تلك الموسيقى

د.عوض النقر بابكر محمد
اخيرا وبعد طول ترحال من منفي لأخر وصلت الي ارض معمورة ، تحيط بها الأسوار العالية من كل اتجاه ، ترجلت من دابتي التي نفقت عند ابواب المدينة من شدة التعب ، كانت الأبواب مفتوحة علي مصرعيها ولا أحد هناك من الحراس أو الجند دخلت الي المدينة ذات العمائر الأنيقة والطرقات الواسعة النظيفة ثم تلك المساحات من الخضرة والأشجار والورود . كل ذلك دون أن أري شخصا وأحدا وكأن الحياة هنا قد توقفت منذ ساعات قليلة لا أكثر ، شئ من الخوف تسرب الي نفسي ومع ذلك فقد واصلت المسير نحو قلب المدينة حين سمعت أصواتا عالية ترتفع فجأة ثم يعود الصمت المطبق من جديد . سرت بأتجاه الصوت حتي وصلت إلي تلك الساحة الكبيرة حيث وجدت القوم هناك يقفون صفوفا في زحام ليس له مثيل . شققت طريقي وسط كل تلك الكتل بقوة منكبي العريضيين حتي وصلت إلي قرب منصة كبيرة عالية يتدلي منها بساط أحمر يسير الي أبواب قصر عظيم .
لم أشك لحظة في أنه قصر الحاكم . كان الجنود يحيطون بالمنصة وجوانب البساط حتي أبواب القصر . الشمس والعرق رائحة أجساد وزحام القوم في تلك الساحة رجالا ونساء وأطفالا جعل العديد من الأسئلة تكاد تقفز من بين شفتي لفت أنتباهي عند الجهة اليمني من المنصة شيخ ابيض الشعر واللحية تعلو وجهه سمات الرزانة والوقار ، أقتربت منه أساله عن سر هذا الزحام ، ولماذا يترك الناس المراعي الخضراء الفسيحة وظلال الاشجار الباسقة ليتكدسوا في هذا المكان ؟ هل هو إحتفال بمناسبة ما ؟ ولكن لا شئ يدل علي ذلك فالجميع تضمهم متاهة الصمت العجيب وأبصارهم شاخصة نحو السماء وكأنهم ينتظرون شيئا ما يسقط عليهم من عل .
أشار الي الشيخ أن أقترب أكثر ففعلت تحدث الي في همس شأن من يخشي كسر حدة ذلك الصمت المريب قال لي (أسمع أيها الغريب إن ملك هذه البلاد حين تتقدم به السن أو يعجز عن أدارة دفة الحكم لأي سبب كان ، توصيه لجنة من الشيوخ عندنا بأن يختار خلفا له فنجتمع كلنا في هذا المكان ويقوم الملك بالصعود الي هذه المنصة ثم يطلق طائرا من يده يطوف بهذه الساحة ثم يهبط علي راس من يشاء فننصبه ملكا علينا لا يهم الي اي طبقة ينتمي ، قد يكون غنيا أو فقيرا ، رجلا أو أمرأة وفي بعض الأحيان ربما يقع الاختيار علي طفل والأن أيها الغريب ، قف ساكنا ودعنا نري من سيكون الحاكم الجديد ؟ .
