مقالات وآراء

العنصرية عتمة عابرة !!!! بينما الوطن شمس لا تغيب ، تنشر دفء النور على كل القلوب

د. الهادي عبدالله أبوضفائر
العنصرية ، ذلك العيب الجسيم ، كوحش خفي يتسلل في ظلمة الليل بلا رحمة ولا هوادة ، ينفذ إلى القلوب والعقول كالسُم الزاحف في العروق.
 انها لا تأتي بغتة ، بل تسير بخطواتها الوئيدة ، تحمل قناع الخوف والجهل ، تُفرّق وتفكك الروابط التي نسجتها الأيام والسنين إنها وصمة عار تشوه ملامح الإنسانية النبيلة وتدوس بأقدامها القاسية على مبادئ العدالة ، تاركةً في القلوب جرحاً  لا يندمل. تلتهم ببطء كل ما هو جميل ونقي ، مثل النار تحت الرماد ، لا تراها العين ، لكنها تلتهم في صمت ما تبقى من دفء الإنسانية ، وتترك خلفها أرضاً جرداء من المحبة والعدل..
تخنق العنصرية روح المجتمع وتتركه خاوياً من الألفة ، مستسلماً للفرقة والضياع ، ان المجتمعات التي تحمل في أعماقها بذور العنصرية ، لا تنتظر سوى لحظة بث سمومها بهدوء ماكر ، فتفكك الأسر ، وتقطع خيوط الترابط ، حتى تهوي في مستنقع الانقسام والفرقة بين أبنائه. فهي ليست مجرد عيب فقط ، بل شر ينمو ويكبر ليطغى على كل القيم ، يضع الحواجز بين الناس ، ويمحو أي شعور بالانتماء أو الوحدة.
كلما انتصرت العنصرية ، يخسر الوطن جزءاً من روحه ، ويتراجع خطوة أخرى بعيداً عن الازدهار والتقدم. وتظل المجتمعات محاصرة في دائرة مفرغة من الكراهية والانقسام .
من أعماق الغاية التي توحدنا تحت مظلة وطن يحمل اسم السودان ، ينبعث وهم قديم ، كسراب يتشكل في أفق العقول ، يوهمنا بأن اختلافاتنا تفصل بيننا . إنه وهم يشوش الرؤية ،  تحت ستار كثيف من الظنون والمخاوف ، يُخبرنا أن من يشاركنا اللغة واللون ، مهما ابتعدت به المسافات ، فهو الأقرب إلى أرواحنا. لكن بعد الدموع والدماء والغوص في سرداب الانتماءات أدركنا أن القرب ليس في اللغة واللون ، بل في نبضات القلوب التي تتشارك الجغرافيا والتاريخ ، في العيون التي ترى نفس الغروب والشروق ، ويشتمّ ذات الهواء ، ويشاركنا الوطن ويمارس نفس الطقوس والعادات ، هو أقرب إلينا من أي عنصر يتراءى لنا من بعيد عبر الصحراء. وكذلك من يبحث في قلب أفريقيا ، ويهتف باسمها ، يكتشف نفس الشعور ، فالشخص الذي يعيش في أدغال أفريقيا ، بنبضاته البطيئة وصوته الجهور ، لن يكن أقرب لك من جارك في الحي. هكذا هي الحقيقة العميقة ، الوطن لا ينحصر في انتماء العرق واللون ، إنما خيوط غير مرئية ، تُنسج من الماضي المشترك والحاضر المعاش ، متجاوزاً كل التصنيفات الموروثة ، وتربط المواطن بأعمق مما يمكن أن تبلغه كلمات اللغة أو حدود الخرائط ولون الدماء.
