السودان: من سلة غذاء افريقيا إلى ساحة مجاعة

لم نعد قادرين على متابعة ضحايا الجوع في العالم العربي. في سوريا يوجد نحو 16 مليونا بحاجة إلى مساعدات، وفي اليمن 13 مليونا أو أكثر، وفي السودان ارتفع العدد إلى 24 مليونا، وفي غزة يتعرض مليونان وأكثر ليس للمجاعة فحسب، بل الإبادة الجماعية. لبنان يشهد نوعا من الانهيار الاقتصادي، وفي مصر والمغرب نسبة من هم دون خط الفقر بالملايين، فكيف لنا أن نتحمل كل هذا الذل والهوان بينما هناك من يخزن المليارات في بنوك الغرب المتسبب الأول لهذه الجرائم، والناهب الأكبر لثروات هذا الوطن الغني بموارده الطبيعية والبشرية. نهب تلك الثروات كان علنا في دورة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وانتظروا استكمال عملية النهب الأرعن إذا ما عاد ترامب إلى البيت الأبيض.
سأختصر الحديث هنا على ما يجري في السودان، سلة الغذاء الافريقية، الذي كان من المفروض أن يتحول إلى جنة الله على الأرض، لو قدر له قيادات نظيفة مخلصة تعمل على تطوير البلاد وتحصينها من التدخلات الخارجية. كيف لمثل هذا البلد الكبير أن يتحول إلى عالة على المساعدات الخارجية وينزلق ثلاثة أرباع السكان إلى خط الفقر وتتحول المجاعة إلى شبح قد يفتك بالملايين أكثر مما تفتك بهم الحروب.
الوضع الإنساني الخطير
وصل عدد الذين يعانون من الجوع الحاد إلى 26 مليونا، حسب تقارير منظمات الأمم المتحدة الإنسانية. بينما وصل عدد الذين شردوا إلى عشرة ملايين إنسان. ملايين الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد. نظام الرعاية الصحية في حالة انهيار شبه كامل ولا يستطيع ثلثا السكان الذهاب إلى المستشفى أو رؤية طبيب. الخراب منتشر أينما اتجهت حتى في العاصمة الخرطوم، التي كانت قلب السودان النابض، تحولت إلى مدينة أشباح وحواجز وتشرد وموت. المجاعة أقسى ما تكون في منطقة الفاشر عاصمة إقليم دارفور. فقد خلصت لجنة مراجعة المجاعة إلى أن ظروف المجاعة موجودة في مخيم زمزم، بالقرب من الفاشر حيث يموت طفل كل ساعتين بسبب سوء التغذية. كما وجدت اللجنة نفسها أن ظروف المجاعة موجودة أيضا في مخيمات النازحين الأخرى داخل المدينة وما حولها. مضى على الحرب الأهلية أكثر من 18 شهرا أدخلت ملايين المدنيين إلى مستنقع العنف والموت والمعاملة اللاإنسانية. كما أدى الصراع إلى تدمير البنى التحتية الأساسية التي يحتاجها المدنيون للبقاء على قيد الحياة. النساء والفتيات الأكثر عرضة للعنف والتشرد والاغتصاب والانتهاكات الجنسية العديدة.. والمجتمع الدولي أشاح بوجهه عن السودان فمن 2.7 مليار دولار، مجموع النداء الإنساني لتمويل الإغاثة الإنسانية، لم يصل إلا مبلغ 874 مليون دولار، ما يعادل 32% فقط. ونتيجة هذا التعامي عن تفاقم الأحوال المعيشية أصبحت الأزمة الإنسانية في السودان هي الأسوأ في العالم. ورغم أن مجلس الأمن الدولي اعتمد يوم 13 يونيو القرار 2736 الذي يطالب قوات الدعم السريع بعدم مهاجمة الفاشر، وسحب القوات جميعها إلا أن القرار لم يصل إلى مسامع القوات المسلحة من الطرفين.
لقد حاول مبعوث الأمين العام الخاص للسودان رمطان لعمامرة وزير خارجية الجزائر السابق، كسر الجمود في الوضع الإنساني، على الأقل للسماح لمساعدات الإغاثة الإنسانية أن تمر عبر خطوط القتال لتصل للمحتاجين. دعا الطرفين إلى جنيف وعقد نحو 20 جلسة مناقشات مع الوفدين، كل على حدة، خلال الفترة بين 11 و19 يوليو. وقال إن الوفدين تحدثا خلال المناقشات عن مواقفهما بشأن عدد من القضايا الرئيسية في ضوء مسؤولياتهما، بما أتاح تعميق التفاهم المشترك، وأضاف أن المناقشات استكشفت سبل معالجة تلك القضايا للمساهمة في تخفيف معاناة السكان المدنيين، وخرج من الاجتماع متفائلا بعد أن قدمت له التعهدات الشفوية غير المكتوبة، إلا أن الأوضاع تفاقمت أكثر وأصبح البلد كله مهددا بانتشار الفوضى والحروب وتمرد الولايات وتدخل أكثر للقوى الخارجية.
