مقالات وآراء

السودان وديمقراطية السلاح

عصام الدين قطبي الحسن

من قراءة تاريخية بسيطة جدا للفترة منذ إستقلال السودان والي يومنا هذا نجد أن السبب الرئيسي لتخلف السودان سياسيا وفشله التام في إدارة شئونه يرجع بشكل رئيسي الي ضحالة وفساد التجربة الحزبية غير الوطنية إطلاقا والتي تمثلت في أحزاب قبلية عقائدية طائفية أو أحزاب صفوية مستوردة كلها تعمل من أجل الحكم لصالحها فمنها من يعتقد ذلك إرثا مستحقاً والبعض الآخر مُقادين لتنفيذ أجندة خارجية لا يدركون تبعاتها.

لقد بدأ شراء وبيع الطبقة المثقفة السودانية من قبل الطائفية منذ مؤتمر الخريجين ومعسكر ابي روف المعروف حيث يبدأ السياسي حياته مؤمناً ومدافعاً عن الحرية والديمقراطية والعدالة الي أن يصله مندوب مبيعات المعسكر المعادي ليريه بريق السلطة ويرضى مصالحه ورغباته الذاتية ليتحول لمهادن للسلطة القائمة كمرحلة ينتقل بعدها الي مراحل تبني فكرها ومدافعا عنها منغمساً في بريقها وفتنتها.

من المعلوم أن السودان قد مر بثلاث مراحل من نظم الحكم الديمقراطي منذ الاستقلال:
المرحلة الأولى من عام 1953م حتى 1958م. والمرحلة الثانية من عام 1964م حتى 1969م. أما المرحلة الثالثة من عام 1985م حتى 1989م.

ومعلوم إنه هذه الفترات الثلاث إنتهت بإنقلابات عسكرية أعقبها حكومات عسكرية شمولية بحاضنات حزبية مدنية. ونجد أن الشعب في كل هذه المراحل كان قادرا على التغير لاستعادة الديمقراطية بثورات يضحي فيها بالغالي والنفيس ولكنه دائما يفشل في الحفاظ عليها.

الفشل في الحفاظ على الديمقراطية دائما مرده إلى الضعف المؤسسي للأحزاب الصفوية التوريثية أو الأحزاب المستوردة ونجد أن غياب برامج الإجماع الوطني جعل الكثير من النخب ينحازون إلى النظم العسكرية والشمولية وذلك لأنهم يجدوا فيها ما لا يجدوه داخل تلك الأحزاب.

وبينما يُرجع الكثير من الناس فشل التجارب الديمقراطية السابقة في السودان للانقلابات العسكرية التي تنفذ بواسطة الجيش تضليلاً أو تغافلاً أو قصداً فإن المؤكد هو أن النخب السياسية السودانية متمثلة في الأحزاب السياسية بمسمياتها المختلفة سواءا كانت تقليدية ، طائفية او عقائدية او مستوردة منذ الاستقلال هي المسبب الرئيسي لهذه الانقلابات بإستخدام (السلاح) سلاح الجيش السوداني لتصفية حسابات أو حلحلة أو حسم الصراعات السياسية فيما بينها بكافة الطرق غير المشروعة وذلك لفشلها، أو لعدم تمكنها ، أو عدم معرفتها أو عدم رغبتها في ممارسة أو استخدام الوسائل الديمقراطية المشروعة ، وذلك لعدم قدرتها على تحمل متطلبات أو مستلزمات الممارسة الديمقراطية والحرية والتي هي أصلا لا تنسجم مع تركيبة تلك الأحزاب الديكتاتورية ، ولا تلبي رغباتها وتحقق مرادها في الوصول لسدة الحكم والنتيجة دائما تغويض نظم حكم ديمقراطية مهّر سطورها الشعب السوداني بالدماء الطاهرة.

هذه الوسيلة لتغيير الحكم والتي تسمى انقلاباً عسكرياً “ظاهرياً” فإنها في حقيقة الأمر والمعني انقلاباً مدنيا حزبياً بإستخدام سلاح الجيش ، وفي ذلك نجد أن معظم او كل الأحزاب قد عمدت إلي اختراق المؤسسة العسكرية وتجنيد ضباط بالجيش في صفوفها ليتم الاستعانة بهم عند الضرورة.

