مقالات وآراء

روائح الدماء من بيوتنا تفوح : الجيران الجدد

د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد

كان والدي الشيخ الذاكر ، غشت قبره سحائب الرحمة يقول لي أثناء مرضي … يا ولدي إن في المرض فسحة لكى يتأمل المريض في نعمة الصحة وفضل المنعم بها. وقد وجدت هذا الأمر واقعا بعد قضائي فترة في مستشفى المدينة هنا حيث كانت الممرضات يتنباوبن حولي كفراشات حنونة يبحثن عن عرق بائن لادخال ابرة نقل الدم عبر تلك الأداة التي يسميها السودانيون فراشة. الممرضات كن يجدن صعوبة في ايجاد ذلك العرق باليد مما كان يعرضني لوخز كثير من قبل تلك الأيادي الناعمة. كن يتفحصن يديي كما يفعل جيولوجي قدير يتفحص نثارا صخريا سقط من نيزك بعيد. ذاك يوم قضيته في تأمل تلك الأشجار العالية التي تحف بالمكان وذلك الكادر البشري الحنون الذي يتقاطر على خدمة غرفتي ومن بينهم كهنة وصيادلة وقسس وأطباء تغذية الخ مما يضم القاموس الطبي حسب الثقافة العلاجية لذلك المشفى المتميز في مدينة مونتري . لقد كانت تلك فرصة لتسلل الكثير من المشاعر تتقاطر بجنون هناك على وتتقافز كحملان ربيعية على في ساحة أفكار سريعةكانت تفرض نفسها جيئة وذهابا خلال أيام اقامتي الأربعة في المشفى راجعا الى داري بحمد كثير لله فهو الذي يشفي ويطعم ويسقي . لا أعرف لماذا سقت هذه المقدمة … ربما لأنها كانت ساحة للتأمل أيضا في حال الوطن الغالي الذي كنت قد رجعت اليه بعد غربة طويلة فخرج هو مني محزونا جريحا وأعدني مرة أخرى لمهمة غربة جديدة ، لا يعرف إلا الخالق متى تنتهي.
قال صديق زائر أن الكثير من الأسر التي عادت الى بيوتها ، وجدت فئة جديدة من الجيران . غرباء من ناحية تعاملهم وربما جنسياتهم ، المهم أنهم غرباء. وقد أضاف ذلك الصديق الزائر ، أن الكثير من البيوت تم تغيير ملكياتها بعد السطو على أوراقها بعد أن هجرها سكانها كما حدث لشابة توفيت والدتها الطبيبة المشهورة فتركت منزلها المسجل باسمها لتسقط أوراقه الثبوتية ويسقط هو في قبضة الخوارج . وهناك كما يقول صديقي الذي حضر مثلنا جانبا مروعا من تلك الحرب اللعينة داخل الوطن ، أن العديد من الأوراق الثبوتية صودر من مكاتب عدلية أو مكاتب محاماة ظنا من أؤلئك الجهلة أن ليل الظلم طويل وأن الحكم العدل غافل عما يفعلون ..
فكرت في القيم الاجتماعية للجار والجيران في بلادنا عندما كنا في حلقة دردشة ضمت عدة أحباب ممن تخللوا خطوط الطول والعرض في هذا العالم بعد أن ضاق بهم الوطن بما رحب وفاحت من بيوته رائحة الدم . تلك بيوت قال عنها ذات يوم الشاعر محمد المكي ابراهيم :
روائح الطعام من بيوتنا تفوح
وفي بلادنا نعطر الهواء بالمديح
