مقالات وآراء سياسية

السودان .. درب الآلام وأهوال أقلاها الحرب العبثية..

طاهر عمر

النخب السودانية في أغلب محاولاتها اليائسة من أجل خلق مشروع نهضوي لاحقة للأحداث وسائرة كما السائر في نومه لذلك جاءت كل مشاريع نهضتها مشاريع مجهضة لأنها تفتقر لأهم بعدين وهما الفلسفة السياسية والفلسفة الإقتصادية ودورهما في خلق نظرية للتاريخ وفلسفة نقدية للتاريخ وهذا يحتاج لجهد فكري هائل ومراقبة للعالم من حولنا في كيفية فهمه لظاهرة المجتمع البشري وكيف وصل لفكرة مفهوم الدولة الحديثة وكيفية ممارسة السلطة وليست المحاصصة في تقسيم السلطة كما هو حاصل في السودان وما ترتب عن ذلك في القرن الأخير ونتيجته الحرب العبثية الجارية الآن بين جيش الكيزان وصنيعته الدعم السريع.
لتوضيح مسألة أن النخب السودانية لاحقة للأحداث أقصد أنها لم تأخذ زمام المبادرة في إستشراف لمستقبل مفهوم الدولة ومفهوم ممارسة السلطة في المجتمع الحديث وأقصد بزمام المبادرة فهم الفلسفة النقدية للتاريخ وهذا هو دور عباقرة الرجال من فلاسفة وسياسيين وإقتصاديين لهم قدرة على فهم وإدراك كيف تتحول المجتمعات.
مثلا بعد سته عقود من قيام الثورة الصناعية عام 1776م كانت هناك تحولات هائلة أدت الى التفكير في فكرة الضمان الإجتماعي لأن الثورة الصناعية أفرزت نوع جديد من المشاكل الإجتماعية في حالات حوادث العمل أي أن يفقد عامل يده في حادث وفي حالة المرض وفي حالة وصل لسن المعاش وهذا ما أنتبه له توكفيل في كتابه الديمقراطية الأمريكية وكيف إستطاعت أن تحقق أمريكا ديمقراطية عجزت أوروبا أن تبلغ ما حققته أمريكا فيما يتعلق بقيم الجمهورية وهذا ما جعل توكفيل معجب بالديمقراطية الأمريكية.
توكفيل بإعجابه بالديمقراطية الأمريكية لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل كان ينظر للمستقبل البعيد لذلك اهتدى لفكرة الديمقراطية الامريكية وعليه قدم نقد للكاثوليكية الفرنسية والكاثوليك وقال يستحيل أن تصل الكاثوليكية الى مرحلة ترسيخ ديمقراطية في فرنسا لأن توكفيل كان يعرف بأن الديمقراطية الأمريكية لم تكن نظم حكم فحسب بل فلسفة لفكر ليبرالي يقوم على أساس المساواة بين أفراد المجتمع وقد أصبحت بديلا للفكر الديني لذلك كان توكفيل في نقده للكاثوليكية والكاثوليك في فرنسا نقد يرتكز فيه على ما رأه من نجاح للديمقراطية الامريكية في إبعادها للفكر الديني و فصلها بين الدين والدولة نتيجة لتشبع السياسيين الامريكيين بفلسفة جون لوك أب الفكر الليبرالي بشقيه السياسي والإقتصادي وهو فكر غائب من أفق النخب السودانية.
وعليه يصبح الدين شأن فردي ويصير أفق الرجاء للفرد فيما يتعلق بعلاقته بربه أماعلاقة الفرد وصراعه مع مجتمعه فتحكمه معادلة الحرية والعدالة وفي ظل المساواة الراسخة في نظم الحكم الليبرالي متى ما ظهرت إختلالات سياسية وإختناقات إقتصادية ظهرت الشخصيات التاريخية لكي تعيد توازن المجتمع وتوازن الإقتصاد الى نقاط توازنه.
وهنا وجب التوضيح لفلسفة جون لوك فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولة كان يقول لو كان هناك مطلق واحد يجب الايمان به سيكون فكرة فصل الدين عن الدولة لأنه لا يمكن لأي كان أن يتحدث عن التسامح وهو منطلق من خطاب ديني- أي دين وعليه تكون مسألة فصل الدين عن الدولة قاعدة تأسيس لفكرة المساواة بين أفراد المجتمع وهذا هو البعد الغائب عن أفق النخب السودانية وهي عاجزة عن مواجهة التحدي وليس لها أي تصور لكي تنتصر على نفسها وتتخطى تبعيتها للامام في حزب الأمة والختم في حزب محمد عثمان الميرغني وأستاذ الحزب الشيوعي.
