اربعة عقود على ظهور أفكار جون قرنق ومنتهاها في حرب الكل ضد الكل

طاهر عمر
جون قرنق بفكرة السودان الجديد ألهم مثقفي جبال النوبة والنيل الأزرق بالإنضمام الى ركب مسيرة السودان الجديد بعد قيام الحرب الثانية في جنوب السودان بعد نهاية إتفاقية أديس أبابا عام 1972م وكان يحلم بأن تنضم دار فور الى ركب الثورة ومن المفارقات العجيبة إشتعلت دار فور في لحظة كان جون قرنق يلملم أطراف إتفاقية نيفاشا ولسؤ حظ السودانيين كانت إتفاقية نيفاشا بين جون قرنق وأسواء فصيل سياسي ممثل للإسلام السياسي في السودان وقد رمز لفشل النخب السودانية العاجزة عن التضحية بهويتها الدينية.
عجز النخب السودانية تجسد في هيمنة الحركة الإسلامية السودانية كتتويج لحوار الطرشان من نخب أضاعت عقود في طرح سؤال الهويات القاتلة كما يقول امين معلوف ونتج عنه مدارس لا تسمن ولا تغني من جوع وأقصد الغابة والصحراء وأبادماك والعودة الى سنار وهي مدارس توابع تدور حول كواكب أفكار أحزاب الطائفية ولم تنتج سياسي ناضج يفارق فكر المرشد الكيزاني ويعاف فكر امام الأنصار ويهرب من فكر الختم ويتجاوز بالتفكير النقدي فكر الأستاذ الشيوعي كايديولوجي محنط إذا إنتبهوا الى تطور الفكر في العالم الحديث من حولنا.
المضحك المبكي أن أرنولد توينبي عام 1947م ذكر أن قيام سودان موحد وقوي وحديث يقع على عاتق المثقف الشمالي مع أنه نبه الى أن السودان تقوده قوتين متضادتين قوة حديثة وقوة تقليدية متخلفة لا تريد أن تفارق وحل الفكر الديني وقيام السودان الحديث يكمن في أن تنتصر القوة الحديثة على القوة التقليدية حتى تستطيع أن تضع السودان في سكة السير نحو سير العالم الحديث بإتجاه الحرية والإزدهار المادي.
في العام الذي تحدث فيه أرنولد توينبي عن قيام سودان موحد وقوي وحديث كان عام إستقلال الهند ولك أن تقارن بين النخب في الهند وبين النخب السودانية ها هي الهند تمثل أكبر ديمقراطية في العالم وتغزو الفضاء وتنظر الى الواقع المعاصر بعين الإنسان المعاصر وإدراك الفرد في عالمنا الحديث لمعنى معادلة الحرية والعدالة.
النخب في الهند وإستقلالها كان بعد الحرب العالمية الثانية بعامين قد أدركت بأن هناك فلسفة حديثة للتاريخ ومعنى الإنسانية التاريخي والمؤسف أن السودان قد نال إستقلاله بعد عقد كامل من الزمن بعد الهند ولم تدرك نخبه أي السودان معنى فلسفة التاريخ الحديثة كما أدركتها نخب الهند ولم تستحي الهند من أن تستلف من أفكار الغرب ما يدفعها ويجعلها تنطلق لكي تلحق بركب الإنسانية في تقدمها وإزدهارها المادي.
أظن سبب تأخر السودان هو بسبب عجز النخب السودانية عن أن تفرز نخب متقدمة في فهمها لفلسفة التاريخ الحديثة كما فهمه نهر ومثلا في الهند وهذا ما يقصده توينبي في نصحه للنخب السودانية بأن تنتصر القوى الحديثة فيها على النخب التقليدية وهيهات.
عجز النخب السودانية عجز بنيوي كان في صميم نخبها منذ أن نالت تعليم حديث أيام الإستعمار إلا أنه لم يفرز نخب قادرة على التفكير النقدي مثلا أتباع مؤتمر الخريجيين في ثلاثينيات من القرن المنصرم لم يدركوا أن عالم أوروبا في خيانتها للتنوير ونتج عنه الإستعمار في طريقه للزوال وأن النخب الأوروبية كانت تراقب عالم يتخلق ليولد من جديد وللأسف أتباع مؤتمر الخريجيين في السودان كانت كل أدبياتهم تعالج صور عالم قديم في طريقه الى الزوال ولم ترى ظلال العالم الجديد تتراقص في الأفق وهي تتطلب منهم جهود فكرية في إنتظارها لعالم يتخلق ليولد من جديد.