قيم الجوار في وطننا ظلت عبر الدهور قواعد صلبة لشد البناء الاجتماعي وتشييد وغرس ثقافة التماسك والتعاون في كل زمان كما نراها الآن في ظل ما تعيشه بلادنا الآن من جروح يسدها الناس بقيم الجيرة والتكافل. ذاك سلوك لم نر واقعا مثله في المجتمعات الأخرى لأنه سلوك يشرب من بحر الدين الذي أوصانا بشأنه سيد الأنبياء والمرسلين “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”. في مجتمعنا ، تتفوق قيم الجوار على صراعات الهوية والانتماء وصراع الطبقات فتمضي سلسلة غير عابئة بتضاريس مثل تلك الأسئلة الصعبة. هنا تتخذ الجيرة معنى اجتماعيا وثقافيا رائعا ، لو كون منه ميثاق حب وتعاون لحكم البلاد ، لكان الأروع في حكم البلاد ان لم تكن فكرتي هذه يوتيوبيا عاشق للوطن نبعت من بين رائحة الدواء ووجوه الممرضات في ذلك المستشفى وهن يسرعن لتوديعي كسرب من طيور الكناري!! .
بوصيكم عل ضيف الهجوع عشوا
وبوصيكم على الجار ان وقع شيلوا
تصلح هذه الأبيات في تقديري لحملة انتخابية لحزب ينشؤه قادة الوطن المستقبلي الذي ننشده بحيث تظل قيمة الجوار متصاعدة عبر الاحياء والمدن لتبلغ اعلى سنام لها في العلاقة مع دول الجوار . أحد ظرفاء المدينة تحدث عن قيمة الجار في وطننا بحماس مشيرا الى أنه حتى الحمير في قرانا البعيدة تتضامن كحمير جيران في حالات “النوريق” الذي يعني حصد الفول أو القمح تحت حوافر تلك الحمر الجارة . هناك ترى الحمر تدور في حلقات حيث يهيل المزارع تحت أظلافها الطاحنة من حين لآخر ربطة ثم ربطة أما قمحا أو فولا. وتمضي الحمير في طحنها الرهيب ممتثلة لما يسميه علماء الإدارة بوحدة الهدف unity of objective أو ما يسميه عالم الإدارة الادارة بالأهداف Management by objectives
قد يحس الانسان بأن مدينة بأكملها جارة له كما في قصيدة جارة الوادي التي نظمها بعاطفة مشبوبة الشاعر الراحل أحمد شوقي لمدينة زحلة اللبنانية وتلك أغنية نالت حظها من الذيوع خاصة بعد أن أداها محمد عبدالوهاب وأم كلثوم
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأأحلام من ذكراك
وفي وطننا ، وقف ذات يوم الشاعر الفذ محمد سعيد العباسي متغنيا بمدينة مليط :
حياك مليط صوب العارض الغادي
وجاد واديك بالجنات من وادي
ولم نكد ننتهي من تدبر تلك الجيرة الحضرية عند شوقي والعباسي , وجمالياتها الا وأسعفنا مدرسونا بنموذج أخر للعباسي ومليط ونخلها الذي يشرب من ذيل السحاب بلا كد واجهاد :
كأنه ورمال حوله ارتفعت
أعلام جيش بناها فوق أطواد
ثم أن واضع المناهج الملهم في بخت الرضا سابقا يعود بنا الى حالة جوار اخرى بين شاعر ربما كان الناصر قريب الله والمدينة هي مدينة كتم التي لم تكتم حسنها عن الشاعر ولكنها أطلت بمحياها رائعة وجميلة.
حين طلت بمحياها كتم….
ودونكم يا أحبتي كسلا التي أغوت شعراء كثر كشاعر الدهليز توفيق صالح جبريل :
يا ابنة القاشِ إن سرى الطيف
وهنا واعتلى هائما فكيف لحاقي
والمنى بين خصرها ويديها
والسنا في ابتسامها البراق
جيرة المدن في وطننا لا حصر لها في قواميسنا الفنية والأدبية ، والتمدد فيها ربما يجرفنا عن فكرة الجيران الجدد التي تصدر عنوانه مقالنا هذا والتى أراها وبالا استيطانيا على قيم الجوار والجيرة والحي والمدينة على النحو الذي أسلفت . إن للجيرة عدة فئات من منظور فني وربما أجتماعي فيما أرى أو على الأقل ما أستطعت تخيله وتلك فئات قادتني اليها كأمثلة لا للحصر شطحات ذهنية فاجأتني في ذلك المشفى وبعده.
