالخير. يذكرون كلمات رقية بت حبوبة عن شقيقها:

اللسد النتر بي جيهة الأبقار
لمولو الأورط شايلين سلاح النار
ود حبوبة قام ورتب الأنصار
في كتفية ديك كم شبعن صقار

وعبيد حاج الأمين مخاطباً المحكمة: “أنتم تستطيعون أن تحاكموني ولكن لن تستطيعوا الحكم علي فإن هذا للشعب وللتاريخ”.
القراء قد لا يذ كرون ان القاضي الذي حاكم عبيد أسمه اوزبرن ولكنهم يذكرون، أغلب الظن، ما كتبه
توفيق صالح جبريل عن عبيد:
جاهدت لا متبرماً تخشى الردى
وسهرت تعمل والأنام هجود
وارتك أكتاف الخلود مناضلاً
بيني وبينك يا عبيد بعيد
والقراء يذكرون صوت العازة زوجة علي عبد اللطيف رداً على من عرض تكريمها بقطعة ارض سكنية: ” نحنا جُدنا وضّحينا بالدم نرجع نتدنى في ايه؟” .
ومن بعدها صوت قاسم أمين وقد خرج لتوه من السجن في 23/8/1948 مخاطباً مؤتمراً عمالياً حاشداً:
“من لي بالقاضي الذي حاكمني، بل من لي بحكومة السودان لأقول لها في جرأة بالغة وفي تحد ظاهر: “إنني قد عدت” .
• ورغم ان اهل اليسار السوداني كانوا على صلة بأعمال شعراء شيوعيين وتقدميين مثل كمال حليم والبياتي والجواهري وحتى التركي ناظم حكمت، إلا انهم كانوا بطبيعة الحال يجدون النشوة والإلهام في اعمال ماركسيين وتقدميين سودانيين. القاريء عليم بهؤلاء وباعمالهم.
القاريء عليم أيضاً باغنيات الخليل الوطنية وبام ضفائر والتي يطلب منها عبيد عبد النور أن تقود الرسن الى وطن الجدود ويا غريب بلدك وغيرها.
• (في الوثائق البريطانية المتاحة لا أجد إشارة فصيحة الى الدور البريطاني في وجود اليسار الماركسي كرد فعل علي الإحتلال البريطاني وكيف أن البنية التحتية التي فرضها الإحتلال تلبية لإحتياجاته كانت مكوناً هاماً للمناخ التي جعل نشوء اليسار ونموه أمراً ممكناً. المكونات الأخرى لتلك البيئة معلومة لدى القاريء بينها ظروف إقليمية ودولية بخاصة الحرب الثانية التي ابرزت وجود نموذج غربي آخر مختلف بخاصة بعد تجربة ستالينغراد) .

وقبل ذلك، وخلال الثلاثينيات عرفت امدرمان أندية المطالعة مثل نادي الكتاب اليساري الذي قدم للقراء بعض كتابات كارل ماركس ومفكرين إشتراكيين آخرين. بل ان العشرينيات عرفت اسماء سودانيين تعرفوا بطرق شتى على مباديء الشيوعية وعمومياتها فيما يفاد: محجوب عمر باشري يقول إن صالح عبد القادر كان في العام 1922 رائداً للتبشير بالماركسية. ومحمد عمر بشير يذكر أن احمد حسن مطر – سندباد سوداني – كان يرسل الى السودان منشورات شيوعية. ومن بين عناصر انتفاضة 1924 هناك علي عبد اللطيف الذي كان وفقاً لمحمد عمر بشير يتلقى ادبيات شيوعية من استوكهولم. أما عنصر 24 الآخر الذي كان على صلة اوثق بالأدبيات الشيوعية فهو علي حاجي الذي انقلب الى شاهد ملك خلال محاكمة ثوار 24.
يمكن القول إن تجربة الحرب الثانية وما أبرزته من البسالة الأسطورية للجيش الأحمر والشعوب السوفياتية جعلت الإقتراب من الفكر الإشتراكي والشيوعي أقل صعوبةً ، ويشهد سجل جدول الأحداث الرئيسة المرتبة زمنياً وفق سجل “الوثائق البريطانية حول نهاية الإمبراطورية” بغنى الحياة السياسية في البلاد خارج قاعة محكمة جنايات الخرطوم خلال السنوات الأخيرة.

المستر مكل ، ممثل الإتهام في القضية ، سأل شاهد إثباته الأول قمندان الأمن، بابكر افندي محمد الديب:
’’هل تعرف شيئاً عن حركة انصار السلام بالسودان؟’’
إجابة الديب كانت نموذجاً لعقلية الكوار التي تم التعامل وفقها مع النشاط الشيوعي.
قال : “ان ما تسمى بهيئة تحريرالسودان الوطنية كانت تعمل خلال الأربع سنوات الأخيرة في الظلام وكان هدفها ان تخرج بين وقت وآخر منشورات بالرونيو تحوي الحض على الكراهية وكان مصدروها يصفون فيها انفسهم بأنهم شيوعيون”.
ورغم أن إنجاز منشور بالرونيو وتوزيعه هي عمليات لا يمكن التهوين منها إلا أنها لم تكن جوهر عمل حستو، فيما أحسب.
هناك تقرير حكومي عنوانه “الحركة السودانية للتحرر الوطني” يرصد تفاصيل منشورات الرونيو التي أصدرتها حستو منذ سبتمبر العام 1947 حين صدر منشور لها في عطبرة يدعو العمال الى الإضراب وفي ديسمبر 47 صدر منشور ثان في عطبرة وفي العاصمة المثلثة يدعو العمال الى الإضراب والشعب للكفاح ضد حكومة السودان الإمبيريالية. التقرير كتبه مدير الأمن في 3/2/ 1949
المنشور الثالث صدر في عطبرة في فبراير العام 1948 والمشاعر مهتاجة.
المنشور الرابع في 7/3/48 في عطبرة وبربر والعاصمة المثلثة قبيل أيام من إضراب السكة الحديد الذي استمر 33 يوماً وكان موجهاً ضد الجمعية التشريعية كما دعا الجماهير الى مقاومة الحكومة وإبطال مشروعاتها. ونادت بحياة الشعب المصري والشعب العراقي.
المنشور الخامس في 3/4/48 الإضراب ما زال قائماً والمنشور يدعو الجماهير لمواصلته مشيراً الى أن الإضراب هو الأنجع كما تأكد في تجربة المصريين والعراقيين والعالم أجمع.
المنشور السادس في 18/9/48 بعد يومين من الحكم ضد سليمان موسى واستخدام المسيل للدموع ضد المتظاهرين في عطبرة تم توزيعه في العاصمة مطالباً بالمقاومة الخ كما فعل المصريون والعراقيون.
المنشور السابع بعد شهرين من السادس التوزيع في السينما والشوارع -اعتقال شخصين متلبسين بجناية توزيع المنشورات.
قبل ظهور هذا المنشور وردت معلومات تفيد ان المنشورات هي من عمل طلاب كلية غردون وإثنين منهم هما أحمد اسماعيل النضيف ومحمد عمر بشير وكان معلوماً أن لهما صلة باحمد محمد خير وهو معلم في المدارس الأهلية.
تم تفتيش الثلاثة. لم يتم العثورعلى ما يربطهم بالمنشور ولكن ُوجدت في حيازة النضيف وثائق تشهد ان الحركة السودانية للتحرر الوطني هي في واقع الأمر منظمة شيوعية منبثقة من او مرتبطة بمنظمة شقيقة هي حدتو: الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني المصرية.
ثم انصرم شهران قبل ظهور المنشور الثامن في 10/8/ 1948. التوزيع تم في العاصمة المثلثة تحت عنوان: ’حطّمواالمشاريع الإستعمارية’. ودعا المنشور الجماهير الى النضال ضد الحكومة كما هاجم حزب الأمة والنقراشي والزعامات المهزوزة المترددة (اي الاحزاب الإتحادية). مع هذا المنشور تم توزيع منشورات يبدو أنها صادرة عن حدتو (الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني) المصرية وهي مطبوعة في مصر. وجري توزيع منشورات مماثلة في مدني والابيض وهي تهاجم النظام الراسمالي وتصور معاناة الجماهير.
انصرم شهران آخران قبل ظهور المنشور التاسع في 9/10/1948 في العاصمة المثلثة وعنوانه ’الموت لمؤامرات الإستعمار. أما المنشور العاشر فكان عنوانه’ حطموا القوانين والنقابات الزائفة.
وتم توزيع المنشور الحادي عشر في مدني والعاصمة المثلثة في 4/11/ 1948 ونادى المنشور بسقوط الحكومة الإستعمارية كما هتف بحياة الكفاح ضد الظلم والإضطهاد. وهاجم ازهري واصفاً إياه بأنه حزب الأمة الخاص بالقاهرة.
المنشور الثاني عشرجرى توزيعه في 23/11/1948 أي بعد عشرة أيام من الإضطرابات التي عاشتها العاصمة المثلثة والتي صاحبت انتخابات الجمعية التشريعية. وكان عنوان المنشور ’نظموا صفوفكم ضد الإستعمار وأذنابه ’وأضاف المنشور ان المستعمر عبأ صفوفه في الثالث عشر والخامس عشر من نوفمبر فاُريقت الدماء وقُتل كثيرون. وطالب المنشور الجماهير بتسليح نفسها بالعصي الغليظة والحجارة والقوارير الفارغة لمواجهة الشرطة كما ناشدها بتنظيم المواكب والمسيرات.
ويحسب مدير جهاز الأمن الذي أصدر هذا التقرير فان هناك ما يشير الى ان هذا المنشور مطبوع بجهاز الجيستيتنار رونيو التابع لرئاسة قوة دفاع السودان .. وهناك احتمال أن يكون جهاز رونيو اشتراه مؤتمر الخريجين قبل وقت قريب قد جرى استخدامه لطباعة منشور آخر.
واورد التقرير عشرين اسماً وصفها بأنها لاشخاص ضالعين في ذلك النشاط. وضمت القائمة احمد محمد خير وعوض عبد الرازق وحسن الطاهر زروق.
الشعارات الأثيرة لدى المواكب والتظاهرات والليالي السياسية هي : ’أحرار أحرار وضد الإستعمار، ’عاش كفاح الشعب’، ’عاش كفاح العمال’، ’عاش كفاح الفلاحين’
ولكنهم لا يهتفون بحياة ملك وادي النيل.
ومنذ كتابة هذا التقرير تم توزيع ثلاثة منشورات اخرى.
والمنشورات الثلاثة موجهة الى الشعب السوداني ولأول مرة يصف مصدر المنشورات أنفسهم باعتبار أنهم ’الشيوعيون’ وينادون بسقوط الكتلتين السياسيتين ويدعون الجماهير الى تكوين جبهة وطنية مكونة من العاملين (الطبقات العاملة). المنشور الثاني كان عنوانه :’يا عمال السودان اتحدوا’.
المنشور الثالث تم توزيعه في 24 يناير 1949 وعنوانة ’يا سواقي التاكسي اتحدوا’. وكان المنشور الثاني قد حيا اضرابهم وطالب سائقي الترماج والبصات بالإضراب تضامناً معهم.
(وفقاً لشهادة بوفسور فاروق فان نقابة سائقي التاكسي كانت ثورية تماماُ وكانت هناك عناصر ثورية تتطلع بصدق الى الإنخراط في تلك المهنة فتفوز بعضوية النقابة لكي تناضل وتناضل وتناضل-
• ورغم مقدرة أجهزة الأمن الفائقة على رصد مكان وزمان صدور كل منشور فضلاً عن محتواه إلا إنها ظلت عاجزة عن وضع يدها حتى على بالوظة واحدة ، دع عنك اجهزة الرونيو الفاخرة مثل الجيستتنار,
كان ر- الن من الدائرة الافريقية في الخارجية البريطانية قد طلب الى السكرتير الاداري سير جيمس روبرتسون في السابع من يونيو 1951 التنوير حول فاعلية سلطات حكومة السودان في اعاقة تفشي النفوذ الشيوعي في المدارس والحركات الشبابية والنقابات وما الذي يتم القيام به لتشجيع الانضمام الى الكونفيدرالية العالمية الحرة لنقابات العمال والى حركات الشباب المعافاة ذات الطابع اللاسياسي او اللبرالية. يمكن للقاريء ملاحظة الدرجة العالية من السذاجة التي يحملها تحليل السكرتير الإداري الصادر في15 يوليو 51 ورقمه:
FO 371/90125 , No 10″
وفيه يقول:
“يبدو اننا هنا أمام خطر الخلط بصدد معنى مفردة “شيوعية” .
في السودان لدينا نوعان من الشيوعيين: النوع النظري “الايدولوجي الصرف المنطلق من المدارس العليا والنوع الجهول الذي يعاني من عقدة النقص المنطلق من “مشاعر الكراهية والمخاوف التي تكتسح افريقيا حالياً. انني افضل تسمية النوع الأخير “الثوريون”- النوع الأول هم الشيوعيون الحقيقيون: نجدهم في مختلف مشارب الحياة وبخاصة كمعلمين في مدارسنا و عندي انهم يمثلون الخطر الاعظم. هؤلاء نسعى لإبعادهم عن المدارس ومما لا شك فيه ان محاكمات انصار السلام، التي جرت بمقتضى الامرالذي اشرتم اليه والذي ارسلت اليك نسخة من التقرير بشأنها :
SEC /171108 of 25/06/51O)
قد تركت اثراً حقيقياً في وقف النشاط العلني وقد يساعد هذا في جعل السودانيين يترددون قبل السعي الى المنظمات الشيوعية الاممية او ضم منظماتهم اليها.
ارسلنا مؤخرا فضل بشير عضو الجمعية التشريعية ومحرر صحيفة عمالية الى اتحاد النقابات الحر، ولا نمنح او نعتمد جوازات سفر الى اي بلد تحت النفوذ الشيوعي واذا ساورنا الشك في أن احدهم ينوي حضور اية فعالية شيوعية في الخارج فاننا نقوم بابلاغ الجهاز الخاص بمخابرات الشرق الأوسط .
وهناك رجل واحد قام بذلك (الإشارة الى آدم علي آدم أبو سنينة، دون ريب).
وفي صدد منظمات الشباب المعافاة اللا سياسية لدينا الكشافة وعدد افرادها 4000 كشاف والطوائف الدينية الثلاث لها تنظيمات شبابها وطالما ظللنا نضمنهم فان تنظيماتهم تلعب دورا إيجابيا في إبعاد الشباب عن المقاهي”.
ويمضي التحليل:
“المطلوب في نظري سياسة الصبر والمثابرة والحزم، إن لزم. بالنسبة للايدولوجيين، فان لدينا جماعات عديدة للمناظرات والمحاضرات ويمكننا تشجيعهم على الإنضمام الى الجمعية الفلسفية. وللثوريين نسعى الى تحسين شروط الخدمة وجهودنا في هذا الصدد تحقق حالياً شيئا من النجاح.
– العوامل الاقتصادية من تضخم عائد الى ارتفاع اسعار القطن وارتفاع اسعار الضروريات توفر تربة خصبة للنشاط الهدام واتنبأ بان ذلك الخطر ماثل ويرحب به الشيوعيون النظريون والثويون معاً””
(كان تعليق ألن “هذا صحيح تماماً .. من المشجع ان رضا النفس ليس سائداً بين علية الرسميين في السودان، على أي حال. في حين يلزمنا ان نبقي واضحاً التمييز بين الشيوعيين والثوريين فان عملياتنا الدعائية يلزمها عدم الإشارة الى ذلك”) .
• معلوم ان حستو كانت مشغولة بحياتها الداخلية ايضاً. كان ذلك يتمثل في التعرف على الفكر الماركسي وتقديمه بعربية مفهومة وبالتثقيف والتثقيف الذاتي وبمهام نشر الوعي الجديد.
التمس التعرض هنا لتجربتين من أعمال حستو الأولى تتصل بالعمل النقابي وسط عمال السكة الحديد والأخرى تتصل بالجهود لتنظيم قوة نظامية هي رجال الشرطة في تنظيم مهني.
في الحالتين نعتمد بالمثل على ردود افعال تلك الجهود.
ومعلوم أيضاً أنه كانت هناك حركة وطنية متسعة المدى تعلّم اليسار منها ورفدها وعمل حيناً من داخلها ذلك لأنه جاء في الأصل لإتمام مكارمها لا النيل منها أوتصيد نقائصها. تقاليد العمل الوطني كانت في المتناول على المستوى الأسري إن لم تكن من تجربة الإحتكاك بمعلمين يساريين. (خد عندك على سبيل المثال: التجاني الطيب والده شاعر ومناضل معروف ضد الإستعما ر .. أسموه المّظّاهر بسبب قيادته لمظاهرات الإحتجاج واحمد سليمان خاله البدري الريح الوطني المصادم والشفيع والده تشهد له تليغرافات التأييد أمام المحاكم لمواقف ابنه ورفاقه وبدر الدين والده محمد أحمد سليمان التربوي الوطني الغيور وهناك بالطبع ألوف تلقوا قيم العفة والجسارة ونكران الذات من امهاتهم ومن غمار أهل بلادنا، مباشرة.
• في الثاني من يناير 1949 كتب سير جيمس روبرتسون الى كلوتون، في الدائرة الأفريقية للخارجية البريطانية “إن العامل الأعظم في دخول الشيوعية الى السودان يتمثل في سياسة الحكومة المصرية الرامية الى تقديم منح دراسية في الجامعات المصرية للطلاب السودانيين. بدأت هذه السياسة بزيارة السنهوري الى السودان في يناير 19461946. في وقت لاحق ضلع الطلاب السودانيون في مواجهة السلطات المصرية وانجرفوا نحو الأندية والجمعيات الشيوعية. إن هؤلاء عادةً ما يكونون دعاة اشداء لدى عودتهم الى السودان.
لا علم لي بالسبيل الذي يمكن للسلطات التربوية والتعليمية انتهاجه للتعامل مع هذا الوضع .. إن ضغطاً من حكومة صاحب الجلالة على الحكومة المصرية لوقف مشروع هذه البعثات يبدو لي أنه الحل الوحيد في نظري” .