وهذا النهج بدأ منذ حكومة عبدالله خليل (حزب الأمة)  في 17 نوفمبر 1958 حين طلب من الفريق ابراهيم عبود إستلام السلطة وحل البرلمان والاحزاب السياسية إلي أن تستقر الأحوال ليرجع الجيش لسكانته ويسلم الحكم لحزب الأمة وذلك حينما وصل الي علم حزب الأمة تخطيط الحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب بإسقاط الحكومة بحضور الرئيس جمال عبدالناصر ،  وقد كان بأن نفذ الجيش الجزء الأول من الاتفاق فقط وتحفظ بالجزء الثاني لشئ في نفسه.

وتكرر هذا السيناريو في كل انقلابات الأحزاب المدنية بإختراق المؤسسة العسكرية والتخفي ورائها إستخداماً لسلاح الجيش لاحداث التغيير الذي فشلت في إحداثة بالوسائل الديمقراطية المشروعة ،  فإننا نجد أن كل الانقلابات الناجحة والفاشلة جميعها لأحزاب مدنية ، ونجد أن بعض الأحزاب ذهبت بعيدا الي تدريب قوات مسلحة خارج السودان وغزو السودان للاستيلاء على الحكم. ويتكرر ويحدث هذا النهج الدموي الآن في السودان ولكن هذه المرة فقد أحدث دماراً كبيرا جدا في الأرواح والأموال والأخلاق والقيم بكاملها بحيث لا يمكن أن يعود السودان إلى ما كان عليه قبل الحرب بل سوف يعود سوداناً جديدا بإنساناً جديداً نأمل أن يودع هذه الحقبة الفاسدة والي الأبد.

من بين الاسباب الرئيسية التي أدت إلى استمرارية هذه الحلقة الفاسدة :
أولا: الصراع الهدام بين القوي التقليدية حول المصالح الحزبية والجهوية الضيقة بعيدا عن الممارسة الديمقراطية النذيهة التي تثري وترسخ التجربة
ثانياً : الفشل في معالجة الاذمات الداخلية (كمشكلة الجنوب وغيرها…)
ثالثاً : الفشل في إدارة موارد الدولة والفساد السياسي والاقتصادي الذي يؤدي إلى أذمات اقتصادية ومشاكل اجتماعية
رابعاً : ضعف الحس الوطني بشكل عام قصداً ام جهلاً
خامساً : هشاشة وضعف البنية السياسية للأحزاب وعدم تحملها لمستلزمات العملية الديمقراطية والحريات.
سادساً : البنية التكوينية الحزبية الصفوية لأحزاب طائفية أو عقائدية وفقرها للبرامج الوطنية جعل الكثير من النخب تفضل الحكم العسكري الشمولي.
سابعاً : الجهل المجتمعي العام وبنظم الحكم الديمقراطي والفائدة أو المردود المتوقع منه على حياة الإنسان الاقتصاديةوالأمنية والسياسية قلل عدد المدافعين عنها.
ثامناً : فشل الحكومات الديمقراطية في الايفاء بإلتزاماتها تجاه الشعب لضعفها أو لانشغالها بإستحقاقات الحزب الضيقه.

والنتيجة فشل التجربة الديمقراطية برمتها ، ودائما ما تنسب الأحزاب المدنية هذا الفشل للعسكر تضليلا للشعب عن الحقيقة الماثلة في أنهم هم أنفسهم من قام بالانقلاب العسكري مستخدمين الجيش كأداة ، وكما ذكرنا إن إنقلاب عبود كان لحزب الأمة وإنقلاب نميري ( 25 مايو 1969م) كان للحزب الشيوعي ثم تحول الي الجبهة الإسلامية لاحقا ، وإنقلاب عمر البشير كان للجبهة الإسلامية (30 يونيو 1989م). فإن الأحزاب السياسية السودانية هي المسئول الأول عن إدخال فقه الانقلابات للمؤسسة العسكرية.