والأغرب من كل ذلك إعتقاد النخب السودانية بأنها تستطيع أن تأتي بنظام ديمقراطي بأحزاب الطائفية أي حزب الأمة وحزب الختم وحزب المرشد أي الكيزان وهنا نتذكر بأن توكفيل قبل قرنيين من الزمان قال بأن الكاثوليكية والكاثوليك لا يمكنهم ترسيخ فكرة الديمقراطية بفكرهم الديني وعليه يمكننا أن نقول في هذه النقطة بالذات وهي أن كاثوليك السودان الآن وهم الكيزان وأتباع حزب الأمة وأتباع الختم يفصلهم من حاضر الفكر الحديث قرنيين من الزمان أي أنهم في زمن توكفيل حينما إنتقد الكاثوليكية والكاثوليك ونادى بأن يصبح الفكر الليبرالي بديلا للفكر الديني وعليه نسأل متى تقتنع النخب السودانية بأن الديمقراطية بديلا للفكر الديني؟ ولا يمكن تحقيق الديمقراطية بأي فكر ديني مهما زعم الزاعمون وأن الفكر الديني في ظله لا يمكن تأسيس دولة حديثة ولا تحقيق تنمية ولم تفارق البشرية الجهل والفقر والمرض إلا عندما فارقت وحل الفكر الديني وأيقنت بأن لا ظل يظل ظاهرة المجتمع البشري غير ظلال مجد العقلانية وإبداع العقل البشري ومحاولتهما لإعادة خلق تجربة الإنسانية وفقا لقدرات العقل البشري وبعيدا عن شطحات رجال الدين.
وهذا ما توصل له ولي العهد السعودي في مشروع 2030م وقد أبعد رجال الدين المزعجين من المشهد وقال أن معهم وبهم لا يمكن تحقيق أهداف دولة حديثة ولا يمكن تحقيق تنمية وإزدهار مادي. على العموم وحتى لو فشل مشروع ولي العهد السعودي إلا أنه قد خلق لنفسه موعد مع التاريخ وموعد مع الحضارات وما قاله محمد بن سلمان ولي عهد السعودية عن رجال الدين المزعجين يذكّر بما قاله توكفيل في إبعاده للكاثوليك والكاثوليكية فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني ويكون على مستوى ولي عهد السعودية؟ ويستطيع أن يبعد رجال الدين المزعجيين لأن فكرهم لا يسمح لأفكار الحداثة أن تسود ولا في ظله يمكن تحقيق تنمية وإزدهار مادي.
وهنا وجب أن نرجع لفكرة ألا تكون لاحق للأحداث كما رأينا مسيرة توكفيل لم يكن لاحق لأحداث فرنسا بل فيلسوف ومؤرخ وعالم اجتماع وإقتصادي طرح فكر يفتح لأفاق جديدة في فرنسا وبعد قرنيين من الزمان ما زالت فرنسا توصف بأنها توكفيلية وإختفى طموح الكاثوليك وفكرة تحقيق ديمقراطية عبر فكرهم الطائفي ومثلما إنتصر فكر توكفيل على الكاثوليك بعد عقود ربما يثمر فكر ولي العهد السعودي بجلب أفكار الحداثة وخلق تنمية وتأسيس دولة حديثة ولو بعد عقود من إبعاده لرجال الدين المزعجيين وطبعا ينتظر السعودية إصلاح سياسي يتواكب مع إزدهارها المادي وإدخال أفكار الحداثة بعد إبعاد رجال الدين المزعجين وفكرهم.
مثلما فعل توكفيل وأعلن إعجابه بالديمقراطية في أمريكا ولم يك لاحق لأحداث فرنسا بل كان مستشرف لمستقبلها وهذا ما نريده أن يكون أفق النخب السودانية فيما يتعلق بشوقها للديمقراطية ولهذا لا يتحقق ما لم تنعتق النخب السودانية من تبعية المرشد الكيزاني والامام والختم لأن الديمقراطية هي بديل للفكر الديني الذي لا يحقق مساواة بين أفراد المجتمع على الإطلاق.