القاريء يلاحظ ، دون ريب ، أن السير جيمس روبرتسون لم يذكر لماذا يتلهف الشباب السوداني على الإنتفاع من منح السنهوري. إنهم لا يذهبون الى مصر للتزود بالمعارف الماركسية ولكي يذوقوا المر على أيدي جهاز القمع المصري الشرس. لو كان هناك تعليم جامعي في سعة احتياجات البلاد وطموح شبابها ومقدراته لبقي ابناء السودان داخل حدوده بعيدين عن خطر نقل الفكر الغريب ما لم يُجد به البريطانيون المقيمون والزائرون!.
في عام 50 -1951 الدراسي، مثلاً، حصل 15 طالباً سودانياً فقط على بكلاريوس الآداب أو العلوم من جامعة لندن عبر كلية الخرطوم بينما قنع 65 آخرون بدبلوم الكلية.
وكذلك فإن افتتاح المعهد العلمي ما بدا أمراً يهم الدوائر البريطانية في السودان قط . لو كان لدينا معهد راق لدراسات الدين والعربية لقل عدد الراغبين في الدراسة الأزهرية.
. سير جيمس كان في حاجة الى أن يدرك ما كشف عنه هنري كوريل (1914 -1978) من أن حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) كان لها قطاع في الأزهر يشمل كليات اصول الدين والشريعة واللغة العربية ومجموعة أخرى في المعهد الثانوي المؤدي الى الأزهر. اجتماعات لجنة الأزهر كثيراً ما كانت تتوقف في أوقات الصلاة كما ان احد طلاب الأزهر نظم قصيدة من خمسمائة بيت في مدح الديالكتيك.
في هذا المضمار هناك رسالة “سري للغاية” كتبها السكرتير الإداري الى كلوتون – دائرة إفريقيا في وزارة الخارجية في الثاني من أكتوبر العام 1949 يشير فيها الى انهم تسلموا تقريراً حول نشاطات الطلاب الأفارقة في بريطانيا وإنهم سعداء حقاً بان الطلاب السودانيين هناك لم يأت ذكرهم بسوء قط.
يعني كان بوسع السكرتير الإداري ترتيب منح سنهوري انكليزية في المملكة المتحدة حتى لا يعود المبعوثون الى البلاد حاملين التعاليم والمهارات الشيوعية. ولكنه آثر في رسالته الى كلوتون، مسوؤل الخارجية البريطانية أن يقول: “أن ضغطاُ من حكومة صاحب الجلالة على الحكومة المصرية لوقف مشروع هذه البعثات الدراسية يبدو لي الحل الوحيد في نظري.”لا يبدو أن نظر السكرتير الاداري يأبه بحقيقة أن عدد الأطباء العموميين العاملين في السودان عام 1951 كان 78 طبيباً عموميا لا غير.
• جاء في “الوثائق البريطانية حول نهاية الإمباطورية ’المجلد الخامس من سلسلة ب’” ان إضراب عمال السكة الحديد في يوليو والذي انتهى باعتراف الحكومة بنقابتهم ممثلة لهم كان من بين اهم خمسة من أحداث العام 1946 – العام 1947، (ومن بين الخمسة أيضاً تعيين روبرت هاو حاكماً عاماُ على السودان) .
• وتشهد تلك الوثائق أيضاً، بغنى الحياة السياسية في البلاد خارج قاعة محكمة جنايات الخرطوم – خلال السنوات الأخيرة .
بروفسور فاروق محمد ابراهيم تكلم عن طوفان للحركة السياسية في تلك السنوات: الإضرابات العمالية، إضراب البوليس، حركات المزارعين، مظاهرات الجمعية التشريعية وعنفوان الحركة الطلابية وجسارتها وهي تهب تضامناً مع أعمال الإحتجاج ..أهمية شهادة بروفسور فاروق هنا والتي جاءت في سياق تذكره لقريب الله الأنصاري تكمن في انها ليست من منظور شاهد متفرج ولكنها شهادة مشارك في الحدث قريب منه على نحو أو آخر.
وهي مكتوبة بشجن ولكن بلا تفجع بحيث تصوربعذوبة حيوية ذلك الزمان. التمس من القاريء الرجوع اليها في صفحة البروفسور في الفيس بوك: سمح الغناء من خشم سيدو أي
from the horse’s mouth..
(قادة اضراب عمال السكة الحديد تم تقديمهم الى المحاكمة يوم 31 /7/1947. القاضي محمد ابراهيم النور (والد البرفسور) حكم بتغريم كل متهم مبلغ خمسين قرشا وأبدى استعداده لدفع الغرامة نيابة عنهم من جيبه ولكن محمد نور الدينً سارع وسبقه بالدفع.
يحكي بروفسور فاروق بأسلوبه العذب الرشيق كيف أنه بعد نحو سنتين من ذلك التاريخ، كان مع زميلين آخرين ا مكلفين بعمل بالغ السرية يتصل بخط أدبيات الحزب يدوياً توطئة لطباعتها بالرونيو. كانت تلك المهة تستدعي الإبتعاد عن كل نشاط سياسي علني إلا أنه بعد شهرين من ذلك العمل الممل وجد الرفاق أنفسهم بلا سابق تدبير في قيادة مظاهرة ضد الجمعية التشريعية. المحكمة برأتهم لعدم توفر الأدلة ولكن محكمة الحزب، وكان قاضيها إبراهيم زكريا، حكمت عليهم باعتبار الشهرين المنصرمين منذ المحاكمة شهري ايقاف عن الحزب فضلاً عن غرامة تبلغ 75 قرشاً للواحد (ذلك الحكم يعطي النقد والنقد الذاتي مفهوماً متقدماً وفعالاً بدلاً من الطرد من الحزب والشتائم الشخصية في الصغيرة والكبيرة) أما اعتبار الإيقاف عن الحزب عقوبة فهو يبدو إساءة ترجمة لمفردة party

• في تاريخ 5 فبراير 1948 صدرت من مكتب السكرتير الإداري مذكرة حول إضراب عمال السكة الحديد الذي جرى من 26 الى 29 ينايرالعام 1948 وحملت المذكرة الرقم
FO371 /69235,no 975
وفيها حذّرسير جيمس روبرتسون، بعد نهاية إضراب يناير، من ان اضراباً آخر يتربص على الأبواب ورسم الخطوط العريضة العامة للإجراءات العسكرية والتأديبية التي كان يعد لها لمواجهة الإضراب كما كتب، سراً، في تاريخ 14 فبراير 1948 في برقية داخلية لوكلاء حكومة السودان: “نعتقد ان هناك تأثيراً خارجياً وراء الاضطرابات العمالية لأننا لا نعتقد ان السودانيين قادرون على تقديم ذلك العرض بأنفسهم. تساورنا شكوك بصدد الشيوعيين البريطانيين (من بين البريطانيين العاملين في عطبرة) . ليس لدينا ادلة الآن ولكنا نحاول الحصول عليها.”
يمكن للقاريء ملاحظة خواف روبرتسون من احتمال ان يكون للشيوعيين البريطانيين دورفي نشاط اليسار الماركسي في السودان. القاريء ما فاتته النظرة العنصرية الجاهلة التي تعتبر عمال السودان عاجزين عن تنظيم إضراب مهني ناجح. السكرتير الإداري لم يكن بوسعه أن يدرك أن من بين عمال السكة الحديد في ذلك الزمان من هم أكثر فطنة وذكاءاً منه.
• وكان من بين الأحداث الثلاثة المهمة في العام 1948 إضراب عمال السكة الحديد في يناير ومارس والذي افضى الى أول التشريعات النقابية في السودان. ولا شك أن جهود دكتور مصطفى السيد ومن بعد ذلك جهود عبد الخالق في عطلته الدراسية العام 1947 كان لها الأثر في بناء فرع حستو الذي لعب دوراً كبيراً في إنجاز الإضراب.
• الوثائق البريطانية تتجاهل بلا ريب التأييد الشعبي العارم الذي وجده ذلك الإضراب: مظاهرات التضامن مع العمال والتبرعات لدعم أسر العمال المضربين والتي شملت حرم السيد اسماعيل الأزهري التي تبرعت بعقد ذهبي كما شملت تبرع أحد الغسالين بغسل ملابس العمال مجاناً مثلما شملت أحد الترزية الذي تبرع بخياطة ملابس العمال مجاناً. أما العمال المضربون أنفسهم فقد تبرعوا ببناء مقرين لنادي توماس ونادي النيل في عطبرة والى ذلك فقد تبرعت النساء بالمصوغات الذهبية وبالمشاركة في مظاهرات التضامن: عازة زوجة علي عبد اللطيف وخالدة زاهركانتا تقودان الصفوف المتظاهرة وبطبيعة الحال كانت حركة الطلبة في مقدمة أعمال التضامن مع المضربين.
استمر الإضراب شهراً. ويبدو أن تقرير اللجنة المستقلة قد القى بمعظم اللائمة على الحكومة لبطئها في الوقوف على مظالم العمال وشكاويهم. وحين تم الإفراج عن الحاج سليمان موسى بعد إعتقاله في عطبرة لقيادته للإضراب وإرساله بالطائرة للمحاكمة في الخرطوم، قال شاعر من عمال الورش واسمه هارون إبراهيم (برواية الحاج عبد الرحمن) مرحّباً بعودة سليمان موسى:
من تهديد حكم لبريطانيا ما اتهديتَ
بافعالك يمين لندن هناك هزيتها
دخل المحكمة ومحجوب محامي معاهُ
حين زرّ الشهود ناقل الخبربكَّاهٌ
حارالقاضي واحتارت شهودهُ معاهُ
بنينه إنهدم محجوب خلاص دكَاهُ
في شأن: التشريعات النقابية في السودان والإضراب كتب كلوتون وبيفان في 15 مارس 1949: تحت الرقم FO 371/73475 no2400
“في 11 مارس 1949 ارسل مؤتمر العمال من عطبرة إنذاراً للحاكم العام مطالباً بإلغاء قانون النقابات فوراً وإلا فسوف يجري الدخول في الإضراب في 15 مارس. لعل السيد وزير الخارجية يذكر انه بعد إضراب السكة الحديد المفتوح في السودان الذي استمر في العام الماضي لثلاثة أيام. أدخلت الحكومة عدة تشريعات نقابية وجدت القبول على الوجه العام ولكن قانون النقابات تحديداً ذلك الذي تم إعلانه في ينايرالماضي والذي كان قد تقرر أن يسري مفعوله إعتباراً من اليوم واجهته الإنتقادات. إن لدى هيئة شؤون العمال إعتراضين على ذلك القانون ” فهو يتيح حرية التنظيم النقابي للجميع على النحو الذي قد يهدد ريادة الهيئة آخر الأمر، ثانياً سيكون على النقابات الإلتزام بالتدقيق المالي الصارم لحساباتها.
ففي العام الماضي اختفت بضع آلاف من الجنيهات كان قد تم تلقيها من القاهرة” .
بدأ الإضراب في الخامسة والنصف تماما من صباح اليوم وكانت نسبة نجاحه مائة في المائة. إن هذا الإضراب قد يكون بروفة لإضراب قادم  .. الشيوعيون يبدأون عادة بإضرابات يوم واحد، فعلى الحكومة عدم ترك أي أمر للصدف. عليها أن تشرع الآن في بناء منظمة موازية مضادة” .
• أما أهم حوادث العام 1951 فقد شملت إضراب بوليس المدن الثلاثة في يونية 1951. في الفقرات التالية نتعرض لذلك الإضراب.
هناك تقارير تتحدث عن عنصر المفاجأة بشأن الإضراب ويشبهونه من حيث المفاجأة بحركة 24 المسلحة. المشكلة في نظري هي إساءة فهم لواقع الأمور: كيف تفض اجتماعاً بالقوة لجماعة ذات مصالح مشتركة وقابلية لحمل السلاح فتنفض راضية مرضية؟ .
وفي 4 يونيو العام 1951 بدا في العاصمة إضراب / تمرد البوليس في العاصمة المثلثة حين فض قمندان شرطة منطقة الخرطوم اجتماعاً خاصاً لرجال الشرطة الذين كانوا ينوون تكوين اتحاد نقابي خاص بهم. ادى فض الاجتماع الى قيام رجال البوليس بالتظاهر قبل أن يرابضوا داخل ثكناتهم رافضين ممارسة واجبهم. جرى نزع سلاح البوليس آخر الأمر كما تم اعتقال قادتهم بعد استدعاء فرقتين أولاهما فرقة هجانة من الأبيض والثانية فرقة القيادة الشرقية من القضارف.
عن المراحل المبكرة للإضراب كتب سير جيه روبرتسون الى آر سي مايال، مسئول الدائرة الإفريقية في الخارجية البريطانية في 9 يونية 1951 – الرقم:
FO371/90229. No12
“مع استمرار هذه الدوشة لم اجد متسعاً من الوقت لأكتب اليك يوم امس. هاك الآن عجالة لإفادتك بالحال الراهن..
1- جميع رجال البوليس ومعظم الحرس والخفر في حالة إضراب وليس هناك ما يبشر بعودتهم للعمل. يوم الأربعاء كان لدينا نحو 300 من رجال قوة دفاع السودان هنا ونحو 1000 في ثكناتهم حيث توجد الأسلحة والذخائر.
2- طلبت من ضباط الشرطة الشروع في التفاهم معهم للوقوف على ما يمكن القيام به للتعامل مع مظالمهم. وصلتني وثيقة حول حول نقابة لرجال البوليس ولا يمكننني قبول ذلك.
3- هناك دوريات ليلية بسيارات قوات دفاع السودان وهناك امل في استنفار 100 (بريطاني) خاصة ولقد كلفت رجلين لوضع الاستعدادات لجمع شمل النساء والأطفال إذا لزم ذلك ونقلهم الى القصر بمصاحبة أنفار بيادة بريطانيين ولكني أخشى من وقوع انفجار حقيقي حيث ان الشيوعيين سلام والشفيع يقومان بتهييج رجال البوليس رغم انني اعتقد ان قادة الشيوعيين ارتكبوا خطأً بسماحهم بهذا الوضع حيث ان اغلبية القاعدة لا تنشد الثورة ولكنها ترغب في تحقيق تحسينات في شروط خدمتهم”.
هانسارد المطبوعة التي تنشر المداولات البرلمانية برمتها، نشرت في مجلد رقم 489 في تاريخ 20 يونية 1951 استجوابات برلمانية لوزير الشئون الخارجية مستر موريسون. حيث أجاب أن البوليس في الخرطوم وأمدرمان رفضوا القيام بواجباتهم بين الخامس والعاشر من يونية. بعض رجال الشرطة في عطبرة وبورتسودان تظاهروا ثم رابضوا في الثكنات احتجاجاً.
وكان جوهر الإستجواب هو: لماذا يكون لزاماً على البوليس نيل الموافقة على إقامة اتحاد مهني لهم ولماذا يكون لزاماً عليهم أن تجيز الجمعية دستورهم. رد وزير الخارجية بأن حكومة السودان لم تبد ادنى اعتراض على تكوين اتحاد مهني لرجال البوليس وافراد قوات الشرطة ظلوا على الدوام على دراية بذلك. على ان حكومة السودان أصرت على ان تخضع لوائح ودستور مثل ذلك الإتحاد لموافقتها إذ ان هذا يتوافق مع الممارسة السائدة في المملكة المتحدة وفي المستعمرات حيث ينص القانون على ان تكون لوائح ودستور اية هيئة مسؤولة عن بسط الأمن والسلام أدى أفرادها قسم الولاء، خاضعة لموافقة حكومة ذلك البلد. عاد البوليس الى العمل وتم التخلي بالإبعاد او الإستقالة عن 250 رجل بوليس في الخرطوم وامدرمان من مجموع 1068 و35 بوليساً في عطبرة من مجموع 173 و64 بوليسا من مجموع 488 في بورتسودان.
وأضاف ان الحاكم العام بالإنابة عيّن لجنة برئاسة قاض للتحقيق في ذلك الإختلال.
الوثائق البريطانية حول نهاية الإمبراطورية اعتبرت إضراب بوليس المدن الثلاث في يونيو العام 1951 بين ستة أحداث هي اهم ما وقع في ذلك العام.
لقدد شغل إضراب البوليس الإدارة الإستعمارية ليس فقط لكون البوليس هو القوة النظامية ذات العلاقة المباشرة مع الجمهور وحسب وإنما بسبب أنه وجه السلطة ويدها وصوتها.
نورد الآن طرفاً من رسائل السكرتير الإداري حول تطورات ذلك الإضراب:
في 9 يونية العام 1951 كتب سير روبرتسون الى آر سي ميال الخطاب الرقم FO 371/90229
حول المراحل المبكرة لإضراب البوليس حيث أورد أن أعمال الإثارة العمالية استمرت في أوائل 1951: إضراب الأيام الثلاثة من 23 الى 25 ابريل أيدته فوق نصف النقابات الثماني والأربعين المسجلة ولكن محاولة اتحاد النقابات للدعوة الى إضراب عام في مايو قد فشلت.
من بين أهم ستة أحداث في العام 1950 عودة حزب العمال البريطاني الى الحكم واعادة تشكيل مؤتمر العمال في السودان باعتباره اتحاد نقابات عمال السودان في نوفمبرمن ذلك العام
اما اهم ستة حوادث في العام 1951 فقد شملت إضراب بوليس المدن الثلاثة في يونية
لا يساورني شك في ان هذا الفعل هو نتيجة ستة أعوام من الدعاية والهجوم على حكومة السودان من طرف مصر والشيوعيين” .