في العادة فإن العساكر عند نجاح المحاولة الانقلابية
دائما ما يلتزموا بتنفيذ الجزء الأول فقط من الاتفاق مع الحزب السياسي ، ويتنكروا للجزء الثاني الخاص بتسليم السلطة ، والنتيجة حكم عسكري شمولي مستخدما الحزب السياسي المؤسس والمخطط للانقلاب كحاضنة سياسية.

إنقلاباً عسكرياً مجرداً صرفاً لن يحدث ابدا في السودان لان العسكر وحدهم لا دراية لهم بتصريف أمور الدولة الداخلية والخارجية ، ولا السياسية ، لذا فإن الحليف المدني أو الحاضنة الحزبية ضروري جدا لقيام ونجاح الانقلاب وهو دائما متوفر بكل أسف لمن يدفع أكثر.

ولتصحيح المسار ومعالجة هذه العيوب المتوارثة منذ الاستقلال للتوجه نحو نظام ديمقراطي ناجح يُفصل تفضيلا دقيقا للسودان لابد من البحث في الآتي:
1. البحث والدراسة لتكييف وتصميم نظام ديمقراطي يناسب السودان والانسان السوداني يراعي كل الفوارق والاختلافات وتعقيد المكون السوداني افقيا ورأسيا.

2. الاعتراف بأن الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة الآن ومنذ الاستقلال سواءاً كانت تقليدية طائفية او عقدية او مستوردة قد فشلت تماما في الممارسة والمحافظة على الديمقراطية بتجاربها الثلاث السابقة وعملت على إنتاج الانقلابات العسكرية وسوف تكون السبب في فشل اية تجربة ديمقراطية في المستقبل لنفس الأسباب. لانه مهما أجتهد الناس في وضع منهجية مؤسسية محكمة للممارسة الديمقراطية الصحيحة والنذيهة والعادلة فإنها حتما سوف تفشل في تحقيق المطلوب اذا اُستخدمت هذه المنهجية بواسطة أحزاب لا تعترف بالمؤسسية ولا تمارس الديمقراطية داخلها ، لأن الوسيلة الصحيحة لا تضمن النتيجة الصحيحة اذا اُستخدمت بأدوات فاسدة.

3. العمل علي تكوين ثلاثة الي أربعة أحزاب على الأكثر ، أحزاب قومية بأجندة وبرامج وطنية صرفة تكون نواة للبدء بالتجربة الديمقراطية الجديدة على أسس سليمة.

4. معالجة عنف ديمقراطية السلاح بإيقاف مساعي الاحزاب الدائمة لإختراق المؤسسة العسكرية وإبعادهم عن استخدام قوة السلاح (الجيش) لحل الصراعات الحزبية والسياسية فيما بينها وذلك عن طريق تشريع وتطبيق وسائل منعية من جانب الجيش ومن جانب الشعب بآلية قوية ومؤسسية من الرقابة التي تمنع حدوث ذلك.

5. إزالة الجهل بالتعليم الأساسي والسياسي

6. بما أن من المعروف ان الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة من حيث لا تستقر إحداهما دون الأخرى لكن في السودان يجب التركيز على إدارة موارد الدولة المختلفة بشرية ومادية بكفاءة وفاعلية تؤدي إلى الانتعاش الاقتصادي الذي يؤدي إلى الاستقرار، مع قليل من السياسة الاكتفاء بماهو ضروري فقط .

7. العمل على توجيه الطاقة الكبيرة لدي السودانيين إيجابا نحو البناء والتعمير والبعد عن الأفكار والأفعال السالبة (وهي الغالبة الآن) والتي ترسخ المنافسة غير الشريفة من كره وحسد وهدم الآخر للتخلص منه بدلا عن تطوير وبناء الذات مع ملاحظة الفرق الكبير بين الهدم والبناء ، وهذا الأمر يحتاج إلى تغيير كبير جدا في المفاهيم والقيم السالبة التي ترسخت عبر العهود السابقة.

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..