نفس زاوية عجز أتباع مؤتمر الخريجيين في زمانهم إن لم نقول قد أصبحت زاوية منفرجة في نخب الحاضر في عجزهم على مواجهة التحدي الراهن في السودان المتمثل في إنفجاره في حرب عبثية بين جيش كيزاني وصنيعته الدعم السريع وأقصد عقل الحيرة والإستحالة عند أتباع مؤتمر الخريجيين في التأسيس لوطن يقوم على أساس العيش المشترك وتصبح فيه الديمقراطية وأدب الفكر الليبرالي قد أصبح بديلا للفكر الديني نجد نفس العجز الموروث قد تجسد في نخب الحاضر السوداني البائس وحيرة النخب في عدم القدرة على مجابهة التحدي والتغلب عليه وهو مسألة التحول الديمقراطي وهو يتطلب قفزة في الفكر تتجاوز الهاوية التي وقع فيها أتباع المرشد الكيزاني وأتباع الامام الانصاري وأتباع الختم وأتباع الشيوعي السوداني المحنط.
ما أود قوله أننا على بعد قرن كامل من حاضر الإنسانية المعاصرة وأقصد أنه في عام 1929م قد أدركت أوروبا أنها قد دخلت على أعتاب أزمة العلوم الأوربية ولكن لم يسيطر على عقول نخبها الحيرة والإستحالة كما هو سائد وسط النخب السودانية بل نجد أن النخب الأوروبية قد بداءت مسير فكر جديد مثلا ظهرت مدرسة الحوليات الفرنسية وهي تهتم بدراسة تاريخ الإقتصاد والتاريخ الإجتماعي وبعدها ظهرت النظرية الكينزية وقبلهما ظهرت أفكار ماكس فيبر في نقده للشيوعية وحديثه عن أنثروبولوجيا الليبرالية وكانت كل أفكاره تقوم على فلسفة النيوكانطية وأنثروبولوجيا كانط.
وكلها تسوق بإتجاه علاقة الفرد بالدولة ومعنى المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد وهذا هو البعد الغائب عن فكر النخب السودانية حتى كتابة هذا المقال وهي تبرر لفكر لاهوتي لم ينسلخ بعد عن لاهوت القرون الوسطى في عدم ايمانه بالعدالة والمساواة بين أفراد المجتمع وحتى أوضّح أكثر هنا في السودان ما زال الكيزان يتبعون فكر لا يؤمن بالمساواة بين المسلم وغير المسلم ولا المساواة بين الرجل والمراءة في الميراث حتى داخل الإسلام أو بين المسلميين أنفسهم وبقية النخب السودانية تراه عادي لأنهم جميعا لم يدركوا ورطة الفكر الديني فيما يتعلق بالفكر الأصولي وإستحالة التأصيل كما تحدث عنه محمد أركون ومسألة أزمة الحضارة العربية الإسلامية التقليدية وصراعها مع أفكار عقل الأنوار وأفكار الحداثة ومسألة مفهوم الدين التاريخي.
الخوف أن النخب السودانية ستستمر في سباتها الدوغمائي العميق حتى بعد تجربة الحرب العبثية بين الكيزان وصنيعتهم الدعم السريع وتستمر في نومها الذي يهدهده ايمانها التقليدي وتواصل في مسيرة السائر في نومه وتدخل في حيز المجتمعات الفاشلة والعاجزة في أن تبداء مسيرة نهوضها من جديد وهذا ليس متوقع الآن في ظل نخب سودانية خانعة وتابعة للمرشد والختم والامام والأستاذ الشيوعي السوداني الذي يجسد أيدولوجية متكلسة حتى في مقارنتهم بنخب عربية.
مثلا في تونس مسألة المساواة في الميراث بين المراءة والرجل قد فارقوها أي اللا عدالة فيها بعقل تونسي يصالح بينه وسير أفكار عقل الأنوار في وقت نجد النخب السودانية الآن عاجزة في أن ترى أن الحرب العبثية بين الجيش الكيزاني والدعم السريع لا تعني الشعب السوداني في شئ وعلى الشعب السوداني أن يدرك بأنه أنجز ثورة عظيمة وشعارها حرية سلام وعدالة وهو يعني خلق مجتمع يؤمن بالمساواة والعدالة بين أفراده ويدرك الشعب أنه مصدر السلطة وهو متقدم على نخب فاشلة على مدى قرن كامل من الزمن.