بتاريخ 11 يونية كتب سير روبرتسون الى ميال:
قوات دفاع السودان دخلت ثكنات البوليس وجمعت الأسلحة والذخيرة من دون عائق واصدرت اعلاناً باعتباري نائباً للحاكم العام بأن على رجال البوليس الذين لا يعودون الى الخدمة حتى السادسة من صباح الغد ان يعتبروا أنفسهم معرضين للفصل من الخدمة .. في الخدمة الآن نحو 200 رجل بوليس : أما البقية فلم يعودوا بعد.
تم اعتقال قادة الإضراب وسوف يتم تقديمهم للمحاكمة بتهمة التحريض على التمرد كما قمنا باعتقال اشباه شيوعيين كانوا قد قاموا بمخاطبة تجمعات الشرطة في ثكنات الخرطوم الغربية.
.ومن بين أهم ستة أحداث في العام 1950 :
عودة حزب العمال البريطاني الى الحكم واعادة تشكيل مؤتمر العمال في السودان باعتباره اتحاد نقابات عمال السودان في نوفمبرمن ذلك العام.
اما اهم ستة حوادث في العام 1951 فقد شملت إضراب بوليس المدن الثلاثة في يونية. (السجل لم يشر الى ظهور كلية الخرطوم الجامعية عام 51 او افتتاح المعهد العلمي في العام ذاته)
.وهناك رسائل أخرى من سير جي روبرتسون الى ار سي ميال حول ذلك الإضراب
في 9 وفي 11 وفي 13 من يونيه 1951
————-
كتب السكرتير الإداري الى كلبوتون، الخارجية البريطانية في لندن
بتاريخ 2 يناير 1949 الرقم : FO 371/ 73471 –
لا شك في ان هناك تسلل شيوعي الى السودان وقد تمثل حتى الآن بين الطلاب في تماه مع التطلعات الوطنية المناهضة لحكومتي بريطانيا والسودان
إننا نراقب هذه الحركة عن كثب وسوف نتلقى النصح من .’ ماغان ’ الذي يصل من القاهرة في الثامن من يناير”.
*
– امام تنامي النشاط الشيوعي بين الطلاب وشباب المستخدمين شرعت الخرطوم في مطالبة لندن بتوخي الحذر والتحوط في إجراءات معاينات البريطانيين القادمين الى السودان. وجاء رد لندن كما ورد في الرسالة الرقم.
FO/PRO/3714/73
وتاريخها 8 فبراير 1949 من وكيل حكومة السودان في لندن الى السكرتير الإداري:
(….) “لا يمكننا التعرض الى زوار السودان كما لا يمكننا طلب الفرز التمحيصي لجميع موظفي الحكومة. كما إنه ليس هناك حاجة تذكر الى ذلك فنحن نقوم حيالهم بتحر دقيق خلال المعاينتين الإبتدائية والختامية
على انني من الجهة الأخرى أرى ان التمحيص الأمني يشكل أمراً بالغ الأهمية في حالة أساتذة كلية غردون وبخاصة اساتتذة العلوم والفنيين وحملة الوظائف الصغرى في السكة الحديد الذين كانوا في سابق خدمتهم في هذه البلاد في صلة قريبة من جهات شيوعية وكذلك احياناً موظفي بعض الهيئئات التجارية مثل لجنة المشروعات الزراعية”.
.*
وهكذا كان يسار ذلك الزمان منبهراً بماركسيته ’متقحماً للحياة ومتبصراً’ بالجديد. يحلم بالغد الوضيء ويعمل صوبه كل يوم مدركاً أن الغد آتٍ لا ريب فيه.

أما ذلك الخوف من دور الشيوعيين البريطانيين في نشاطات اليسار الماركسي السوداني فهو يغرينا بكشف حال الشيوعيين البريطانيين في قعر دارهم.
———
3 – شيوعيو بلاد القاضي تردول
في 31 يوليو 1920 وبقلوب خفاقة بالأمل وبخطى متسارعة هرع 160 عنصرأ من الإشتراكيين الثوريين البريطانيين الى فندق كانون ستريت بالقرب من كاتدرائية القديس بولص بهدف تأسيس الحزب الشيوعي البريطاني بمباركة شخصية من فلادمير لينين ( 1924 – 1870)
وقد ارتبطت اسماء بضع شيوعيين او ماركسيين بريطانيين بسنوات التكوين الأولى للحركة السودانية للتحرر الوطني .. هناك مبالغة في حجم ذلك الدور. على كل حال ليس هناك ما يدل على أن هناك تكليف حزبي من الحزب البريطاني لأي رفاق يريطانيين بممارسة أي نشاط سياسي في السودان.
أما الحكومة البريطانية فقد نذرت نفسها لمناهضة الشيوعية خارج بريطانيا.
في سبتمبرالعام 1946 جاء في تقريرللجنة الإستخبارات المشتركة البريطانية “أن الشيوعية خطرحقيقي على مصالح الكمونويلث البريطاني خارج الأراضي البريطانية والى درجة أقل داخل حدودها. ونحن نعتقد أن من الضروري اتخاذ شيء من الفعل المضاد المباشر في هذا الصدد”
وهكذا فان اهتمام نظام الحكم الثنائي بحال الشيوعيين السودانيين يمثل جزئياً فعلاً استرتيجياً لبريطانيا، أيضاً.
وفي نوفمبر 50 أقام اتيلي، رئيس الوزراء البريطاني، لجنتين واحدة حول شيوعية الداخل واخرى حول شيوعية الخارج.