فهناك الى جانب جوار المدن الجار العاشق المليء بالأمل ، رأيناه لدى الراحلين الشاعر أبو آمنة حامد وسيد خليفة:
جاري وأنا جارو
لي متين أزور دارو
بتمنالو الجنة واتعذب في نارو
أقرب زول لي قلبي
ضيعني بسمارو
جاري وأنا جارو
ومن ذلك أيضا في هذه الفئة
مالك ﻣﺠﺎﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﺎﻳﺶ ﺑﺮﺍﻙ ﻓﻲ ﻏﺮﺑﻪ ؟!
ﺃﻧﺤﻨﺎ ﻧﺎﺱ ﺟﻴﺮﺍﻧﻚ ﻗﻀﻴﻨﺎ ﻋُﺸﺮﻩ ﻭﺻﺤﺒﻪ
ﻣﻦ ﻳﻮﻡ ﺳﻜﻨﺖ ﻗﺼﺎﺩﻧﺎ ﻣﺎﻟﻚ ﺑﻌﻴﺪ ﻣﺎ ﺑﻴﻨﺎ
ﻻ ﺑﺘﺮﻋﻰ ﺣﻖ ﺍﻟﺠﺎﺭ ﻻ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺑﺠﻴﺒﻚ ﻟﻴﻨﺎ
والجوار هنا مصون ونقي . أنه جوار مد القدح بالطاقة أو الشباك الصغير المفتوح بين منزلين متجاورين في القرية أو الحى وتبادل الوجبات او الترافق الى رفع “فاتحة” بعيدة أو الدخول في صندوق توفير ـ أو تناول الجبنة في “الضل”. وهناك في نطاق العشق الجار المغاضب اليائس:
فارق لا تلم
أنا أهوى الألم
ما أول حبيب
ولا آخر ظلم
وهنالك الجار العشق الحذر :
أحلى جارة
يا أحلى جارة
سالمينا لو بالعين
أو بالإشارة
تذكرني هذه الميلودية المشبعة بالحب والحذر بتلك القصيدة العربية الأموية “أراك طروبا والها كالمتيم” المنسوبة للخليفة الأموي يزيد بن معاوية بن سفيان :
أشارت برمش العين خيفة أهلها
إشارة محسود ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قال مرحبا
وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
و هذه تؤدى بعود عربي جميل المقاطع من فنان يمني ربما رحل عن عالمنا هو الفنان محمد مرشد ناجي. وربما قفز الى الذاكرة نوعآخر من الجيران هو الجار المتذكر كما في قصيدة البوصيري في العصر المملوكي :
أمِنْ تذَكُّرِ جيرانٍ بذي سلمِ
مزجتَ دمعاً جرى من مقلةٍ بدمِ
أمْ هبَّتِ الريحُ من تلقاءِ كاظمةٍ
وأوْمَضَ البَرْقُ في الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
وهناك في تقديري الجار الصديق للبيئة ومثالي هنا شجرة تبلدية مرت علينا ولله الحمد في منهج النميري الذي جاء في سلمه التعليمي . التبلدية كانت في منزل الشاعر الراحل جعفر محمد عثمان بالدلنج فانتقل منه ليعود منه بعد فترة طويلة ليجدها وقد يبست وتعرت فروعها بالأسى والجفاف :
لا تَحْزَني إنْ تعَرَّتْ
لدى المصيفِ فُروعُكْ
أو إنْ يبسْتِ فبانتْ
مِنْ الذُبولِ ضُلوعُكْ
فدونَ ما رَاع قَلْبي
مِنْ الأسَى ما يروعُكْ
أنا لَنْ يَعودَ ربيعي
لَكِنْ يَعودُ ربيعُكْ.
إلى هنا يتوقف سيل محاولاتي لتصنيف الجيرة ، فأرجع الى من عادوا لبيوتهم ليجدوا جيرة دموية لا تعرف تلك القيم ولا تتقيد بها. وأبصر في الميديا عروس مذهبة في بيت مغتصب محتل وهي “تتفدع” كشجرة زقوم إن كانت شجرة الزقوم لها احساس بمرور النسم حولها “فتتفدع”  ولئن كان شاعرنا ود المكي لا زال حالما ببيوت تفوح منها روائح الطعام ، فإن بلادنا الآن لا تملك من أمرها سوى صدى الذكرى … أحلى جارة يا أحلى جارة … وجاري وأنا جارو. صاحب البيت الآن جار مغاضب لا يملك الا وأن يقول للجار الغازي :
فارق لا تلم!! .