لقد اتهم السفير السوداني في الأمم المتحدة الحارث إدريس، في جلسة علنية لمجلس الأمن الدولي دولة الإمارات العربية بالتدخل في الصراع السوداني من خلال إرسال الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، التي يقودها محمد حمدان دقلو «حميدتي». وقال إن لديه صورا لسبعة جوازات سفر عثر عليها أثناء المواجهات لمستشارين إماراتيين. وطالب السفير المجلس أن يذكر الإمارات بالاسم في مداولاته بدل اللغة الغامضة التي تطالب بعدم التدخل الخارجي في الشأن السوداني. وهناك دلائل أكيدة على نوع من التدخل الإسرائيلي في شؤون السودان للمساهمة في تدمير البلاد كسياسة ثابتة لدى الكيان لإضعاف كل القوى العربية ذات الإمكانيات الكبيرة، لقد أخطأ البرهان خطأ فادحا عندما صدق الوعود الإماراتية، التي جرته إلى لقاء نتنياهو في أوغندا يوم 3 فبراير 2020 قبل اتفاق التطبيع، بتشجيع من الرئيس الأمريكي ترامب. فماذا جنى البرهان من ذلك اللقاء واتفاق التطبيع. لقد تحالف مع قوات الجنجويد التي أعيدت تسميتها إلى قوات الدعم السريع وتعاون مع حميدتي لإقصاء المكون المدني من الثورة، التي جاءت بهما إلى قصر الرئاسة. ثم دب النزاع بين الطرفين العسكريين، فما كان من البرهان إلا أن أصدر مرسوما بحل قوات الدعم السريع، وهو ما واجهه حميدتي بالتمرد الشامل بدعم خارجي، إضافة إلى التدخل الإماراتي الإسرائيلي، هناك معلومات تؤكد وجود قوات الفاغنر الروسية، بالإضافة إلى ألوف المرتزقة الذين تدفقوا من عدة دول للانضمام إلى القتال.
كانت محادثات جدة خطوة على الطريق الصحيح لكنها توقفت، لم يعد عبد الفتاح البرهان يشارك في أي اجتماع يتعامل مع قوات الدعم السريع كطرف مواز للحكومة الشرعية، التي يقول إنه يمثلها، لكن حل النزاع والتراجع عن حافة الهاوية يتطلب مجموعة خطوات سريعة تكررت أصداؤها مرارا في مجلس الأمن وخارجه.
أزمة السودان من صنع الإنسان، يتحمل مسؤوليتها أبناء البلاد أولا، ثم القوى الإقليمية المرتبطة بأجندات العدو الصهيوني، وأخيرا الدول الكبرى التي ترى مصالحها في تفتيت الدول وتناحرها
– يجب وقف الصراع المسلح أولا وقبل كل شي. يجب توقف التدخل الخارجي وتدفق الأسلحة من الخارج ووقف إرسال المرتزقة فورا. ودون هذا الشرط لا فائدة من عرض الخطوات الأخرى.
– تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية وعدم التعرض للقوافل والسماح لمنظمات الإغاثة بالعمل الآمن والسريع لتوزيع المساعدات في جميع أنحاء البلاد.
– على دول الجوار، خاصة مصر والمملكة العربية السعودية وقطر، أن تلعب دورا إيجابيا بعيدا عن مخططات الكيان الصهيوني ووكلائه في المنطقة. لا يجوز أن تبقى هذه الدول على هامش الأحداث، وكأن الأمر لا يعنيها وأي ضرر يلحق بالسودان لن تنجو منه دول المنطقة، خاصة مصر.
– على المجتمع الدولي أن يتحمل المسؤولية الأخلاقية في هذه الأزمة والأزمات المشابهة. فالدول الغربية تصنع الأزمات وتقيم التحالفات وتخلق كل الظروف للاحتقان الداخلي والذي لا يلبث أن ينفجر. لقد تقبل المجتمع الدولي انقلاب العسكر على المكون المدني بعد أن قدم العسكر التطبيع مع الكيان ثمنا للاعتراف، ولكن عندما تقع «الفاس في الراس» يتنصلون من المسؤولية. فبعد سلخ جنوب السودان عن شماله جاء دور الشمال، والعمل جارٍ الآن على تحطيمه وتجزئته وتشريد سكانه ونهب ثرواته، خاصة مناجم الذهب في دارفور.
هذه أزمة من صنع الإنسان، ويتحمل مسؤوليتها أبناء البلاد أولا، ثم القوى الإقليمية المرتبطة بأجندات العدو الصهيوني، وأخيرا الدول الكبرى التي ترى مصالحها في تفتيت الدول وتناحرها كي تستمر الهيمنة الغربية على مقدرات دول الجنوب بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص.
القد العربي : عبد الحميد صيام
كاتب فلسطيني