رغم حل الآممية الشيوعية، الكمونتيرن، عام 43، إلا أن البريطانيين أصروا على التعامل مع الشيوعية العالمية كما لو أنها جسم واحد لا يقبل التجزئة حيث أن قرار الحل لم يكن له فيما يبدو أثر على تماسك الحركة الشيوعية وانضباطها. هناك فروق تاكتيكية طفيفة بين بعض الأحزاب القطرية ولكن الحركة الشيوعية في صدد القضايا الجوهرية تتعاطى كجسم واحد متكامل.
وفيما يبدو اعجابا بالشيوعيين أضاف تقرير أمني جرى رفعه الى تشرتشل “إن جاذبية الشيوعية مبنية على أنها ايدولوجية جامعة يعتنقها الشيوعيون بحماس كما لو انها عقيدة دينية تعد بمستقبل أفضل بلا قلاقل ولا حروب: كما أن الاحزاب الشيوعية تقودها نواة من الرجال المتمرسين المتفانين القادرين على قيادة الحركات الجماهيرية”.
لعلها مفارقة، إذن، ان نجد في التقرير الرسمي المسمى”الشيوعية في السودان الإنكليزي المصري” الصادر في نوفمبر 1949 ـ اشارة الى ان الشيوعية تدخل السودان من بريطانيا عبر الطلاب السودانيين الذين يتلقون الدراسة والتدريب في الجامعات البريطانية وعبر توزيع مطبوعات شيوعية في السودان لتصل الى ايدي شيوعيين معروفين. والى ذلك فهناك ايضاً حفنة من الشيوعيين البريطانيين المعترفين بنزعاتهم السياسية وسط الجالية البريطانية موظفون وغير ذلك، وليس يسيراً معرفة مدى هذا الدور ولكن اساتذة كلية غردون لا يمكن ان يكونوا غير مسؤولين عن قدر معين من الدعاية الشيوعية بفضل طبيعة الشيوعية ذاتها (أشرنا في مكان آخر الى أن السكرتير الإداري أرسل نسخة من هذا التقرير الى دونالد ماكلين الدبلوماسي البريطاني الذي اتضح لاحقاً انه أحد خماسي كيمبردج الذين كانوا يتجسسون لصالح الكرملين)..
وهناك اشارة رسمية الى دور محتمل لشيوعيين بريطانيين في إضرابات عمال السكة الحديد العام 1948.
وبلغ الأمر ان طلب مكتب السكرتير الإداري من وكيل حكومة السودان في لندن القيام بالتمحيص الأمني للبريطانيين القادمين الى السودان. أعتذر مكتب الوكيل بانهم مشغولون.
ذلك دعا الخرطوم الى الإعتماد على الجهد الذاتي: تم إعداد قائمة باسماء أجانب بينهم بريطانيون مشتبه فيهم. مثلاً هناك واحد يعمل في شركة النور اسمه الفرد جون ديكينسون ، وهو مقيم في الخرطوم تم وصفه باعتبار أنه عضو في الحزب الشيوعي البريطاني وانه حارب في اسبانيا في صف الجمهوريين بين عامي 1936 –1939 وكانت خلاصة التمحيص الأمني أن وجود أمثال هذا الرجل في موقع حساس مثير للشبهات.
.هناك جون أنطوني ايكليت الذي يعمل في الراديو الجوي العالمي في ملكال وهو يجاهر بشيوعيته ولكن لا علاقة له مع سودانيين .، وكان في الماضي يعمل في سلاح الجو الملكي.
وهناك آخر اسمه والتر هانز هاس – يهودي نمسوي- مهندس لاسلكي- مولود العام 1906 – يجاهر بايمانه بالشيوعية ولكنه لايعمل مع سودانيين. يلزم مراقبته وهو يقيم في الخرطوم.
وهناك أيضاً دكتور ساندون وزوجته مسز ساندون: هو محاضر علم الحيوان في كلية غردون وهو يعترف بكونه شيوعي وكذلك زوجته وهما يقيمان في الخرطوم – يقولون إنهما لا يبشران بالشيوعية ولا نشاطاً شيوعياً لهما في السودان .
كانت تقديرات المخابرات البريطانية في خريف 1950 تقول ان هناك نحو ربع مليون ملف تحمل بيانات عن عضوية الحزب الشيوعي البريطاني والمتعاطفين معه : نحو 43،500 منهم اعضاء في الحزب الشيوعي ونحو 2000 بينهم، أعضاء في رابطة الشباب.
أما النواة السرية للحزب فهي لا تعدو بضع عشرات.
معنى ذلك ان واحداً من كل 200 من سكان بريطانيا في منتصف القرن الماضي كان يتم التعامل الأمني معه باعتباره شيوعياً أو متعاطفاً مع الشيوعيين,
عند بداية الحرب في سبتمبر 1939 كانت العضوية في الحزب الشيوعي البريطاني 17،500 انخفضت الى 14،000 خلال فترة التعاون السوفياتي النازي ثم قفزت اعداد العضوية الى اوجها في العام 1942 بفضل الإنبهار بأداء الجيش الأحمر ضد النازيين فبلغت 56،000 عضواً .
ووفقاً لتقديرات المخابرات البريطانية الداخلية فان الملمح الأبرز في شان الحزب الشيوعي البريطاني هو أنه أولاً وقبل كل شيء حزب سياسي مثل الأحزاب السياسية البريطانية الأخرى. وفي الحالات التي يرتدي فيها لبوس المنظمة التآمرية أو الهدامة فإنه يقوم بذلك بدرجة ثانوية .
ولكن إن دعا الأمر فهناك معسكر اعتقال جاهز لاستقبال كشة جماهيرية منذ العام 1949 في الآيل أوف مان بالقرب من بورتسموث تم استخدامة لإحتجاز مواطني البلدان المعادية المقيمين في بريطانيا ايام الحرب.
الحزب الشيوعي البريطاني حل نفسه في العام 1991 وتحول الى حزب اليسار الديموقراطي بعد 71 سنة من الحياة السياسية وكان يصبو الى أن يعيد تشكيل نفسه كيسار ديموقراطي.بيد أن الأمر انتهى به الى أن يضحي نحو اربعة كويمات ماركسية ذات اسماء تتشابه كما لو إنها اسماء جماعات دارفورية مسلحة. أبرزها الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى الذي كان له 6 مرشحين في الانتخابات البرلمانية للعام 2010 وبلغت الأصوات الي حصل عليها في الدوائر الست 947 صوتاً. أما في انتخابات 2015 البرلمانية فقد كان للحزب 9 مرشحين نالوا معاً 1229 من أصوات الناخبين.
هذا قد يعني أن حركة المجتمع البريطاني لم تعد في حاجة الى حزب شيوعي، على عكس حال السودان حيث تبدو الحاجة الى الحزب الشيوعي بالغة الإلحاح على نحو يكاد يجعله “الجوهر الفردي” بلغة أغاني الحقيبة..
كتب بيتر هينيسي ، بروفسور التاريخ المعاصر في كلية كوين ماري جامعة لندن “ورد أن هناك أكثر من ضابط من ضباط الأمن سمعوه يزعم ان جهاز الأمن البريطاني كان من الوجهة الفعلية يدير الحزب الشيوعي البريطاني ويتولى توجيه مساره، آخر الأمر. والى ذلك فان معاشات تقاعد “الغواصات” بعد حل الحزب لنفسه بنفسه سبب ضائقة مالية لميزانية جهاز الأمن إذ أن التقاعد جاء بالجملة – موش قطاعي- و قبل الأوان”.
احسب أن إختراق حزب شيوعي علني في بلد أوروبي ليس امراً بالغ الصعوبة. ما أصابني بالدهشة البالغة هو سماح الحزب لمكاتبه ومبانيه بأن تغدو محطة ارسال سرية تبث كل ما ورد أو شرد لآذان جهاز الأمن البريطاني، وحدها دون أن تدري. كان بوسع الحزب البريطاني تأمين مقاره بدهانها دهاناً غليظاً يفطس اجهزة التنصت واستراق السمع الذكية والدقيقة ويكتم نفسها. وإذا تعذر ذلك بسبب ضيق ذات اليد أو الخوف من ان يكون من يتولى عملية الدهان هم من الغواصات فيمكن اللجوء الى الكاميرا: تصوير كل شبر من المبنى وتكبير الصور او الإستعانة بنظارة مكبرة للتعرف علي النتوءات والحفر الدقيقة ونزعها أو فقعها حسب مقتضى الحال. ليس هناك ما هو اتعس وما هو مدعاة للإحساس بالمهانة المطلقة من أن يجد حزب شيوعي غربي نفسه يتلقى المشورة الفنية وفي مجال الأمن كمان من شيوعي سوداني من منازلهم أتى الى بريطانيا على ظهر دابة من جهات البطانة ..
أما بروفسور اريك هوبسبوم المؤرخ الماركسي المرموق (كتبه مترجمة الى أكثر من 50 لغة (1917 – 2012) فقد كتب:
“بعد 1956 تحول نشاطي الشيوعي الى أمر مختلف وأكثر إنزواءاً : كان أن تاكد لي في بعض الأحيان أن الأحلام إنطوت صفحتها. وكان الأمين العام للحزب الشيوعي الذي ظللت أنعم بعضويته حتى تاريخ حله في نوفمبر العام 91 قد درج على أن يردد في اللحظات الحرجة كم كان من شانه أن يكون مجدياً لو كان له خط تلفوني مباشر مع موسكو. كان يحسب الحزب جيشاً من السعاة الصبيان. أما الضالعون في المهن الثقافية فقد ادركنا أن علينا محاولة النظر في الأمور لوحدنا”.
لمناسبة الخط التلفوني المباشر مع موسكو، دعوني أعترف بأنني كنت أضمر ايماناً لا يشوبه شك بأن الإنكليز متفوقون علينا في كل شيء ولكن طاش صوابي تماماً حين علمت أن صحيفة الحزب المورنغ ستار كانت تتلقى دعماً مالياً راتباً من موسكو منذ ان حلت محل “الديلي ويركار” في العام 1966 وحتى العام 1974 حين تم استبدال المنحة المالية باشتراك سنوي في الصحيفة يتمثل في شراء 6 آلاف نسخة من المورنغ ستار يومياً . كيف ترضى صحيفة مبدئية بهذا الوضع الدنيء؟ لكي تدخل النسخ الإتحاد السوفياتي فان على الصحيفة أن تتيقن من خلوها من أي مادة تحمل نقداً أو تحفظاً على الموقف السوفياتي أو على الخط السياسي للحزب السوفياتي.
في روسيا قبيل الثورة ابتكر الرفاق هناك مطبعة خاصة بهم وفي السودان كان عبد الله خليل، فيما يقال، قد صنع بالوظة أو درداقة واهداها لحركة اللواء الأبيض التي كان ينتمي اليها. وفي جيلنا كنا نصنع الدرداقة باستعارة مرآة حمام داخلية من داخليات البركس مشفوعة بطرف قصي من البطانية المستخدمة أصلاً كغطاء وورق الشمع الأستنسل. وايام المهدية كان الناس ُيزّورون الأختام واوراق/ قماش النقد (بدل الذهب والفضة وهذه فكرة النور الجريفاوي – جد البروفسور) وذلك بالحفر على البصل والبامبي. كنت اتوقع ان يبتكر الرفاق الخواجات مطبعة خاصة بهم وأن يصنعوا ورق طباعة من الدلاقين وحبراً من الفواكه والخضر الفاسدة. هم في بلد هي أم المصانع كما أن المعرفة الفنية في متناولهم. بعد تجربة صحيفة المورنغ استار التي ظلت طيلة أحد عشرة سنة تدفع لصحفييها مرتباً سنوياً يبلغ 500, 10 جنيه استرليني وهو أقل من الحد الأدني للأجور ضعف إيماني بتفوق إنكليز ذلك الزمن بحيث إقتصر تفوقهم عندي على اللغة الإنكليزية وحدها لا غير.. (ولا يجّرّمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا).
في عام 1989 توقف اشتراك الجملة السوفياتي دون سابق إشعار. أحتجت الصحيفة دون جدوي وتوزيعها الآن 7000 نسخة يومياً.
. العام 1956 كان عام نحس للرفاق البريطانيين: انعقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي بين 14 – 25 فبراير. الأمين العام للحزب البريطاني هاري بوليت ونائبه بالم دوت منظّر الحزب حضرا المؤتمر .. أهم أعمال المؤتمر جاء دون سابق إعلان في آخر ايامه : خطاب خريتشوف الذي كشف فيه عن جرائم ستالين. لم يسمحوا للأحزاب الشقيقة بحضور الجلسة الختامية التي قدم خريتشوف فيها خطابه. كان على المواطنين السوفيات الإنتظار شهراً قبلما تبلغهم اطراف منتقاة من الخطاب. كان على الناس الآخرين الإنتظار حتى العام 1989 كي يروا الخطاب كاملأً غير منقوص. ستالين مات ربيع 1953 والمؤتمر انعقد بعد نحو ثلاثة اعوام من موته. برغم ذلك كان الحزب الحاكم يفضل تقسيط ذكر جرائم ستالين ومرحلتها بحيث تتركز الإشارة الى رفض عبادة الفرد وأإدانة بيريا مسؤول أجهزة الأمن الستالينية الشيوعي البريطاني كان عازفاَ عن فتح أية مناقشة حول مدلول جرائم الستالينية وتجاوزاتها. كان يفضل عدم ادانة ستالين. ولكن حين كشفت الخارجية الأمريكية النقاب عن الخطاب السري ونشرته النيويورك تايم بكاملة في 5 يونية 1956 وتبعتها الأبزيرفور يوم 10 يونيه فخصصت العدد بكامله لل خطاب، عرف الناس، مثلاً، أن مؤتمر الحزب السوفياتي المنعقد عام 1934 حضره 1966 مندوباً وبحلول العام 1938 كان 1108 من هؤلاء المناديب قيد الحبس في معسكرات الإعتقال المؤدية الى القتل حتماً وأضحى الصمت أمراً بالغ العسر..
ولزيادةالطين بلة جاء التدخل السوفياتي في المجر في 23 اكتوبر 1956 . السلطة الشعبية الرافضة للستالينية دامت 12 يوماً قبل ان تسحقها الدبابات السوفياتية مفضية الى مقتل 2500 مجرياً وإرسال 200 الف مجري الى المنافي بعد إعدام رئيس الوزراء الجديد.
بروفسور اريك هوبسبوم كظم الغيظ دون ان يعفو عن أحد. هناك سبعة آلاف شيوعي بريطاني استقالوا من عضوية الحزب احتجاجاً: خرجوا منه الى غير رجعة.
الحزب البريطاني تعلم من تلك التجربة: حين سحقت دبابات حلف وارسو تحت قيادة السوفيات ربيع براغ في يناير العام 1968 وقفت أحزاب الشيوعية الأوربية ضد ذلك الغزو العدواني بينما آثرت اللجنة التنفيذية للحزب البريطاني أن تشير اليه باعتباره “تدخلاً” لا أكثر فيما فتحت أبوا ب المورنينغ ستار للآراء المتعارضة في ذلك الصدد. ولأن الحزب كان حريصاً على ألا يؤدي الخلاف هنا الى انقسام فقد ترك للأعضاء حرية تحديد موقففهم داخل الفروع والوحدات المتخصصة وحسم الخيار بالتصويت الديمقراطي. بعد أشهر من المناقشات انعقد مؤتمر كان جميع مندوبيه منتخبين من القاعدة وانتصر الخط الرافض لتدخل حلف وارسو، والسوفيات تحديداً، في تشيكوسلوفاكيا.
مثلتلك المرونة والرحابة لم تقطع الطريق على الإنقلابات: ستاليني اسمه ’سد فرينش’ انقسم على الحزب وتبعه 700 من أعضاء الحزب وكونوا حزباً خاصاً بهم أسموه “الحزب الشيوعي الجديد. فلول هذا الحزب الشيوعي الجديد من الطاعنين تماماً في السن مرتبطون الآن بكوريا الشمالية.
(لا علم لي إن كان الحزب الشيوعي السوداني قد حضر المؤتمر العشرين وإن كانت هناك مداولات بصدد التجربة الستالينية داخل مؤسسات الحزب. ولا علم لي عما أن كان التدخل السوفياتي في المجر العام 1956 قد اثار ردة فعل من أي نوع داخل الحزب السوداني أم لا. أحسب أن الحزب كان مشغولاً بالعدوان الثلاثي على مصر وهو قد بعث وفداً قيادياً رمزياً عارضاً المشاركة الفعلية في صف الشعب المصري).
ما أدركهعلى وجه اليقين هو اننا: عبد الله علي إبراهيم وانا كنا في ضيافة الفقيد عبد الخالق في أمسية ذلك اليوم من يناير العام 1968 الذي سحقت فيها دبابات حلف وارسو ربيع براغ سحقاً. عبد الله وأنا عبّرنا عن رفض قاطع لذلك التدخل.
عبد الخالق كان يستمع الينا بصبر ورحابة حين جاءه من يعلن أن هناك في الباب من يود لقاءه.
ما أذكره هو ان عبد الخالق صرف ذلك الضيف من الباب من دون ترحيب به داخل الدار. ما استنتجته وقتها هو ان ذلك الشخص مندوب وكالة أنباء سوفيتية أو دبلوماسي سوفياتي يريد أن يتلقى مباركة الحزب لغزو تشيكوسلوفاكيا. كان تخميني ان عبد الخالق أفاد ذلك الشخص أن المكتب السياسي أو أجهزة الحزب لم تجتمع بعد للنظر في الأمر. والله أعلم.
قلت: على وجه التقريب ربما كان هناك نحو ربع مليون ملف تحمل بيانات عن اشخاض يشتبه في كونهم شيوعيين أو متعاطفين مع الشيوعية. معنى ذلك ان واحداً من كل 200 من سكان بريطانيا في منصف القرن الماضي كان يتم التعامل الامني معه باعتباره شيوعياً أو متعاطفًا مع الشيوعيين.
حين ضاق الحال بالحزب في العام 1980 باع مقره الرئيسي الواقع في 16 كينغ ستريت – كوفينت غاردين لبنك لويدز. وجد المالكون الجدد أجهزة تنصت مزروعة في بعض الجدران.
ولكنمهما بلغت درجة الرصد الأمني لأنفاس الشيوعيين وأصدقائهم: فإن الضرر الذي ألحقه خماسي كيمبريدج بأمن بريطانيا وسمعتها لا يضاهى. هؤلاء الخمسة لا تعود أصولهم الى طبقات شعبية .. درسوا في كيمبيردج حيث تعلقوا خفية بالماركسية وبنظام الحكم السوفياتي. تجنيدهم كجواسيس للكرملين لم يتم بواسطة الحزب أو حتى بعلمه. الحزب قانوني أي يعمل وفقاً للقانون. “هاري بوليت، سكرتير الحزب أيام الحرب وبعدها لسنوات وسنوات كان يطوف على الشيوعيين من طلاب أوكسفورد وكيمبردج ليقول لهم إن عليهم عدم إضاعة أي وقت في بيع الديلي وركار – صحيفة الحزب وقتها من الأزقة ونواصي الشوارع وانما عليهم الإنكباب على الدرس والمذاكرة حتى ينالوا تفوقاً أكاديمياً يفتح أمامهم ابواب الوظائف المرموقة حتى الحساسة بينها. في السودان كان الطلاب الشيوعيون يحددون اولوياتهم بأنفسهم. قد يكون بينهم عبر الأزمنة من يعين نفسه متفرغاً سياسياً بلا أجر (الجامعة كانت تتكفل المعيشة). علمت أن الأمر كان مختلفاً في حالة الطلاب الذين كانوا ينعمون بالمنح الدراسية في الإتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية. هؤلاء كانوا يدركون أن الحزب يتوقع منهم جعل تحصيل العلم أولويتهم. قلت إن الحزبالشيوعي البريطاني لم يقم بتجنيد خماسي كيمبردج .. وفي واقع الأمر، كان هناك شيوعي بريطاني بارزاسمه ’ديف سبيرنغ فيلد’ قاتل في صفوف الكتيبة الأممية في اسبانيا دفاعاً عن الجمهوريين ببسالة: أصيب بالجراح في معركة ’جاراما’ حيث فقد الطابور البريطاني أرواح نصف مقاتليه. عند العودة من اسبانيا صار رئيساً لتحرير’الديلي وركار’، لسان حال الحزب، ثم ممثلاً للحزب في الكمونتيرن العام 1943. حين اكتشفوا انه كان يتجسس لحساب الكرملين تم فصله من الحزب وحكم علية بالسجن (في ضيافة الملكة) لسبع سنوات.
خماسي كيمبريج سلموا السوفيت 16791 وثيقة سرية بريطانية وهم:
كيم فيلبي (1912- 1988 أبوه الحاج فيلبي الذي كان أقرب المستشارين قاطبة الى عبد العزيز آل سعود) – غاي بيرغيس (1911- 1963) العائلة كانت تملك بنكاً باعته لبنك لويدز. مدرسته كانت المدرسة التي تسجل فيها لورد مونتباهتن حفيد الملكة فيكتوريا وفي الحسبة اب عم الملكة اليزابيث الثانية)
– دونالد ماكلين 1913 – 1985 (دبلوماسي، نبهني بروفسور فاروق – اطال الله عمره وأدام عافيته الى أن دونالد ماكلين هذا تلقى من السكرتير الاٌداري سير جيمس روبتسون نسخة من التقرير المرسل في 17 نوفمبر 1949- وعوانه : سري للغاية
communism in The Anglo-Egyptian Sudan
وهو اهم التقارير عن تلك المرحلة وأوفاها يعني كان السوفيات تصلهم التقارير الموثوقة عن الشيوعيين السودانيين وهم في قعر دارهم ودون أن تكون لهم أدنى علاقة بهم وذلك على طريقة طرفة بن العبد:” ويأتيكَ بالأخبارِ َمن لم ُتزوّدِ “.
وفقاً لتقديرات ارشيف متروخين السوفياتي فان فيلبي وبيرغيس وماكلين قدموا منذ تجنيدهم في العام 1934- 1935 أكثر من عشرين الف صفحة من المعلومات والتقارير السرية فائقة القيمة .
سير انطوني بلنت 1907-1983 مستشار الملكة اليزابيث بشان المقتنيات الفنية الملكية – مؤلف مرموق في مجال تاريخ الفن – بروفسور تاريخ الفنون قدم اعترافاً بدوره مقابل ضمان بالحصانة عن كشف الحال والمحاكمة فظل يواصل مهامه الملكية الى أن كشفته ثاتشر علناً في العام 1979 وتم تجريده من اللقب الملكي الذي كان قد ناله في العام 1956.
جون كيرنكروس 1913 -1995 – موظف خدمة مدنية وكاتب معروف.
——-‘—–
كان تركيز الشيوعيين البريطانيين على النقابات قبل اي مجال آخر. في عام 1955 كان هناك شيوعي بين كل خمسمائة نقابي على نطاق البلاد . وكان الحزب في ذلك التاريخ يسيطر على اللجان التنفيذية لثلاث نقابات وهناك 13 شيوعي يحتلون مناصب الامين العام في النقابات كما ان واحداً من كل ثمانية من ضباط النقابات المتفرغين كان شيوعياً.
وهكذا فإن شيوعيي بلاد القاضي ترودل بعد 71 عاماً من الكفاح آثروا أن يضمحلوا لا أن يتلاشوا وما زال أثرهم عميقاً في الحركة النقابية والثقافية وفي الأكاديميا. أما شيوعيو السودان فيقعون ثم يقفون سامقين كل مرة بلا احدوداب لأن الحاجة اليهم تزداد ولأن عضمهم قوي بسبب مزيج من النشاف والجفاف والصلابة.
4 – المحاكمةوما بعدها
في 17 ابريل العام 1951 كتبت “الرأي العام”: في سنتها السابعة، أن محكمة جنايات الخرطوم شهدت يوم أمس (أولى محاكمة من نوعها في هذه البلاد بل انها قد تكون أولى محاكمة من نوعها في أي قطرمن أقطار العالم).
المتهمون كان عددهم 21 متهما و(رجال بوليس المباحث قضوا أكثر من شهرين يستشيرون رجال القانون قبل ان يقرروا تقديم هذه القضية الى المحكمة. وبعد أخذ ورد حتى استقر رأيهم.
القاضي البريطاني أسمه تردول ومحامي الإتهام العام بريطاني يدعى مكل. اما الدفاع فقد تولاه عن احد المتهمين الدرديري أحمد اسماعيل، أول سوداني حاز على ماجستير القوانين من بريطانيا. فيما تولى أحمد خير المحامي الدفاع عن بقية المتهمين
*
منذ صباح أمس الباكر تجمعت اعداد كبيرة من الجمهور امام بناية محكمة الجنايات بالخرطوم أملاً في حضور هذه المحاكمة الاولى من نوعها.
من حق صحيفة الرأي العام أن تعتبر تلك المحاكمة الأولى من نوعها في العالم ، ولكن من حقي أنا ان اجزم أن تغطية الراي العام لتلك المحاكمة لا مثيل لها في تاريخ الصحافة المنشورة بالعربية والإنكليزية كمان، ادلتي أسوقها لاحقاً.
ما يجعل هذه القضية الأولى من نوعها ليس عدد المتهمين. هناك حالات مثل قضية اللواء الأبيض في ابريل 1925 بلغ عدد متهميها 29 متهماً. وهناك قضية نزلاء سجن كوبر العمومي من تلامذة المدرسة الحربية والمحكومين بجرائم سياسية والمنتظرين المتهمين بجرائم سياسية والتي وقعت احداثها داخل السجن في ما بين 24 نوفمبر واول ديسمبر حيث بلغ هؤلاءنحو الخمسين متهماً.
إنبهار الصحيفة بهذه القضية يعود الى انها محاكمة لنشاط سياسي للشيوعيين السودانيين كشيوعيين.
ذلك الإنبهار يأتي من طرف يدرك قيمة السابقة القضائية. هذا الحس بالإحتفال بمولد سابقة قضائية ذات مدلول سياسي لا يمكن تجاهله. سيجد القاريء إذا اتيح له الوقوف على لغة تلك التغطية الصحفية المفعمة بالثقة بالنفس وبمعرفة المشهد ما يؤكد ان الصحفي الذي قام بتلك التغطية فريد تماًماً:
خذ عندك مثلاً : “في التاسعة والدقيقة 17 صباحاً أعلن الحاجب عند دخول القاضي: محكمة !” أو في صدد وصف شاهد دفاع مصري مطلوب منه أن يشهد بان حركة السلام العالمية ليست حركة شيوعية المادة 4 من قانون الجمعيات غير المشروعة لسنة 1924 والذي ينص على انه إذا كان من رأي الحاكم العام أن هناك أية جمعية تتدخل او يكون غرضها التدخل في إرساء القانون العام فانه يجوز له إعلان تلك الجمعية جمعية غير مشروعة بإعلان ينشر في غازيتة حكومة السودان.
بمقتضى ذلك الأمر أعلن الحاكم العام أن أي جمعية في السودان أياً كان اسمها تدعو أو تروج أو تمارس نظريات أو مباديء الشيوعية العالمية أو الجهاز المعروف باسم الكمونفورم تعتبر جمعية غير مشروعة عملاً بقانون الجمعيات غير المشروعة للعام 1924
في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة والثلاثين نادى حاجب المحكمة مؤذناً بابتداء الجلسة بعد ان دخل القاعة (القاضي تردول قاضي محكمة الجنايات) .
وقد لوحظ ان قاعة المحكمة وردهاتها وأبوابها المختلفة قد وضعت عليها حراسة شديدة من رجال البوليس.
قرأ القاضي الفقرة الجديدة من قانون الجمعيات المحظورة وقال “إن الإتهام سيحاول إثبات إن جمعية انصار السلام هذه هي جمعية شيوعية “.
وأضاف “أتضح لي بعد النظر في أوراق القضية أن الآتية أسماؤهم لا دخل لهم في الأمر ولا شيء ضدهم لذا فسوف أطلب منهم الخروج من قفص الإتهام الى خارج مبنى المحكمة:
1- محمد السيد سلام، لا علاقة له بلجنة أنصار السلام.
2- دكتور عزالدين علي عامر: لقد انكر عضويته في هذه المنظمة ولم يوجد لديه شيء عند تفتيش منزله.
“وفقاً لكشف “الشخصيات الشيوعية” الذي دونته المخابرات البريطانية في ابريل 1949 فهو مولود في الخرطوم في 4 اغسطس 1924. ودرس في مدرسة حلوان ثم في كلية طب في جامعة مصرية. استرعى انتباه المصريين كشيوعي في عام 1946 فاعتقل ولكن تم إطلاق سراحه من دون تقديمه للمحاكمة.. إنه شيوعي معروف تماماً في مصر ولكنه لم يبد نشاطاً يذكر وهو في السودان وحين يجيء الى السودان يقيم في الخرطوم.
3- محمد حسن الطيب، أعترف بانه كان عضواً ولكنه لم يعد عضواً منذ الشهر الماضي.
4- أحمد سنجر، لا دخل له البتة.
5- خالدة زاهر (قالت الصحيفة إن إهتمام الحضور يتزايد وارهفت الأسماع في انتظار أقوال القاضي وتبرئته لها فقال: ” لقد تسلمت السيدة خالدة خطاباُ معنوناً باسمها من الهيئة النسائية الديمقراطية بباريس. وقد ادعى المتهم الأول (أحمد عبد الله المغربي) إنها عضو في أنصار السلام.
إن المحكمة ترى أنه لا غرابة في أن تتسلم السيدة خالدة وهي من قادة الحركة النسائية في هذه البلاد خطاباً من الهيئة النسائية العالمية، ومهما كانت محتويات الخطاب فان ذلك لا يبرر محاكمتها.”ثم طلب القاضي اليها أن تخرج من قاعة المحكمة فخرجت مودعة بتهاني الحاضرين.
6- حسن أبو جبل– ليس هناك اتصال بينه وبين هذه الجماعة لذلك فانا أطلق سراحه.