 بين كثبان الرمال وتحت ظلال الأشجار ، ألتقى مجموعة  من الشباب ، كانت حياتهم سلسلة من المظالم ، عيونهم أنهكها النظر إلى أرض لم تنبت إلا الصبار ، أجسادهم تعبت من حمل أعباء لا تنتهي. قرروا أن يهربوا ، لكن ليس من الخوف ، بل من الظلم والتهميش . تركوا وراءهم إلافكار الضيقة ، وتحيزاتهم العمياء ، حملوا أمانيهم نحو وطن يسع الجميع ، لكنهم لم يجدوا لهم مكانا فيه. كانت ثورتهم من اجل الخروج من الواقع المأزوم ، تعثروا في البداية ، لكن سرعان ما تعلموا أن الخطوات المتعثرة هي البداية الحقيقية للسير نحو الأفق. وكانوا يعلمون أن بناء وطن ليس بالأمر السهل ، بل يحتاج إلى تضحية ، كان بينهم الشهيد عبدالله ابكر ، والشهيد د. خليل إبراهيم وُلِدوا ونموا  في قرى لم تعرف الدولة الحديثة ولم يروا يوما إلا الجدران التي تفصل الناس على أساس العرق والدين واللون والدم . ولكنهم كانوا يمتلكون فكراً مختلفاً وايماناً صادقا بأن العالم يمكن أن يكون أفضل ، وأن الإنسانية لا تعرف لوناً أو عرقاً ، بل تعرف لغة الحب.
 في إحدى الليالي المقمرة ، وبينما كانوا يفترشون الأرض ، وقف أمامهم وقال : إننا نعيش اليوم بين حدود لم نخترها ، وفي واقع لم نصنعه ، لكننا نملك القوة لتغيير كل ذلك. لن نبني وطننا على ظلم الآخرين بل سنبنيه لأنفسنا ، ليكون لنا ولأبنائنا من بعدنا. هزَّ الشباب رؤوسهم موافقين ، وكانوا يعرفون أن كلامه ليس مجرد كلمات ، بل عهد وميثاق بينهم ، ميثاق يقول : “نحن نترك كل مظالم الماضي وراءنا ، لا نحمل في قلوبنا إلا النور ، ونستغني عن كل الأفكار الضيقة لنفتح عقولا على سعة الإنسانية . وقلوبا تنبض بالإيمان بفكرة الوطن الواحد . لم يسألوا عن الأصول أو الديانات ، بل كانوا يرون في كل فرد منهم قطعة من الحلم المشترك . في لحظة من الصمت العميق ، وقف جندي صغير قائلاً تركنا كل شيء ، لأننا نريد أن نعيش في وطن يستحقنا . وطن لا يُقاس بالمال أو القوة أو اللون أو العرق ، بل بالكرامة والمساواة.
هؤلاء هم شباب السودان (المشتركة ، المقاومة الشعبية والمستنفرين) بدأت ملامحهم تنبض بالحياة . اتسع صدر قواتهم المسلحة ليحتضنهم ويبشِّر بنصر قريب.
لم يكن بينهم من يسأل : من انت؟
تركوا كل المظالم ، استرخصوا الغالي والنفيس ، ولم يعد في قلوبهم سوى الرغبة في بناء وطن يحتضن الجميع ، بدأوا في كتابة فصل جديد عن الوحدة والمساواة ، ترك الجميع ماضيهم خلفهم ، همهم بناء حلمهم وأملهم ، وطن يستحق أن يُصان ويُحافَظ عليه. رغم العواصف العاتية والتحديات الجسام ، يبقى الوطن شامخاً ، لا تهزه الرياح ولا تزعزعه الأنواء. علمتنا التجارب في ظل الحرب ، حين تعصف النيران وتهتز الأرض تحت الأقدام ، تظهر الحقائق جلية ، ويدرك الجميع أن العدو لا يسأل عن عرق أو لون أو جهة. حينها يقف الناس جنباً إلى جنب ، يقاتلون بروح واحدة ، متجاوزين كل الفروق والاختلافات. عندما تختلط دماء الجنود في ساحات القتال ، تُمحى الحدود والأعراق ، وتختفي الفوارق بين الوجوه ، فقط يبقى شعور عميق بالانتماء إلى وطن ضاع في لحظة ، كما يذبل الورد في غفلة الندى ، ضاع من أيدينا ، تاركاً في القلب حزناً عميقة لكن حتما ستعود ونعود ، ومؤمنين بأن فصول الوطن تتجدد ، وأن ربيعنا سيزهر مرة أخرى مهما طال الانتظار.
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..