وهذا هو سبب فشل النخب السودانية على مدى سبعة عقود أي منذ الإستقلال والى اللحظة لم يخرج السودان من إختلالاته السياسة وإختناقاته الإقتصادية ولن يخرج ما مادام الفكر اللاهوتي مسيطر على عقل المثقف السوداني ويجعله خانعا تابعا للامام والمرشد والختم والإستاذ الشيوعي الذي ما زال غير مدرك بأن الليبرالية التقليدية التي يحاولها ماركس قد أعقبتها ليبرالية حديثة وأن فلسفة التاريخ الحديثة قد وضعت ماركس في الأغلال ولم تعد الماركسية غير ثمرة مرة للفلسفة المثالية الالمانية وقد بلغت منتهاها في الهيغلية والماركسية بفضل أفكار ماكس فيبر في إرتكازه على أفكار النيوكانطية.
ومثلما نجح كانط في جسر الفلسفة المثالية الالمانية والتجريبية الإنجليزية بفضل إضطلاعه على فلسفة ديفيد هيوم وأفكار أدم إسمث في نظرية المشاعر الإخلاقية وقد إستيقظ من سباته الدوغمائي العميق فقد فشل ماركس في أن يجسر البون بين الفلسفة المثالية الالمانية والتجريبية الإنجليزية عندما فشل في مقاربة نظرية القيمة لديفيد ريكاردو فمتى يستيقظ المثقف التقليدي السوداني من ثباته الدوغمائي العميق؟
وعليه مثلما لم يك توكفيل لاحق لأحداث فرنسا بل مستشرف لمستقبلها كذلك قبل قرن أي منذ عام 1930 لم يكن ريموند أرون لاحق لأحداث فرنسا وهي تحت سيطرة الفكر الماركسي وبالتالي كما أعجب توكفيل بالديمقراطية الأمريكية كذلك ريموند أرون أعجب بفلسفة ماكس فيبر وهي مرتكزة على أفكار النيوكانطية حيث لم يعد فيها للميتافيزيقيا أن تصبح حقول فلسفة وبالتالي تحدث ماكس فيبر بأن الدين كان سحر للعالم وقد زال ولم يعد يلعب أي دور بنيوي لا في السياسة ولا في الإقتصاد ولا في الإجتماع وبالتالي لم تعد الفلسفة المثالية الألمانية مفيدة في تقديم ثمرتي الهيغلية والماركسية وليس ذلك فحسب بل أن الفلسفة المثالية منذ إفلاطون ومرورا بالفكر المدرسي المسيحي والى المثالية الالمانية لم تعد ذات جدوى.
وبعدها يصبح الإنسان محكوم بأن يعيد خلق عالمه وفقا لقدرة عقله البشري و أن مسيرته تراجيدية ومأساوية بلا قصد ولا معنى ولا يعالجها غير القرار والإختيار وكيفية إدراك الشرط الإنساني وهنا تكمن أهمية السياسي والإقتصادي في تجسيد فكرة الشرط الإنساني ومن قبل قرن من الزمن لمع نجم السياسي في قدرته على إختيار الشرط الإنساني وأفل نجم المؤرخ التقليدي وكذلك لمع نجم الإقتصادي في إمكانية تجسيد الشرط الإنساني عبر النظريات الإقتصادية وأفل نجم القانوني. ولهذا نجد اليوم أن القانوني السوداني والمؤرخ التقليدي السوداني أضعف حلقتين في سلسلة النخب السودانية الفاشلة.
وحتى يكتمل نصاب الديمقراطية في السودان لكي تكون بديلة للفكر الديني ستمر على مسرح الأحداث في السودان أهوال أقلاها الحرب العبثية التي تدور الآن بين جيش الكيزان وصنيعته الدعم السريع وسيحترق بنيران الأهوال التي ستمر كل واهم بنصر لجيش الكيزان أو واهم بأن صنيعة الكيزان الدعم السريع كأداة موت ستكون يوما نصيرة لمسيرة الحرية. فاقد الشئ لا يعطيه لأن أتباع الدعم السريع نتاج ثقافة الأسرة الجذعية التي لا تنتج غير نظام سلطة الأب وميراث التسلط أما جيش الكيزان تحت قيادة العدميين تربية الكيزان أعداء الإشراق والوضوح وبالتالي لن ينتصروا للحياة أبدا .

 

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..