بعد ذلك شرع القاضي في مناداته للمتهمين واحداً فواحداً موجهاً اليهم الأسئلة المعهودة:
1- أحمد عبد الله المغربي- سوداني عاطل يسكن أمدرمان خالي شغل له من العمر29 عاماً.
(جاء في تقرير استخباري لاحق انه درس في كلية غردون ومدرسة الآداب كان مدرساً في المدارس الحكومية والأهلية. عمل هذا العام لمدة شهر كسائق تاكسي في الخرطوم. ووفقاً لإفادة البروفسور فاروق محمد ابراهيم – أدام الله عافيته وأمد في عمره- فان نقابة سائقي التاكسي كانت نقابة ثورية مرموقة والعمل في تلك المهنة كان اختياراًً سياسياً لأمثال المغربي الذي كان وقتها سكرتيراً لحركة السلام السودانية) .
هناك تقرير أمني آخر وصفه بأنه من المولدين وان له أقارب في الدامر .

2- محمد سيد احمد -تاجر شايقي- 30عاماً . يقيم في الحصاحيصا.سكرتير حركة السلام في الحصاحيصا – حضر اجتماعات اللجنة المركزية لحركة السلام في امدرمان (عنه كتب لي بروفسور فاروق “أنه ظل يديرويطور مكتبة الفجر التي لعبت بود مدني دوراً تثقيفياً جيداً. وكان كادراً حزبياً محترماً في مدني والجزيرة – وهو رب أسرة شيوعية كبيرة منها شقيقه جبر الله والد ناهد وآمال وابنه المهندس مامون”.
3- حسن الطاهر زروق – سوداني- مدرس- امدرمان-33 عاماً
جاء في تقرير استخباري لاحق “أنه تخرج من كلية غردون وكان مدرساً في مدرسة بنات حوكم بتهمة التحريض والفتنة بغرامة قدرها 25 جنيهاً – جرى فصله من المدرسة العام
1948 بعد مثوله أمام مجلس تأديب شديد الموالاة لمصر والمناهضة للحكومة ولبريطانيا عضو في حستو وفي مؤتمر الشباب ولكنه لا يكن كبير إهتمام بالشيوعية” .
سنورد عنه المزيد لاحقاً.
4- التجاني الطيب بابكر- سوداني – مدرس- 25 عاماً.
جاء في تقرير لاحق أنه طالب في كلية الزراعة – جامعة فؤاد وان والده تاجر يعمل في شندي
أما العم بدوي بابكر فتاجرفي امدرمان. درس الأولية والوسطى والثانوي في الأحفاد. غادر الى مصر في أوائل العام 47 وتم قبوله في جامعة فؤاد. جرى اعتقاله في القاهرة في مايو 48 لنشاطاته الشيوعية وتم حبسه في معسكر الهايسكيب الى حين إبعاده الى السودان. وصل شندي في 30/4/49. الموطن شندي ولكنه يقضي معظم وقته في امدرمان. يشتبه في كونه شيوعياً نشطاً في امدرمان (لاحظ نوع المخبر الذي يعرف يوم الوصول الى شندي واسم العم ومهمته ولكنه لا يذكر أن الوالد شاعر رصين ووطني غيور لقبه المظّاهر تعبيراً عن قيادته لمظاهرات الإحتجاج المناهضة للحكومة)
5- احمد عبد الله سنهوري – سوداني- حوالي 30 عاماً- حلاق – الخرطوم جنوب – سكرتيرحركة السلام في الديوم
6- عبد الحليم عمر حسب الله – شايقي من مروي يقيم في الخرطوم – حوالي 22 عاماً- اكمل تعليمه الثانوي والتحق بمدرسة مصلحة الأشغال الفنية – دائماً في رفقة الشيوعيين المعروفين – احد موزعي مجلة اللواء الأحمر- بعد هذه المحاكمة قاد في 4/12/1951 مظاهرة مناوئة للحكومة وحوكم بالسجن لشهرين مع حسن السير والسلوك لمدة عام والغرامة 50 جنيهاً .
شهادة البروفسورفاروق عن عبدالحليم لا غنى عنها قط: (تجدها لاحقاً)

7- التجاني عمر السوري، سوداني ، كاتب، 23 عاماً- امدرمان
8- احمد محمد خيرالمرضي- سوداني- مدرس- الخرطوم 25 عاما – عمل في حركة السلام الأممية ثم ارتبط بالفهم الصيني للشيوعية واستقر في الصين قبل رحيله الى استراليا بعد بروز التحولات في الصين.
9- محمد الحسن شرف الدين- سوداني – كاتب-27 عاما
10- يس السيد علي سوداني – سوداني – ترزي
11- محمد عبد الله علي – سوداني- الخرطوم بحري
12- بابكر احمد موسى – سوداني- مدرس في الأهلية – 27 عاماً – بلغ عنه محمد الفاتح ابو دقن في مايو 1950 كاحد انشط الشيوعيين في امدرمان. على أثر هذا البلاغ تم تفتيش بيته وتم ضبط كتاب ويل غالاهار”مناقب الشيوعية” بالانكليزية وقصيدة كتبها حول الكفاح ضد التسلط.
كذلك تم فتح بلاغ آخر ضده بأنه أحد عناصر مجموعة معظمها مدرسين تسستخدم نادي الخريجين في امدرمان لمناقشة الشيوعية. ذكره عبدالله الطيب في حقيبة ذكرياته بأنه والرشيد نايل كانا منافسين له في نظم الشعر.
13- عبد الوهاب محمد احمد – سوداني- مدرس – امدرمان – 26 عاما
14- محجوب محمد عبد الرحمن – سوداني – رسام- امدرمان- 23 عاما – لعله اول سوداني يتقلد وسام تلك المهنة . (اين هو ؟)
15- عبد الخالق حمدتو- مدرس – امدرمان – 30 عاماً. وفقا لتقرير امني فإنه:
“مولود عام 1920 في امدرمان – اكمل دراسته في القاهرة ويعمل مدرساً في الأحفاد. تم التبليغ عنه لأول مرة كشيوعي في مايو 1950 بواسطة محمد الفاتح ابو دقن وهو يقول عنه إنه من انشط عناصر مجموعة امدرمان. في العام 1947 حين كان مساعد مدرس في الأهلية الوسطى نشر مقالاً يفتقر الى الدقة عن مقابلة سعادة الحاكم العام مع اعضاء الجبهة الوطنية هناك.
كان وقتها سكرتيرا لفرع الجبهة في الابيض.”

ادناه ثلاثة من المتهمين اتيحت لنا بيانات َإضافية عنهم. الآخرون جميعهم جديرون بأن تعرفهم الأجيال المقبلة أيضاً. لأبنائهم وأحفادهم أن يحسوا بالزهو لأن أسماء أسلافهم لم يلفها النسيان والإهمال.
الباشمهندس هاشم محمد أحمد يحكي في مذكراته “حياتي وأسرار الأشباح” كيف بلغه ورفيقه مصطفي إبراهيم مالك تكليف حزبي من عبد الخالق باعداد كتيب ’لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني’ للطباعة.
وحيث ان الكتيب يشير الى الثورات الوطنية أدخل الرفيقان الصور المناسبة للشخصيات الوطنية ذات الصلة وبينها صورة عبد الخالق ذاته. حملا الكتيب المعد في زهو وقدماه الى عبد الخالق الذي ما ان تصفحه ووجهه يكفهر حتى رمى به على الطاولة “وبدأ يخاطبنا سائلاً: دا شنو دا؟
قلنا له هذا هو الكتيب الذي طلبت منا إعداده.
فرد غاضباً: ’دا تاريخ حزب وليس تاريخي أنا. دا تاريخ حزب تملآنه لي صور؟ ’ مرددا: ’الصور صور ودا تاريخ حزب وليس تاريخي أنا. فتاريخ الحزب لا توضع معه أي صورة حتى صورتي .

ولكي لا يشطح تشكيلي ذو دم فاير أصلاً ويحسب أن عبد الخالق يرمي الى تبخيس أهمية نشر صور الشخصيات التاريخية أو غيرها فإنني أعتقد أن عبد الخالق ربما كان يؤمن بأن نثر الكتيب كاف لأن يبرر نفسه بقوة السبك والبيان وسداد الرؤية . نثر عبد الخالق هنا مبين على نحو كافٍ. وإدخال الصورقد يعني أن ذلك النثر في حاجة الى ’سندة بي جكة’.
أحسب أن عبد الخالق يدرك أهمية دور الفرد في التاريخ. قال مخاطباً فقيده، عمر محمد ابراهيم: يحكي له في معرض رثائه له عن رفاقه وأصدقائه :”’تفيض قلوبهم امتنانا لرائد من رواد الفكر الإشتراكي’ وعن الشفيع وهو حي يرزق كتب في ’ دفاع أمام المحاكم العسكرية ’: “وعرفت كل هذه القيم الوضاءة والمعاني السامية في قائد كبير هو الشفيع احمد الشيخ الذي بنى لعمال السودان مجداً مشرفاً سيظل كذلك رغم السحب” .
يعني نحن في حاجة الى تاريخ حزب وتاريخ حركة وطنية مكتظ بالصور وبالاسماء. الحزب ليس كجملود صخرحطه السيل من عل. إنه كائن حي مبني من البشر ومن تجاربهم الحياتية : كيف تكتب تاريخاً للعمل الشيوعي ليس فيه ذكر بالخير لعبد القيوم محمد سعد أو آدم على آدم أبوسنينة أو شاكر مرسال او الوسيلة أو الجنيد علي عمر أو شيخ الأمين والحاج عبد الرحمن وعوض عبد الرازق ، مثلاُ.
في العام 1970 قام كاتب هذه السطور بإعداد عرض مسرحي لأبادماك لمناسبة الذكرى المئوية لفلادمير لينين. العرض كان قي ساحة مفتوحة في بيت المال. وكان توليفة من مقتطفات من ” عشرة أيام هزت العالم لجون ريد عن للأيام الأولى لثورة اكتوبر الإشتراكية وبعض فصول من ” المأساة المتفائلة ” التي كتبها الروسي فيشنيفسكي حول كوميسارة لعبت دورها سعاد ابراهيم أحمد نسعي لإقناع بحارة فوضويين باٌلإنضمام الى الثورة بعد أن لعبت دور تروتسكي وهو يلقى الترحيب والإحترام في مؤتمر السوفيات .. لم يرتفع صوت احتجاج واحد على قيام عضو لجنة مركزية بالتماهي مع تروتسكي على ذلك النحو. وفي أمسية سياسية في دار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي كان عبد الخالق المتحدث الأساس فيها – كان لكاتب هذه السطور المشاركة بكلام عن الماركسية كررت فيه مراراً ” أن الكلمة الأخيرة ما قيلت بعد’ . التصفيق الذي عقب تلك العبارة في وجود عبد الخالق : كان أميز ما فيه ما قام به الخاتم عدلان حيث كان يصفق واقفاً ووجهه يتوهج بالحماس والله على ما أقول شهيد.لم يتم بعدها التعامل معي باعتباري خارجاً عن ملة الماركسية والشيوعية. احسب أن الحزب وقتها كان مستعداً لقبول اي توجه سوى التعلق بافكار المغامرة اليسارية التي يتبناها الصينيون.
هذه مقدمة لمقترح أن يقوم بروفسور فاروق محمد إبراهيم بإشراف على كتاب عنوانه:
” طبقات ود قرة العينين في مناقب أهل اليسار الصالحين” يكون سجلاً بالصور إن تيسرت لمن لعبوا دوراً في نشوء وارتقاء الفكر الماركسي واليساري في السودان.
ما يلي شيء من التفصيل حول ثلاثة من المتهمين في تلك القضية :
آدم أبو سنينة
عنه جاء في تقرير المخابرات البريطانية عن بعض شخصيات سودانية شيوعية :
“رباطابي في نحو الخامسة والعشرين من العمر . تاجر مواشي من أدوك – أعالي النيل ولكنه يقضي معظم وقته في الخرطوم .. يقيم في أمدرمان ويمت بصفة القرابة الى عائلة أبو سنينة في الأبيض.
درس في وادي سيدنا الثانوية، وفي العام 1950 ذهب الى وارسو حيث حضر مؤتمر السلام العالمي الثاني كممثل لحركة السلام السودانية. تم توجيه الإتهام اليه في قضية عضوية مؤتمر السلام ولجنة الشباب ولكنه اختفى قبل المحاكمة. ظل على تواصل مستمر مع حركة السلام في براغ وفي باريسbbbvc

وعنه كتب ليندسي ، رئيس القضاء في معرض تقريره عن القضية استجابة لطلب الإستجواب البرلماني الذي نقلته الخارجية البريطانية لحاكم السودان العام:
” ولقد قام تاجر مواشي سوداني، وهو عنصر رئيس في الوقائع التي سبقت هذ المحاكمة بزيارة اوروبا في نوفمبر العام 1950 لأسباب تتصل في ظاهرها باعماله التجارية ولكنه في واقع الأمركان قد تزود بتعليمات من لجنة السلام ومؤتمر الشباب (وهو عضو في المنظمتين الاثنتين) – وذلك لتمثيلهما في المؤتمر العالمي الثاني لأنصار السلام ومؤتمر الشباب هذا الرجل عاد الى السودان في ديسمبر العام 1950 وقد ادلى لاحقاً ببعض إفادات الى الشرطة، ولكنه اختفى – توارى قبل المحاكمة ولم يتم اعتقاله حتى الآن.
لدى عودته الى السودان قدم للجنة السلام ولمؤتمر الشباب تقارير عن نشاطه خارج البلاد إنابة عنهما وقدم لهما دعايات شيوعية في هيئة “مانيفستو الى شعوب العالم” و رسالة الى هيئة الأمم المتحدة وكلا الوثيقتين صادرتان، فيما يبدو، عن المؤتمر العالمي الثاني لأنصار السلام. لقد تلقى بعض المتهمين نسخاً من تلك الوثائق التحريضية لتوزيعها على الجمهور. وكذلك كانت في حوزته رسالة من لجنة السلام في باريس (قامت الحكومة الفرنسية بحلها مؤخراً) تحمل اعترافاً بلجنة السلام السودانية”

ولقد تكررت الإشارة الية في محاضر جلسات المحاكمة:
كتبت ” الرأي العام ” :
” ولم يظهر في المحكمة المتهم الأستاذ آدم علي آدم أبو سنينة فتقدم الى المحكمة ضامنه احمد افندي السيد عبد الله المقاول بالخرطوم فأُنذر بدفع قيمة الضمان البالغ قدها 50 جنيهاً في ظرف 24 ساعة “إذا لم يحضر المتهم”. كم جاء في المحضر الأول للمحاكمة في صحيفة الرأي العام .

في محضر أقوال احمد عبد الله المغربي “مثلاً أفاد أنه سكرتير لجنة السلام أما أعضاؤها فهم آدم علي آدم ومحمد سيد أحمد وحسن الطاهر زروق ومحمد السيد سلام وعبد الماجد ابو حسبو والتجاني الطيب بابكر وعز الدين علي عامر ومحمد الحسن الطيب وأحمد سنجر وخالدة زاهر” – وعندما سافر آدم على آدم الى مصر كتب لي من هناك انه يزمع زيارة انكلترا في مهمة تجارية فكتبت له اطلب اليه أن يمثلنا في اجتماع عام لمؤتمر السلام يعقد في اوروبا وبعد عودته طلبت اليه ان يكتب تقريراً للمصلحة ففعل”

وسأل القاضي احمد عبد الله المغربي:
هل عقدت بعد عودة آدم من وارسو اجتماعات للجنة بانتظام؟
من الذي طلب من آدم أن يذهب لى وارسو وكان الرد:
لم يطلب اليه ذلك احد ولكني طلبت اليه أن يمثلنا عند ذهابه الى انكلترا في مؤتم السلم العالمي بمدينة شفيلد
أما شاهد الإتهام الثالث الذي داهم منزل المغربي في 15 يناير 1950 فقد شهد بأنه وجد ثلاثة أشخاص مجتمعين بيبنهم آدم وحين سأله مكل، المدعي العام ماذا كانوا يفعلون حين دخلت عليهم في المنزل أجاب:
“كانوا قاعدين”
فضجت شرفات الجمهور بالضحك.
– و جاء في مذكرة جيمس روبرتسون الى آرألن، دائرة إفريقيا في الخارجية البريطانية عن النشاطات
الشيوعية في السودان – بتاريخ 9 يونية العام 1951
“دخلت حركة السلام في السودان دائرة الضوء بعد عودة آدم علي آدم أبو سنينة من وارسو والذي كانت سكرتارية لجنة السلام السودانية قد إرسلته الى هناك. بعد حضوره مؤتمر وارسو زار آدم فينا حيث حضر ايضاً مؤتمر اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي وقبل العودة الى السودان مر بباريس وبراغ حيث اسس صلة بين اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي ومؤتمر الشباب السوداني.
عاد الى الخرطوم في منتصف ديسمبر بعد شهر قضاه في أوروبا وقدم تقارير طويلة ومبينة الى لجنة السلام ومؤتمر الشباب .