وأرتفع الصياح والهتاف عاليا حين ظهر الملك وهو يسير علي البساط الأحمر يحيط به الجنود من كل إتجاه وبيده ذلك الطائر الذي سوف يقوم بمهمة تنصيب الحاكم الجديد . ألقي الملك خطابا صغيرا شكر فيه أفراد رعيته ثم اعلن عن بدء مراسيم التنصيب الجديد .كان الجميع ينصتون ويهزون رؤوسهم استحسانا فقط أنا وحدي الذي كانت تدور برأسه فكرة أخري غافلت الحراس وقفزت الي المنصة في حركة مفاجئة جعلت الجنود والملك ينظرون الي دون أن يفعلوا شيئا . فقلت أخاطب الجمع قائلا : (أيها الناس ليست هذه هي الطريقة التي يختار بها الشعب حكامه. هذه الطريقة بها العديد من الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها أعداء الأمة والوطن . فمثلا هذا الطائر الذي توكلون إليه هذه المهمة : من أدراكم ان الملك بالأمس قد أفرط في تدليله وجعل ابن أخيه يضع الفواكه والحلوي في منقاره حتي إذا أطلقه اليوم حط علي علي رأس ابن أخيه ؟؟ ثم ان هذا النوع من الطيور يعيش في هذه المنطقة ويعرف شكل الفقير والغني منكم ، فلماذا يحط علي رأس فقير؟ لذلك فهو حكم غير عادل والامر الصحيح هو أن نستبدله بنوع أخر نجلبه من مكان بعيد وهناك ثغرات أخري يصعب حصرها .فمثلا ذلك الرجل صاحب الشعر الكثيف من أين لكم أن تعرفوا بأنه قد دس الكثير من الحبوب التي يحبها هذا الطائر في طيات شعره الطويل؟ وتلك المرأة لا شك بأنها ضمخت شعرها بكل العطور التي يحبها هذا الطائر!! اما ذلك الرجل الذي يقف هناك وهو أحد علماء الحيوان فقد غمر راسه منذ الامس في محلول ابتكره هو يشبه تماما رائحة أنثي هذا الطائر عند موسم اللقاح .اما ذلك الأقرع فهل يمكنكم أن تخمنوا أي حظ له في النجاح؟ من يرضي أن يهبط علي أرض بور ؟؟ نظرت الي الجمع الكبير وبذلك كففت عن الكلام لوهلة فارتفعت الاصوات تطالب بأنزالي من المنصة والبدء في مراسم التنصيب الجديد . أنزلني الحراس في هدوء ثم تقدم الملك وأطلق الطائر في الهواء حبس الناس أنفاسهم والطائر يطوف الساحة باسطا جناحيه والجميع ينظرون الي ظله في الأرض ويحلمون . صديقي الشيخ أبيض الشعر واللحية ينظر الي وهو لا يصدق فإنني قد فعلت ذلك ، كان هو الأخر يتابع بعينيه ظل الطائر الذي يظهر مرة ثم تخفيه الغيوم العابرة مرة أخري . الطفل الصغير الذي تمسك به والدته كان هو الصوت الوحيد الذي أرتفع باكيا من طول فترة الوقوف . الطائر يطوف بالساحة مثل قائد يتفقد كتائب جنده من عل . الانفاس ترتفع وتنخفض بطيئة ثقيلة مع كل حركة من حركات الطائر والاشجار الباسقة علي جانبي الساحة تميل الي داخلها كآذان ضخمة تنتظر سماع اسم الملك الجديد.
ملاحظة اردت نقل الحوار الى جنس اخف ظلا.
امس كتبت تعليق عن قصة قصيرة اسمها النكبة واليوم اشوف هذه القصة التى التزمت بموجهات هذا الفن الجميل القصة القصيرة شكرا على الخيال الممتع والرسالة شديدة التركيز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اخى الدكتور عوض النقر وتمنياتى الطيبة لكم من الله بالصحة والعافية وجميع الأهل…وشكرا على هذه الطريفة وأكيد وراءها حكمة بان العقل لابديل له في الوصول للحقاءق ولكن كثير من الناس انطباعيين…اسلوب سرد جميل… وطيلة فترة اقامتى في السعودية ولقاءي معكم من الاخرى لم انك قاص بهذا الابداع…تحياتى الطيبة لكم من أم درمان….عوض دار الرياض…خيرالله لقب الوالدة
اول مرة اعلق على موضوع فى الراكوبة يا اخى شكرا على العمل الجميل استمتعته بالخيال الغريب
ذكرتنا ايام الفن الجميل ايام الحكى الممتع
كتير من الاعمال الجميلة تمر فى الراكوبة دون ان يلاحظها الا القليل الكل مشغول فى المهاترات التى لا تعطى للعقل فرصة ليستعيد البلد السلام ويتفاهم الناس حتى ولو على الحد الادنى من الاتفاق الله يعين