 

[email protected]

‫4 تعليقات

  1. يازول الكلآم البتقول فيهو دا مافي زول زور اوراق بيت زول هنالك بيوت سكنت من قبل الدعامة في شرق النيل وعندما رجع إليها أصحابها ليتفقدوها اخبروهم الدعامة بأننا نسكن فيها مؤقتا ولكن مافي حاجة اسمها حقتنا، وكذلك عساكر الجيش في بانت بأم درمان ساكنين في بيوت المواطنين ودى حقيقة معاناه كل المليشيتين مليشيا الجنجويد ومليشا الكيزان المدعوة زورا بالجيش السوداني كلهم زبالة.

    1. يا اللخو الكردفاني… أرجع لحديت مسيلمة الكذاب يوسف عزت ( الجاهلي ) حين سأله مذيع قناة الجزيرة..لماذا رافضين الخروج من منازل المواطنين فكان رد ( الجاهلي ) لن نخرج و الخرطوم دي حقت ابو منو..و في تغريدة للجاهلي قال غالبية الشعب السوداني يعيشون في العراء و ليس لهم منازل و واصل في التغريدة و قال نتمني ان يعيش السودانيين في أمن و سلام و أن يعود المواطنين الي منازلهم
      ( إن وجدت ) نوايا واضحة لكل صاحب بصر و بصيرة و إن الحرب ضد الشعب السوداني و الوطن و حرب من اجل التغيير الديموغرافي بطرد السكان الأصليين ليحل محلهم عربان الشتات الافريقي…

  2. دعامه تشاديين وقاذورات وصراصير وجرذان مجاري من غرب أفريقيا ومراحيض الضعين وبابنوسه والمجلد دأبهم النهب والقتل وإراقة الدم والدمار والإغتصاب وحرق البنية التحتية للبلاد ، وكلهم بلا إستثناء من دقلو وزقلو وبقية السخام ، كلهم زبالة وفطريات زبالة وأوساخ وقرود مسلحة. يقطرون حقدآ وكراهية ويكرهون المكون الشمالي لأن الشماليين بشر بينما هم قرود سعادين ، ويتحدثون علنآ بأنهم يريدون حرق الخرطوم ، القرد السعدان التِقِل بكري يعقوب ينادي في الفيديوهات بحرق عمارات الخرطوم. حقد ، حقد ، حقد ، وكراهية ودمار والإستيلاء على حقوق الأخرين هذا كل ماعندهم . أحد الأخوان وجد إعلان إسفيري لليع قطعة الأرض التي يملكها هو وورثة والده في الخرطوم ، فما كان منه إلا أن نشر إعلانات إسفيرية تثبت ملكيته لهذه الأرض وعدم رغبته في بيعها وأنه سوف ينافح عن حقه بالقانون. هؤلاء القرود الطائشة الداشرة المسلحة ماهم إلا لصوص وقطاع طرق وقتلة ومغتصبين هدفهم السرقة والدمار والحرق والإستيلاء على حقوق الآخرين ، كلهم لصوص وجرذان صرف صحي من دقلو وزقلو وعفنو إلى أصغر سخام فيهم وبيننا وبينهم الشحناء والبغضاء والنار إلى يوم الدين والرهيفة التنقد.

    1. إن شاء الله النصر للحق ( القوات المسلحة السودانية ) و من خلفها الشعب السوداني و هؤلاء الأوباش المرتزقة إن شاء الله لن ينتصروا و كل من وقف بجانبهم و دعمهم و لو بكلمة لا مكان لهم في السودان و سوف يعيشون و يموتون متسولين علي موائد اسيادهم الخنازير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..