وفي جلسة الخميس 10 مايو وقف شاهد الإتهام الأول بابكر افندي الديب وقال ان المعلومات التي تلقيناها أخيراً تدل على أن آدم في مكان ما بالعاصمة المثلثة وأنهم قد ارسلوا الى جميع المديريات والى بوليس الحدود للبحث والمراقبة وطلب من القاضي أن يستمر في الإجراءآت ضد آدم مع عدم إعلان ذلك وفي نطقه بالحكم قضى فضيلة القاضي بان آدم علي آدم هو مفتاح هذه القضية.
ووفقاٌ لإشارة دكتور رفعت السعيد فإن آدم علي آدو ارتبط بهنري كوريل في مجموعة روما التي ضمت في الأساس يهوداً ماركسيين مصريين تم إبعادهم عن مصر. المجموعة كانت تقوم بعملها الثوري من باريس وأيام آدم الباريسية ولياليها لا احسبها تشبه في شيء أوهام مصطفى سعيد الكاركتورية . ولكن ما أدرانا والأهل في الأبيض نفضوا يدهم منه فيما يبدو !!
-‐——-
وختمت الصحيفة محاضرها بقولها: وهكذا أنتهت قضية السلام التي شغلت رأي العام السوداني شهوراً طويلة.

حسن الطاهر زروق (1917 – 1980)
أشار بروفسور فاروق عرضاً الى أن مجلة الكادر المطبوعة الداخلية للحزب الشيوعي نشرت في سنة 1955 نقدا مهيناً لحسن الطاهر زروق الذي كان العضو الشيوعي البرلماني الوحيد بدعوى ان اداءه في البرلمان لم يكن جيدا بما فيه الكفاية.
ما صحة هذا الزعم وما هو الدافع وراءه ؟
كتب عنه تقرير المخابات البريطانية عام ” 1949 أنه مولود في امدرمان عام 1917 وانه من المولدين الذين درسوا في كلية غردون عمل مدرساً في مدرسة امدرمان الأهلية. كان قبل ذلك معلماً في مدرسة البنات الوسطى في امدرمان التابعة للمعارف وجرى فصله منها في اغسطس العام 1948 . ظل على الدوام موال حميماً لمصر ومعاد شديدا لحكومة السودان والحكومة البريطانية. وهو من كبار الأشقاء وبين قادة مؤتمر الخريجين. له سابقة جنائية واحدة حيث كان عليه تكبد غرامة بلغت 25 جنيهاً عقاباً على القيام باعمال احتجاج و شغب. ”
– محجوب عمر باشري كتب عنه أن “والده كان عام 1912 سر تجار بحري وأن حسن، الذكر الوحيد بين شقيقاته، كان يرتدي أجمل الملابس وكان أبوه، الذي تدهورت حالته المالية يقطع المسافة من امدرمان بالمركب ويعبر كوبري الخرطوم بحري بقدميه، يحمل اليه في كلية غردون أطايب الفاكهة .
وأضاف: ” كان طالباً مميزاً مثقفاً أنيقاً لطيف الحديث والكل يستلف منه كتب سيدني ويب وباتريس ويب ولاسكي وكول. كان يقرا كتاب برتراد رسل عن الإتحاد السوفياتي ويؤمن بالإشتراكية الفابية دون غيرها وقدم له محمد إبراهيم خليل كتاب “العالم الجديد الشجاع” لألدوس هاوسكي
كان عضواً في حستو وفي مؤتمر الشباب وتم انتخابه في اول برلمان سوداني ليكون أول شيوعي إفريقي او عربي يتم انتخابه ديمقراطيا في برلمان بلاده ”
• بروفسور فاروق وصف نقد مجلة الكادر لحسن الطاهر زروق بأنه “لم يكن منصفاً أبداً نسبة للأداء الرفيع الذي تميز به وأثبتته مضابط البرلمان.”
وهو محق في ذلك تماماً.
وجدت في كتاب “السودان على مشارف الإستقلال الثاني (1954- 1956 )” الذي كتبه دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه والذي قمت بترجمته الى الإنكليزية قبل نحو عامين 14 إشارة الى حسن الطاهر زروق: الإشارة قد تكون مساهمة في مداولة برلمانية او نشاطاً إجرائياً جوهرياً .. الكتاب يحمل نحو صفحة كاملة لإنتقادات حسن الطاهر للدستور المؤقت. وكذلك يورد الكتاب مقتطفاً وافياً من نقد حسن الطاهر للمذكرة التفسيرية لقانون مكافحة النشاط الهدام. بل إن الكاتب بلغ قدراحترامه لمساهمات حسن الطاهر البرلمانية حد الإشادة بمداخلته حول الدستور المؤقت حيث أشار تحديداً الى أن حسن الطاهر زروق أكد على “مبدأ أساسي في الفقه الدستوري عندما قال إن أي دستور لا يشترك الناس في وضعه عن طريق ممثليهم المنتخبين لن يكون معبراً عن إرادة الشعب، ولن نستطيع أن نطلب من الناس احترامه وطاعته والولاء له.”
• ففي 15 مارس 1955 شارك حسن الطاهر زروق ممثلي الجبهة الإستقلالية: المحجوب، عبد الله خليل، يوسف العجب، وميرغني حمزة وبوث ديو في تقديم مقترح الجلاء.
• في 17 مارس شارك في اجتماع حول توقيت الجلاء وعلاقته بالسودنة مع بابكر عوض الله وأحمد محمد يس وتقرراتمام السودنة بحلول يونية 1955 وتحريك إجراءآت الجلاء وتقرير المصير
• لعب دوراً في المداولات المتصلة بالغاء قانون قمع النشاط الهدام الذي كان قد اصدره الحاكم العام السنة 1953 حيث أشار الى أن المذكرة التفسيرية للقانون تقول إن الشيوعية قد انتشرت ويجب محاربتها وأوضح أنه ” إذا كانت الشيوعية قد انتشرت فلم يكن انتشارها بطريقة إجرامية لأن الشيوعيين لم يحملوا حراباً ولا سيوفاً لكي يرغموا الناس على اتباع آراء معينة “. واضاف ” أن الشائع الآن هو أن كل حر قام لتحرير بلاده يوصف بأنه شيوعي فإذا كانت هذه هي الشيوعية فنحن شيوعيون باصرار.”
• وفي جلسة مجلس النواب في أغسطس العام 1955 المتصلة بقرار تقرير المصير نبه حسن الطاهر الى ان ” المديريات الجنوبية فيها تجمعات قبلية قهرها الإستعمار وتركها في وضع متأخر بدائي ظالم ” ودعا الى تخليصهم من هذا التأخر والى إعطائهم حقهم في وضع نظمهم المحلية وتنظيم وضعهم الخاص في نطاق وحدة البلاد.
• وحول تقرير المصير من داخل البرلمان عبر عن تخوفه من ىأن يقع بعض أعضاء البرلمان الراهن وقتها تحت تاثير ما وعبر عن تفضيله للإستفتاء الشعبي المباشر الذي يسبقه إطلاق الحريات ليعبر كل فرد عن رايه في مستقبل البلاد بصراحة.
• في انتخاب رئيس الوزراء الجديد فاز أزهري وسقط عبد الله خليل وامتنع حسن الطاهر عن التصويت واقترح ميثاقاً وطنياً تتبناه الحكومة.
• وفي جلسة 19 ديسمبر شارك في قرارات جماعية مثل مجلس السيادة الخماسي ولكنه اعترض على بعض الأسماء المرشحة مثل عبد الفتاح المغربي وأحمد محمد يس وقال إن المشاورات التي سبقت تكوين هذه اللجنة لم تشترك فيها جماهير العمال والمزارعين. وحزب الجبهة المعادية للإستعمار المدافع عن حقوق تلك الجماهير. وأضاف قائلا : ” إنه يوجد مقياس واحد نعرف به الناس ونضعهم على أساسه في المناصب ذلك هو تاريخهم الوطني وحهادهم في سبيل حرية بلادهم وكان الواجب يقتضي استفتاء الشعب في اختيار ممثلي رأس الدولة ” . واقترح اضافة اسمي أحمد خير وأحمد مختار الى قائمة المرشحين.
• في جلسة إجازة الدستور المؤقت المشتركة في 31/12/1955 افتقد حسن الطاهر الإشارة الى الجمعية التأسيسية في الدستور المؤقت وحدد عدة مباديء لتضمينها في الدستور بينها أن يكون الدستور مستمداً من مصالح الشعب وأن يحترم إرادته وأن يشرك الشعب إشراكاً واسعاً في الحكم وأن يجعل جهاز الدولة ديمقراطياً بحيث يكون للشعب الحق في مراقبة أجهزة الدولة ومحاسبة ممثليه وكذلك توفير الحريات العامة وحرية اعتناق الأراء السياسية والعمل لها..
• لاحظ حسن الطاهر أن المادة 5 من الفصل الثاني تنص على بعض الحريات العامة ولكنها أغفلت حق التظاهر السلمي وحق التتقل وحق سرية المراسلات ولاحظ ان المادة تنتهي ب ” في حدود القانون” وأضاف ان التجارب علمتنا ان القوانين المقيدة للحريات التي وضعها المستعمر تسلب تلك الحقوق وتجعل ممارسة الحقوق التي منحها الدستور أمراً مستحيلاً.
• وهنا يسوق دكتور فيصل عبد الرحمن علي طه في كتابه: “السودان علي مشارف الإستقلال: 1954م – 1956م تثميناً فريداً لمساهمات حسن الطاهر زروق حيث يقول: “ولعل أبرز ما ورد في مداخلة حسن الطاهر زروق تأكيده على مبدأ أساسي في الفقه الدستوري عندما قال: “إن أي دستور لا يشترك الناس في وضعه عن طريق ممثليهم المنتخبين لن يكون معبراً عن إرادة الشعب ولن نستطيع أن نطلب من الناس احترامه وطاعته والولاء له.”
كتاب دكتور فيصل رصد نشاط حسن الطاهر زوق البرلماني على نحو لم يجده أي نائئب برلماني آخر.ذلك تثمين فريد إذ أن الكاتب لم يجُد بمثله على نائب برلماني آخر.
• وأنا تصرفت كما لو أن ترجمتي لذلك الكتاب الى الإنكليزية يمنحني الحق من نقل صفحات منه وكأنها كلماتي العربية أنا. وهذا تفسير ابداعي لقانون حقوق الملكية الفكرية!!!
•. دكتور فيصل لا يمت بصلة فكرية الى حسن الطاهر زروق ولكنه كأكاديمي أنصفه ولم يتردد في التعبير عن إعجابه بمساهماته. أنصفه . أما ذوو القربى فقد ظلموه.

لماذا هذا ؟
—————
لعل تفسير نقد مجلة الكادر الشيوعية الجائر لأداء حسن الطاهر زروق البرلماني يكمن في سبب قد يدعو الى إحساس عديدين بالصدمة فهو لا يتصل بالحسد قط ولكنه ينطلق من حراق روح لا أكثر في نظري. “عناصر قائدة في الحزب كانت تتوقع أن يجود حسن الطاهر براتبه البرلماني الوفير للحزب ويكتفي منه بأجر المحترف المتفرغ.. اللائحة لا تعطي الحزب هنا عضة مناسبة في مثل ذلك الدخل الوفير غير المألوف .
أدرك تماماً أن ذلك كان النهج المالى مع نواب الحزب في برلمان 65. حسن الطاهر كان الإستثناء الوحيد. الحزب تركه هنا لحاله. الفقيد عبد الخالق هو الذي أسر لي بذلك – والله على ما أقول شهيد – حين قلت له متهجماً: ’أنتو ما بتعاملوا حسن الطاهر كويس’ . إجابته أفحمتني.
أحسب ان، الحزب كان مدقعاً مالياً قبل أن ينتثر الرفاق في الشتات الإلزامي ولا يبخلون على الحزب بالمقوي الذي لم يعد رمزياً ولم يعد مطلوباً جباية غرامات مالية فضلاً عن المقوي عن الطلاب غير المنتجين.
عبد الحليم عمر حسب الله
هذه هي الشهادة التي امدني بها
بروفسور فاروق:
وادي سيدنا مع مجموعة مميزة في إضراب مؤتمر الطلبة عام 1949.
تم قبوله معنا في كلية الهندسة ولكنه التحق بالمعهد الفني لأن المعهد أكثرقرباً من الطبقة العاملة.
تنفس الصعداء بعد ما سجن شهرين لقيادة مظاهرة بعد محاكمات أنصار السلام وفصله من المعهد فوجد مبتغاه متفرغاً حزبياً عاملاً في تاسيس حركة اتحاد مزارعي الجزيرة.
بعد الإستقلال صدمته تناقضات الحركة الشيوعية العالمية والمحلية فأصابه داء السكت.
استنطقته بصعوبة شديدة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بعدما عاد الى البلاد بدكتوراه في الجيلوجيا وشارك في مؤسسة بحثية في الخرطوم ولكنه لم ينطق ولم يبن كثيراً.
شقيقه عبد اللطيف حسب الله كان من تلاميذ محمود محمد طه.
“جعفر شيخ إدريس قال لي باعتزاز “عبد الحليم المتبتل خالي”
بورك فيك يا بروفسور فاروق.

نورد هنا بعض المسائل القانونية التي أثيرت خلال المحاكمة.
– الإتهام طلب اعتبارالمحكمة الراهنة محكمة إحالة فقط على أن تتم الإحالة الى محكمة كبرى.
– درديري أحمد إسماعيل محامي عبد الحليم رفض الطلب مشيراً الى ان القضية هي الأولى من نوعها في البلاد ومحورها بأسره يدور حول مسالة المبدأ الشيوعي وهو أمر يحتاج الى معرفة دقيقة فائقة من الناحية الثقافية والقانونية. استطرد معبراً عن احترامه الفائق للأعضاء الذين تتألف منهم عادة المحكمة الكبرى غير أنه لا يوافق على إحالة القضية الى محكمة كبرى “إلا إذا قدم المدعي لي ضماناً بأن المحكمة الكبرى ستشكل من القضاة الكبار(يعني لهم ثقافة وإلمام واسع) فلا مانع عندي.
– القاضى اوضح أنه ليس في نيته احالة اي متهم يرى ممكناً محاكمته في هذه المحكمة.
– أحمد خير اشار الى ان التهمة تستند الى قانون الجمعيات غير المشروعة الذي تم سنه في ظروف عصيبة سالت فيها الدماء واختلط الأمر وأفلت زمامه من الجمهور ومن يد المسؤولين فجاء القانون ليعاقب جمعيات العنف والإرهاب والإخلال بالنظام. أما الأمر الذي صدر العام 1950 فقد ضم الى تلك الفئات الجمعيات التي تدعوالى الشيوعية أو تساعد على نشر مباديء الكمونفورم وجميع المتهمين يدعون الى فكرة بعيدة عن العنف والإرهاب بل هي دعوة للسلام ولا علاقة لها بأمر سنة 24 أو سنة 1950.
– درديري لا يوافق على أي تاجيل القضية “إن وكيلي طالب ولا أوافق على تأجيل القضية لأن ذلك على حساب أعصابه فهو ما زال شاباً صغيراً. ثانياً أزمع السفر الى مصر قريبا.
– احمد خيرطلب التأجيل لأن هناك شهود دفاع سيحضرون من القاهرة ولندن.

– القاضي حكم بأن الزمن كان كافياً لحضور مثل هؤلاء الشهود.
– حين قرأ الديب، شاهد الإتهام الأول مقتطفات من صحيفة التايمزعن اجتماعات مجلس السلم العالمي قاطعه أحمد خير: التايمز صحيفة سيارة وليست مستنداً تعتمد عليه هذه المحكمة.
– حين سأل مكل شاهد الإثبات الثامن – رجل البوليس عبد الله الجاك:
– هل فتشته في يوم 17/2 ووجدت لديه الأوراق المؤشر عليها؟ أعترض درديري: يجب ان تسأل الشاهد عما وجده لا أن يُعرّف بشيء ثم يُسأل هل وجده (السؤال ايحائي)
– القاضي وافق على اعتراض درديري
– حين كانت المحكمة تنظر في طلب التأجيل كتبت الراي العام “في هذه اللحظة دلف الى المحكمة المستر مفرقوردانو المحامي العمومي السابق والمستشار القضائي لحكومة السودان وجلس في نهاية منضدة المتهمين (الصحفي العادي قد لا يعرف هوية ذلك الخواجة صاحب الإسم الذي يكاد يستعصي نطقه. أغلب الظن ان احمد متولي العتباني هو من كتب محاضر تلك المحاكمة. تغطية تلك القضية احتلت الصفحة الأولى كل مرة وتمددت لتملأ صفحات بكاملها. الثقة التي تم بها تدوين تلك المحاضر هي ثقة صاحب بيت موش واحد من المعازيم) .
– احمد خير أشار الى انه لا يجوز أن يكون قاضي الإحالة هو القاضي الرئيس في المحكمة الصغرى.
– حول العلم القضائي دفع الإتهام بأن العلم القضائي ليس محصوراً في الأشياء المعلومة للناس جميعاً وإنما على المحكمة ان تعمل في نطاق اوسع للعلم القضائي كما حدث أثناء الحرب وهنا قرأ مقتطفاً يشير الى قضيتين تعودان الى ايام الحرب لتسند ما ذهب اليه.
– القاضي كان بوسعه محاكمة عبد الخالق حمدتو وعبد الحليم عمر وإحالة المتهمين الآخرين الى المحكمة الصغري ولكنه فضل عدم الفصل بينهم وإحالة الجميع الى المحكمة الصغرى المنعقدة برئاسته وعضوية بدوي محمد علي وشريف احمد شرفي.
– القاضي تجاهل إدعاء الإتهام حيازة عبد الحليم للواء الأحمر فحوكم بموجب المادة 4/1.
– إطلاق سراح جميع المتهمين بكفالة ضامنين بواقع 100 جنيه لكل متهم لحضور المحكمة الصغرى لدى انعقادها.
– في 9 مايو 1951 قضت المحكمة الصغرى بأن لجنة السلام السودانية ومؤتمر الشباب السوداني منظمتان غير مشروعتين عليه فقد ادانت جميع المتهمين الخمسة عشر الذين مثلوا امامها بمقتضى المادة 4 من قانون المنظمات غير المشروعة للعام 1924 والذي يميز بين الجناية التي يرتكبها الأعضاء العاديون في منظمة غير مشروعة وتلك التي يرتكبها أولئك

– إثنا عشر متهماً أدينوا بتهمة المساعدة في أدارة منظمة غير مشروعة وإثنان أدينا بتهمة مجرد

 العضوية في تلك المنظمة بينما أدين متهم واحد بالتهمتين (هو التجاني الطيب بابكر)
– وصدر الحكم بالغرامة المتراوحة بين 25 و100 جنيه عن كل متهم.
ما بعد المحاكمة
جاء في مذكرة حول النشاطات الشيوعية في السودان عن الفترة من 22/10/50 الى 4/6/51 صادرة عن مكتب السكرتير الإداري:
” ما أن تبينت الصلة بين حركة السلام في السودان والمنظمة الأم في أوروبا وما أن تأكد من طبيعة الأدبيات المستوردة من الخارج أن حركة السلام مستوحاة شيوعياً حتى تقرر محاكمة الأعضاء المكونين لحركة السلام وأعضاء تنفيذية مؤتمر الشباب كأعضاء في منظمة غير مشروعة بمقتضى القانون الصادر في نوفمبر العام الماضي والذي نص على أن أية منظمة تروج لمباديء الشيوعية الدولية او الهيئة المعروفة باسم الكمونفورم أو تمارسها أو تبشر بها هي منظمة غير مشروعة بموجب قانون الجمعيات غير المشروعة للعام 1924.
تمت محاكمة 15 من أعضاء المنظمتين وفقاً لذلك وأدينوا بغرامة قدرها 600 جنيه.
سكرتير لجنة السلام أحمد عبد الله المغربي طالب آداب سابق في كلية غردون أخفق كمدرس في الأحفاد ثم صار سائق تاكسي في الخرطوم وهوالآن خالي شغل ويقيم في منزل الأسرة.

بتاريخ 20 يونية كتب سي جي ديفيس من وكالة حكومة السودان في لندن الى ماكسويرث يونغ في دائرة إفريقيا التابعة للخارجية البريطانية:
عزيزي ماكسويرث
عطفاً على استسفاركم بشان محاكمة انصار حركة السلام السودانية والتي تلقيتم حولها استجواباً برلمانياً، فإنني أرفق لكم هنا صورة من التقرير الرسمي بصدد المحاكمة كما دونه رئيس القضاء
ومع التقرير هناك مقتطفان من “سودان ويكلي نيوز لتار” ومقتطف من “سودان استار”
ارجو ان تجد في الملحقات ما تنشده من معلومات.


في الشهر الماضي كانت أولى محاكماتنا بموجب ذلك الأمر التشريعي.
ولسوف ارسل نسخة من هذ الرسالة مع مرفقها الى وردال سميث في القاهرة والى دائرة استخبارات الشرق الأوسط.
————
مقتطف من سودان ويكلي نيوز ريل (التي يصدرها فرع العلاقات العامة في مكتب السكرتير الإداري).
الرقم 110/51 للإسبوع المنتهي 21 أبريل 1951

أول محاكمة لمكافحة الشيوعية في السودان

اهتمام بالغ في العاصمة المثلثة أثارته محاكمة واحد وعشرين من منظمة أنصار السلام السودانية. هذه هي أولى قضايا مناهضة الشيوعية في السودان وقد جرت بمقتضى أمر الخامس عشرة من ديسمبر العام 1950 والذي نص على أن كل منظمة في السودان تدعو أو تروج نظريات أو مباديء الشيوعية الدولية أو تلك الخاصة بالهيئة المسماة الكمونفورم أوتمارسها هي منظمة غير مشروعة.
عندما بدأت المحاكمة يوم الأثنين تم إخلاء سبيل ستة من المتهمين لعدم كفاية البينات. بين هؤلاء المرأة الوحيدة وسط المتهمين وهي طالبة في كلية غردون التذكارية. وبينهم ايضاً رئيس اتحاد نقابات السودان. أحد المتهمين لم يمثل أمام المحكمة ولم يتيسر العثور عليه بعد. سبق له حضور مؤتمر السلم العالمي في براغ في العام الماضي.
لقد أنكر جميع المتهمين بشدة أن تكون لمنظمتهم أية صلة بمنظمة خارج البلاد وبخاصة الكمونفورم، كما أفادوا أنهم لا تعاطف لديهم مع الشيوعية الدولية ولا يعرفون عنها شيئاً. على أن القاضي وجد ما يكفي من بينات ضد المنظمة لإحالة المتهمين الخمسة عشر الى محكمة صغرى بكفالة قدرها 200 جنيه عن كل متهم.
—————–
الرقم 113/52 للإسبوع المنتهي في مايو 1951
محاكمة لمناهضة الشيوعية
حكمت محكمة صغرى في الخرطوم بغرامات بلغت 700 جنيه وبالسجن بديلاً في حالة العجز عن الدفع وذلك ضد خمسة عشر من أعضاء ما تدعى لجنة السلام السودانية ومؤتمر شباب السودان.
وقد قضت المحكمة بأن المتهمين مدانون بنشاطات متصلة بالشيوعية الدولية. مثل تلك النشاطات محظورة في السودان بموجب قانون الجمعيات غير المشروعة منذ بداية هذا العام.
أنظر سودان ويكلي نيوز لتار الرقم 110 في تاريخ 27/4/51.
—————
وكأن سير جيمس روبرتسون لا يكفيه تجاهل درجة إهتمام الصحافة السودانية المكتوبة بالعربية بتلك المحاكمة. وكأن لا يكفيه تجاهل أن صحيفة مستقلة مثل الرأي العام تجد إحتراماً واسعاً من موظفي الحكومة لا في العاصمة المثلثة وحدها قامت بتغطية تلك المحاكمة على نحو غير مسبوق قط من جهة تأكيد أهميتها لجمهور ضاقت به ساحة مبنى محكمة الخرطوم الجنائية. كما لا يكفي أنه تجاهل أن هناك صحيفة واسعة الإنشار وهي قريبة تماماً الى المتهمين اسمها الصراحة لا يمكن لتغطيتها الترفق بحكومة السودان وبريطانيا لا يكفيه كل ذلك. بقي له إذن مغالطة تقديرات سودان ويكلي نيوز التي تصدر عن مكتبه حول درجة الإهتمام بتلك المحاكمة .. أنظر رسالته التالية:
السكرتير الإداري
الخرطوم
الى آر ألن
دائرة إفريقيا
الخارجية البريطانية
9 يونية 1951
لعلك تذكر التقارير السابقة التي كنا قد ارسلناها اليكم حول النشاطات الشيوعية في السودان وكان آخرها في 29 /10 /1950. ها انذا ارسل اليك مذكرة جديدة بما استجد. ومثلها مثل عدة تقارير اخرى فانها مستندة الى بيانات بوليسية واستخبارية فإن هذه المذكرة ترسم صورة داكنة وأكثر قتامة من الواقع.
اعتقد اننا ظللنا نشهد ترجيح حاسم ضد كفة التغلغل الشيوعي.
لقد كان ملحوظاً أن الإهتمام الحقيقي بمحاكمة المعنيين بمنظمة دعاية السلام كان ضئيلاً، وكذلك فليس هناك من الشك إلا النذر اليسير في ان العناصر المتزنة في الحركة العمالية قد تمكنت جزئياً من الصمود في وجه التأثير الإثاري للشباب الشيوعي الذي جرى انتخابه في خريف العام الماضي لقيادة النقابة.
————–
20 وكالة حكومة السودان لندن
الى ماكويرث يونغ
الدائرة الافريقية
عطفاً على استفساركم بشان محاكمة اعضاء حركة السلام في السودان، تجد مرفقاً نسخة من التقرير الرسمي حول المحاكمة كما حرره رئيس القضاء. مرفق ايضاُ مقتطفين من النشرات الإسبوعية وآخر من صحيفة “سودان ستار”
سي جي ديفيس
وكتب سي جي ديفيز وكيل السودان في لندن محيلاً الى ماكويرث في الدائرة الإفريقية – عاجل – في 26 يونية 51 المحضر الرسمي للمحاكمة فضلاً عن مقتطفين من النشرة الأسبوعية ومقتطف آخر من “سودان ستار”
*
وحيث ان تلك المحاكمة استدعت اثارة سؤال برلماني بشأنها في لندن فقد كتب الحاكم العام، روبرتسون رسالة سرية الى رئيس الدائرة الأفريقية في الخارجية البريطانية في 20 يونية 1951
الرقم: سري
Je 10115/8
“لعلك تذكر ان المجلس التنفيذي قد وافق في نهاية العام الماضي على أمر يقضي بجعل المنظمات الشيوعية منظمات غير مشروعة في السودان بموجب الفصل 3 من قانون المنظمات المحظورة للعام 1924.
في الشهر الماضي كانت لدينا أولى المحاكمات بموجب ذلك الأمر التنفيذي والتقرير المرفق قد يكون ذا نفع بالنسبة اليك.
التقرير كتبه رئيس القضاء البريطاني ليندسي تحت عنوان “التقرير الرسمي حول محاكمة اعضاء لجنة السلام السودانية وذلك بمقتضى قانون المنظمات المحظورة”.
—————-
تقرير رئيس القضاء، لندسي عن المحاكمة
التفرير الرسمي عن محاكمة اعضاء لجنة السلام السودانية ومؤتمر الشباب السوداني
في 9 مايو، 1951 في نهاية محاكمة دامت اياماً ثلاثة قضت محكمة صغرى بإدانة جميع المتهمين الخمسة عشر الذين مثلوا أمامها بتهم بمقتضى المادة 4 من قانون المنظمات غير المشروعة للعام 1924. والقانون يميز بين الجناية التي يرتكبها الأعضاء العاديين لمنظمة غير مشروعة واولئك الذين يساعدون في إدارتها.
انه من اختصاص قاض بمفرده محاكمة متهمين بموجب الصفة الأولى ولكن في حالة الصفة الأخيرة فان المحكمة المختصة تتكون من ثلاثة قضاة. تمت ادانة اثني عشرة بتهمة المساعدة في إدارة منظمة غير مشروعة واثنين بتهمة محض العضوية فيما ادين ثالث بالتهمتين الإثنتين. وقد تراوحت الغرامات المفروضة بين 25 جنيهاً و100 جنيه .وبمقتضى نصوص القانون فانه مخول للحاكم العام ان يعلن من وقت الى آخر أن منظمة بعينها غير مشروعة وفي نوفمبر 1950 جرى نشر امر باسم قانون المنظمات غير المشروعة للعام 1924 يقضي بما يلي:
” أية منظمة كانت والمنظمات جميعها في السودان مهما جرى اسمها تدعو الى مباديء الشيوعية الأممية أو الجهاز المعروف باسم الكمونفورم او نظرياتها أو تروج لها أو تمارسها هي منظمة غير مشروعة بموجب قانون المنظمات غير المشروعة للعام 1924.”
وفي الوقت الذي سرى فيه ذلك الأمر كقانون كانت في هذه البلاد منظمات معروفة باسم لجنة السلام السودانية ومؤتمر الشباب السوداني. ورغم صدور الأمر واصل أعضاء هاتين المنظمتين يعملون بجد وكد في تنفيذ السياسات التي كانوا قد التزموا بها أصلاً. ولقد ادت تحريات الشرطة الناتجة عن ذلك، الى الإجراءات القضائية الراهنة. ولقد اعترف المتهمون في دفوعهم باستمرار عضويتهم في احدى الجمعيتين (اعترف احدهم بعضويته في المنظمتين معاً) . على ان المتهمين انكروا ان يكونوا في الواقع قد بشروا او روجوا لنظريات الشيوعية الأممية ومبادئها أو الجهاز المعروف باسم الكمونفورم.
(هنا يورد رئيس القضاء عرضاً بدور آدم علي آدم ابو سنينة وقد نشرنا ذلك الطرف من محضر رئيس القضاء في تفاصيلنا عن آدم سلفاً) .

لقد تمثل القدر الاعظم من نشاط الجمعيتين المحليتين في حث الجمهور على القيام بالتوقيع على استمارات نداء السلامة مطبوعة باللغة العربية بالصيغة التي تعتمدها لجنة السلام العالمية لأنصار السلام في استوكهولم. وقد اعترف المتهمون بدعوة الجمهور الى التوقيع على الاستمارات ولكن المتهمين انكروا ارسال تلك التوقيعات الى خارج البلاد.
في يناير 1951 داهم البوليس اجتماعاً لثلاثة من أعضاء لجنة السلام في احد بيوت امدرمان. ومن بين مضبوطات الشرطة كتيب هو خطاب يحمل توقيعاً من انصار السلام الطليان ومسودة تليغراف موجه الى مجلس السلام في جنيف. (ولقد تمت استعادة النسخة الأصلية لاحقاً من مكتب البريد). والبرقية تتعهد بتاييد قرارات الاجتماع وجدول اعماله وهذه متصلة بنشاطات لجنة السلام وتحسب نمو المنظمة السريع واتساعها.
على اثر ذلك وضع البوليس يده على منشورات ذات تحيز صارخ للشيوعية يبدو أنها صادرة فيما يبدوعن مجلس السلام العالمي واتحاد الشباب الديموقراطي. بعض هذه المضبوطات كانت موجهة الى بعض المتهمين. وقد تم الوقوف عليها في مكتب البريد كما جرى ضبط وثائق اخى لدى المتهمين.
وفي إعلانه لحكم المحكمة حكم القاضي إنه بسبب صلة المنظمتين الإثنتين الأساسية بمنظمات شيوعية خارج البلاد وصلاتهما المتبادلة فان لجنة السلام السودانية ومؤتمر الشباب السوداني قامتا بالفعل بالدعوة لمباديء الشيوعية الأممية والترويج لها. لقد طلبت المنظمتان اعتراف المنظمتين العالميتين بهما ولقد أيدتا نداء استكهولم للسلام ثم انهما تبادلتا ونشرتا دعايات شيوعية اجنبية. هذه هي الصلات وهناك تماثل في الأغراض المشتركة، وهذا امر لا يمكن نكرانه.
بذلك فكل من المنظمتين منظمة غير مشروعة وفقاً لنص القانون.
اعترف كل متهم عضويته في لجنة السلام او مؤتمر الشباب: المنظمة الأولى يمكن القول إنها في مرحلتها الجنينية اذ انها مكونة من جماعة صغيرة العدد ترسم سياستها في امدرمان وفروع في انحاء السودان الأخرى.
أعضاء المجموعة المركزية وزعيم كل فرع سوف تجري إدانتهم بالمساعدة في إدارة منظمة غير مشروعة. وكذلك حال اعضاء اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشباب. وهناك ثلاثة من المتهمين تجري ادانتهم بتهمة العضوية وحسب.
مجاز للتداول”
(توقيع)
دبليو ليندسي التاريخ : 9 . 6 .1951
————-

وهكذا تنتهي القضية التي شغلت صحيفة الرأي العام كما شغلت أوساط واسعة من المتعلمين والنقابيين.
تغطية الصحيفة للقضية نموذج رفيع للمهنية وتعني احتراماً لا للقانون فحسب وانما للمتهمين أيضاً حيث تخاطبهم الصحيفة باعتبارهم اساتذةً لا مجرد أجسام غريبة تمثل فكراً مخالفًا لما هو سائد.
وقد تبدو النهاية بعيدة عن الدرامية لأن الأحكام جاءت بالغرامة لا بالسجن.
على أن غرامة 600 جنيه هي عقاب حقيقي على يسار يعتمد مالياً على طرف من مصاريف جيب الطلاب بصفة رئيسة.

5 – ما العمل؟:
تكلمت عما جرى قبل أكثر من سبعين عاماً ولكن السؤال المشار اليه في المدخل لا يمكن تجاهله تماماً: ماذا عن ليلتنا هذه؟ what about tonight?
بم أنصح من يهمني امرهم بصفة خاصة في بلدتي رفاعة مثلأً في وجه الجيش الكيزاني والجنجويد؟
معلوم ان الجيش مشغول بتكتيك الفر والفر او الخفر العسكري في مواجهة الجنجويد. أما إزاء اهل البلدة فإن لغة فض الإعتصام تظل منهجهم فيستهدفون خصوم الكيزان التقليديين. أما الجنجويد فإنهم يتلهفون على ابتهال أية فرصة تتيح لهم الذريعة لإفتراس المدنيين العزل من السلاح؟
بماذا انصحهم؟ بالمواجهة؟ بالمصانعة؟ بالمراوغة؟ أم بالهرب؟ أم بأن ’يعملوا رايحين’ .القاريء يدرك أنني استبعدت الإستنفار لأنه استهبال يسلم الشباب بأسحتهم البدائية وتدريبهم المحدود بلا سند علفاً لأسلحة الجنجويد المتقدمة بينما الجيش يولي الأدبار.
دكتور رفعت السعيد (1932 -2017) الشيوعي المصري الذي قضى زهرة عمره وطرفاً من كهولته في السجون الصحراوية ايام ناصر والسادات يحكي عن تجربة سوريالية لمئات الشيوعيين. كانوا محبوسين سنيناً عددا في احد سجون الواحات الصحراوية يُسامون الويل والعذاب رغم إعلانهم تأييد نظام عبد الناصر مطالبينه بشوية ديموقراطية لا أكثر.
على حين غرة جاء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 فعبرالشيوعيون عن رغبتهم العارمة في قتال أعداء مصر. طلبوا والحفوا في الطلب أن يسمحوا لهم بالمشاركة في الدفاع عن مصر.
الرد الرسمي كان تجاهل طلب الشيوعيين والتفنن في مواصلة تعذيبهم.
يحكي دكتور رفعت:
“أنت ترفع شعاراً سياسياً لا يلبث أن يتلبسك فيستبد بك: وهكذا انهمك الشيوعيون في إعداد أنفسهم وهم على مبعدة من أي عمران، ودون اي امل أو حتى بصيص امل في الإفراج عنهم. جندوا أنفسهم بانفسهم وتدربوا: حملوا بنادق خشبية واصطفوا طوابير تولى تدريبها الرفيق محمد مختار جمعة وهو شاويش تعلمجي بالجيش سابقاً، طبعاً.
صفوف من مئات السجناء يوقظون فجراً بأمر عسكري، يصطفون، يمشون، يحكمون الخطو: صفا – انتباه – كتفاً سلاح فقط. كل ما امتلكه وما تملكنا أن يعلمنا الخطوة العسكرية ومشتقاتها.
يفعلون ذلك بحماس جياش وكانهم متجهون على قتال العدو. ولعلهم بذلك يفرغون شحنة عاطفية نحو الوطن المشدود الى حبل العدوان.”
———-
الذين يهمني أمرهم على نحو خاص في رفاعة ليس هذا حالهم.
شحنتهم العاطفية يتم إفراغها على نحو يومي في مهام حياتية ومعاشية.
• لهم رغبة جياشة في أن تقف الحرب. واذا كان عليهم توهم النزول الى ميدان القتال فهم يدركون أن عليهم مقاتلة الطرفين معا أي في الوقت ذاته. هذا أمر حاوله الخوارج فما كسبوا قط. أن حاول الأهل في السودان ذلك اجتمع عليهم الجيش والجنجويد مثلما فعلوا في ساحة الإعتصام.
قبل نحو اربعين عاماً كنا في مطار هيثرو مصاحبين لجثمان الصديق العزيز عبد الله صالح المحامي الذي كان قد جاء الى بريطانيا للعلاج. نشأ خلاف في الرأي بين مودعي الجثمان: هل يتم التواصل الآن مع أهل الفقيد أم مع نقابة المحامين لإستقبال الجثمان. بعضنا لم يرد مشقة إضافية لأسرة الفقيد تستدعي فتح البيت للبكاء والعزاء طية الليلة بكاملها قبل وصول الطائرة في الفجر. أحتدم اللغط والخلاف زمناً ثم تدخل بعد صمت طويل كبيرنا وهو صديق أكبرنا سناً بالغ الحكمة فقال بهدوء رصين لنا جميعاً: “أعملوا الصاح!”
ذلك القول اصبح شعارنا في البيت حين يحتار بنا الدليل.
فماذا أقول للذين يهمنا أمرهم بخاصة في رفاعة يا أهل الخير؟ هل أقول لهم بهدوء ورصانة: “أعملوا الصاح” وأمضي في سبيلي؟.

الكلام رخيص أمام من يعانون مشاكل حياتية لا ترحم ولا تسمح حتى بتسرب ابتسامة. ولكنني أود أن أردد أن التقدميين في بلادنا كسبوا الأحترام بتقدمهم الصفوف في البذل والعفة عند المغنم. ذلك قد يعني اقتسام النبقة ومحاولة تأمين خروج ذوي الحاجات من جحيم هذه الحرب النتنة. ذلك يعني أن تكون هناك شبكات مأمونة لتبادل النفع والمعلومات. ذلك قد يعني تحول لجان المقاومة الى لجان صمود وإعانة، قد يعني ذلك ترتيب التكيات والبوش الجماعي وترتيب احتياجات الأحياء من مخابز بلدية للقراصة والكسرة والرغيف البلدي تتم من الموارد التي تصل من الشتات. أعلم الأهل في السودان أدرى بشوؤن دنياهم، وهم أدرى بتحديد أولوياتهم حتى على نحو يومي. على أهل الشتات دعم الجهود الجماعية على مستوى الحي ولجان المقاومة.
الكلام مجاني. الثورة قائمة هي لا تموت. قد تتظاهر بالموت. وهذه الحرب هي شهادة الإفلاس الأخلاقي والإستراتيجي للإسلام السياسي وللعسكر كلاعبين سياسيين. وهي شهادة على أن الدعم السريع هو الجنجويد بأسحة أكثر تقدماً وبمسرح عمليات مختلف. هذه الحرب سوف تنتهي حتماً بهزيمة الطرفين. الجيش لا وجه له أمام الشعب : عليه أن يستحي. أما الجنجويد فهم يبرهنون يومياً أنهم لا ينتمون الى الشعب وإنما هم مرتزقة عنصريون لا مكان لهم في المشهد السياسي المقبل.
أما نحن في الشتات فعلينا أن نتعلم حرفاً جديدة مطلوبة في بلدنا الذي دمره الجيش والجنجويد متضافرين: يعني نحن في حاجة الى الاف شاب وكنداكة يتعلمون ويتعلمن مهارات مثل السباكة والكهرباء والنجارة والإسعافات الأولية ومهارات البناء كي يدربوا الأهل في الداخل ويسهموا في بناء السودان الجديد: بلا جنجويد ولا كيزان ولا برهان.
الخاتمة
ألوذ بكلمات الشاعر المسرحي الألماني برتولت بريخت:

أنتم يا أيها الذين سوف تنجون
عقب الطوفان
الذي اودى بِنَا
تفكروا
حينما تتكلمون عن أوجه ضعفنا
تفكروا في الزمن القاتم الذي نجوتم منه
————–
بيد أنا ندري
انه حتى مقتنا للرجس والنتانة
يشوه قسمات المرء
حتى الغضب حيال الظلم
يجعل الصوت غليظاً أجش
نحن. الذين طالما حلمنا بوضع حجر اساس العطف
لا نستطيع أن نكون عطوفين

وانت حين يحين الاوان اخر الامر
للإنسان كي يعين اخاه الانسان
عليك ان تتفكر فينا بترفق
—————-
وحيث اننا في باب الاصعدة المختلفة اللازمة للعمل السياسي تحضرني حكاية من زمن جميل:
كان التجاني الطيب بابكر، احد المتهمين في هذه القضية يعمل منتدبا من الحزب بين عامي 1966و1968 في مجلة تصدر في براغ بشتى اللغات اسمها “قضايا السلم والاشتراكية” التي تصدر عن احزاب العالم الشيوعية.
الجزولي سعيد الذي كان مسؤولاً عن العمل الشيوعي كان يرى في ذلك وهو نصف مهاذر فيما يبدو، مضيعة للزمن
قال له : “قضايا السلم والاشتراكية بتاعة شنو. ياخي! يعني حتعملوا فيها أيه؟. تجي هنا ده ياخي! سيبك بلا مجلة بلا بتاع . ياخي لازم تجي المديرية! المديرية دي دايرة شغل”.
الجزولي سعيد عليم بما كتبه عبد الخالق عن تأسيس الحزب لحركة السلام وكيف انها كانت حركة “ذات اثر ملحوظ في اتجاه الرأي العام في السياسة الخارجية ذلك الاتجاه الذي فرض نفسه عند اعلان الاستقلال واصبح غلاة الرجعيين لا يتجرأون حتى اليوم على ربط البلاد بالأحلاف العسكرية علنا” .
وهو بالمثل عليم بما كتبه عبد الخالق في “الماركسية وقضايا الثورة السودانية” من ان “قضية السلم العالمي كانت في مؤتمرنا الثالث تحتل مكاناً بارزاً وكنا نرى في الاستنتاج القائل بامكانية درء الحرب مصدر قوة لحركة السلم العالمية .” قبل ان يضيف:” ويرى البعض ان سياسة السلم تدفع البلدان الاشتراكية الى التضحية بالبلدان الصغرى وان السلم يعني سلامة الدول الاشتراكية!
من مواقع الجمود اليساري ولا ترى الكثير من الحقائق الخاصة بعملية النضال ضد الاستعمار”.
احسب ان الجزولي على دراية بتحفظ بروفسور القدال القائل بان حركة السلام شاركت فيها قوى اجتماعية من مختلف أنحاء إلعالم ومختلف الاتجاهات ومن بعض الشخصيات العالمية ذات الوزن الكبير وعلى رأسهم الفيلسوف البريطاني بيرتراند رسل، ولكن احتضان الاتحاد السوفياتي لها واستغلال أهدافها النبيلة في الهجوم على المعسكر الراسمالي ونواياه العدوانية حولها الى معركة ساخنة في الحرب الباردة بين المعسكرين”.
وأحسبه قد تأمل في رأي معاوية نور الذي يقول ان السلام لا يأتي بنزع السلاح ولكن بنزع الضغائن غير أني احسب ان الجزولي كان يفكر ان للكعبة رباً يحميها وان ابله المتمثلة في مديرية الخرطوم هي ما له هو الذي يهمه امره.
القاريء يدرك ان ميلاد اليسار الماركسي في السودان جاء استجابة لظروف دولية. واقليمية ومحلية وانه جاء بلغة سياسية مختلفة وبرؤية للواقع. تختلف عما هو مالوف وبثقافة سياسية متميزة.
وقد يبدو انشغال شعبنا قبل ما يزيد عن سبعين عاماً بالسلام العالمي شطحة يصعب فهمها طالما ظل باب التضامن مع شعوب بعينها مفتوحا بلا مواربة وأدني الى تجربة بلدنا التاريخية. انني لا أشير فقط الى جهود التطوع في حرب فلسطين بل أيضاً الى الوفد القيادي الذي بعث به الحزب الشيوعي الى القاهرة مشاركةً عسكرية في صف الشعب المصري ضد العدوان في العام 1956 وكذلك استعدادات التضامن مع شعوب الكنغو وكوريا وفيتنام (عن الاخيرة صُمم صابر ابو عمر ومحمد بشير حامد بطاقة تضامننا مع شعب فيتنام (ارفعوا ايديكم عن فيتنام Hands of Vietnam ) .
الطباعة كانت بالبالوظة والتوقيعات في غضون سويعات فاقت الألف توقيع. (تم فصلي من الجامعة وبالتالي من الداخلية لفترة دراسية واحدة بعد أكتشاف البالوظة. كوز اسمه عابدين سلامة فتح بلاغاً جامعياً ضدي بعد طباعة البطاقات. ظللت متوارياً داخل الجامعة ذاتها لاينغصها شيء سوى حضور المحاضرات) أشير ايضاً الى روح النفير والشهامة التي صنعت التعليم الأهلي والأحفاد وملجأ القرش وتبقى الفائض لإغاثة اهل النبي (ص) في الحجاز وكانوا يعانون شظف العيش والمسغبة.
ولكن من الجهة الاخرى هناك أصعدة تتفاوت للعمل السياسي. عمل انصار السلام لم يكن الشغل الشاغل لذلك الجيل الجليل من الآباء المؤسسين.
لقد بنى الشيوعيون السودانيون الصلات مع قوى وعناصر تقدمية عالمية حتى قبل تأسيس الحزب لعلاقة ثابتة مع منظومة الأحزاب الشيوعية العالمية في عام 1958.
قبل ذلك كان بوسع احمد سليمان بفضل ترتيبات هنري كوريل التردد على مقار اتحاد الشباب العالمي الديمقراطي في براغ. وهيلسنكي في أوائل الخمسينيات وان يحضر مؤتمر برلين عام 54 بصحبة حسن الطاهر زروق ومحمد عبد الله نور.
اثنان من مجلس سيادة سودان اكتوبر هما التجاني الماحي وإبراهيم يوسف سليمان حضرا مؤتمر هيلسنكي للسلاىم ومعهما الشفيع احمد الشيخاما مؤتمر استوكهولم فقد مثل السودان فيه الرشيد نايل واحمد سليمان وعقيل احمد عقيل
مثل تلك الفعاليات تتيح فرصاً للتعارف مع عناصر مرموقة من مختلف بلاد العالم. في مؤتمر برلين مثلاً كان بابلو نيرودا من بين المشاركين.
روى عبد اللطيف الخليفة عن عبده دهب:
“أواخر عام 1944 كان السيد اسماعيل الازهري في القاهرة. ترتب ان يكون هناك لقاء للازهري بصحبة اسماعيل عثمان صالح ومحمد عبد الرحمن الكبيدة وعبده دهب ومحمد امين حسين وعبد الوهاب زين العابدين يصحبهم هنري كوريل بالجنرال ديجول رئيس جهورية فرنسا الحرة .
ديجول في ملابسه المدنية قال لازهري: “نحن الان في المراحل الاخيرة للحرب وسوف نقبل على مؤتمرات اخرى بعد يالتا، متناول فيها قضايا الشعوب الواقعة تحت وطاة الاستعمار، فماذا نقول عن قضية السودان؟
فقال الازهري: مطلبنا هو ان تقوم في السودان حكومة سودانية ديمقراطية حرة، في اتحاد مع مصر، تحت التاج المصري .
عندها قال ديجول: كيف تتفق كلمة “حرة” مع كلمة “تحت التاج المصري”؟
فقال أزهري: المقصود بالتاج المصري هو تفادي تاج اخر تقوم بإعداده حكومة السودان في الوقت الحاضر.
هناك عمل على المستويات كافة .

* * *
اكثر من سبعين عاماً انصرمت منذ ان طفق ذلك الجيل في ارتياد آفاق جديدة تماًماً لشعبنا.
هناك عشرات الألوف دفعوا حياتهم او احلامهم وتركوا ذويهم يتأملون ما الذي عاد اليهم او الى البلد بعد تلك التضحيات.
كتب عبد الخالق في اطار دفاعه امام المحاكم العسكرية الذي نشرته الميدان عام 1954:
‘ان تاريخي واخواني من الطلبة السودانيين ذوي الفكر الشيوعي الماركسي طيلة الفترة التي بقيناها في القاهرة توكد جهادنا وتضحياتنا بكل شيء في سبيل استقلال السودان) . ….. والفضل الاول في هذا يرجع الى منهجنا الماركسي في الحياة وعلى فهمنا لقضية التحرر الوطني على ضوئه. وفي يوم من الايام عندما يزول التضليل والتزييف ويدون المؤرخ المخلص لقضية استقلال السودان بأحرف من نور جهاد الطلبة السودانيين في القاهرة وفي مقدمتهم الطلبة ذوي التفكير الشيوعي سيذكر جميع من شرد منهم من دور العلم لدفاعه عن استقلال السودان”.
ولكن ها هو ذلك الجيل يشهد التضحيات الهائلة التي تكبدتها من بعد الاستقلال لا طلايع التقدم وحدها ولكن مئات الألوف بل الملايين من شعوب بلادنا الذين ظل الأذي يأتيهم في قعر بيوتهم من طائرات بلدهم ومن دانات عسكرها بشقيه.
جيل الآباء المؤسسين ومن بعده جيلنا قد يكون تحلى بنكران للذات يجاور مقتها وقد يكون قد دفع مع شعبه او في طليعته سنوات العمر التي لا تعود والمستقبل الضائع بلا عودة والذي يتوارث ضياعه الأبناء والأحفاد. في ذلك الجيل.وفي جيلنا من قتلوا واقفين وبينهم من يأتيهم القتل دمويا، في قعر دارهم. تلك تضحيات لعل افدحها لا فقد الاحبة وحده وأنما فقد ان يكون لنا ان نحلم.
لقد عانوا وعانينا كثيراً من الغفلة والغشامة بإصرار ولكن بلا دناءة وبلا حب نفس.
اليكم كلام احمد فؤاد نجم
اجمل ختام

“وبكره لما قمركو يطلع
والشمس تطلع فوق كل حاجة
وبكره لما تمركو يطلع
والشمس تطلع فوق كل حاجة

حتقولو كان في دا ناس
فيهم طيابة وفيهم حماس
وفي الحماس بعضشي عباطة
وكانوا اخر الامر ناس
وكان زمانهم سجون وكانوا
ما بين سجونه وامريكانو
ما حد قادر يشوف مكانه
تقولو كانوا وَيَا ما كانوا
(,,,,,,)
وَيَا ما ناس في المسيرة مشيو
وناس في نص المسيرة خانوا
حتقولو كانو ويا ما كانوا
لكن حيبقى في الامر حاجة
ان اللي عربد ما سابش حاجة
وساب كلابو على كل حاجة
تهبش وتنهش في كل حاجة

ما قدرش يقتل في اي حاجة
روح التفاؤل
بكل حاجة

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..