كل المؤشرات تقول لنا أن حال النخب السودانية وهي لا تدري أنها تواجه واقع يشبه واقع أوروبا بين الحربين العالمتين وهو واقع يحكي أن العقل التقليدي السوداني نتاج أزمة الثقافة العربية الإسلامية التقليدية قد وصل الى منتهاه ولم يستطع أن يناور بالخطاب الديني المنغلق ولم يعد وحل الفكر الديني كجالب لسلام المجتمع السوداني على الإطلاق. وقد رأينا مغامرة الكيزان وجيشهم وآخر تخطيطاتهم الفاشلة في الحرب العبثية تشريد الشعب السوداني لأن حشود مظاهرات ثورة ديسمبر كثورة حرية لا يحمل لها الخطاب الإسلامي التقليدي أي إجابات وكان الشعب السوداني هو القادر على زلزلة الارض من تحت أقدامهم لذلك قد أخرجوه بحربهم العبثية والآن لايريدون لها نهاية لأن بعودة الشعب ستنهي مغامراتهم الطائشة.
وهنا تظهر ورطة الكيزان لذلك جاء إختيارهم للأسهل وهو الخراب عبر الحرب لأن الإعمار والتنمية والإزدهار المادي هما الأصعب وتحتاجان لفكر وهم أبعد عن ميادين الفكر لذلك أختاروا الحرب وما دروا بأنهم سيدخلون في ورطة كيفية كسبها وهيهات بعكس نخب أوروبا بين الحربين العالمتين نجدهم قد تقدم الصفوف علماء الإجتماع والفلاسفة والسياسيون بفلسفتهم السياسية والإقتصاديون والشعراء وقدموا فكر قد أعلنوا فيه أن فلسفة التاريخ التقليدية قد أفلت وأن فلسفة تاريخ حديثة في طريقها الى عالم جديد لا يؤسس طرقه غير عباقرة الرجال.
من قبل قرن من الزمن قد طلع نجم سعد السياسي القادر على إدراك معنى الشرط الإنساني وأفل نجما القانوني والمؤرخ التقليدي وللأسف في السودان ما زال المؤرخ التقليدي لا يجيد غير الحكي والقانوني السوداني كأضعف حلقة في سلسلة النخب السودانية يحاول لعب دور السياسي وقد رأينا خيبتهما في الوثيقة الدستورية وقبولهم بالشراكه مع العسكر و قد أبانت غياب السياسي الذي يدرك معنى الشرط الإنساني.
أوروبا بين الحربين برغم تقدم السياسيون والإقتصاديون للصفوف أحتاجت لعقدين حتى تصل لنهاية الحرب العالمية الثانية وتفارق الحروب وتعرف معنى السلام والحرية فما بالك بالسودان الذي لم يتقدم فيه علماء الإجتماع والإقتصاديون والسياسيون المدركون لمعنى الشرط الإنساني حتى اللحظة للصفوف فكم يحتاج من عقود حتى يطوي صفحات الحروب والفقر والجهل والمرض وبعدها يسير في طريق الحرية والسلام؟
لكي نختم هذا المقال لابد من العودة للعنوان أن أفكار جون قرنق لقيام سودان جديد وأمله في أن تمتد الثورة من الجنوب الى جبال النوبة وجنوب النيل الازرق وأخيرا الى دار فور في حرب مفتوحة إستمرت حتة اللحظة عبر أربعة عقود لن تفتح إلا على حرب الكل ضد الكل بعكس أوروبا بين الحربين فكان زمن الحربين لم يتجاوز العقد من الزمن وبعدها جاء دور الفلاسفة وعلماء الإجتماع والإقتصاديين والسياسيين المدركين لمفهوم الشرط الإنساني وأنزلوا فكرة العقد الإجتماعي وفيه تتبدى علاقة الفرد بالدولة مباشرة وليس بالجهة أو الطائفة أو القبيلة وفكرة العقد الإجتماعي هو نهاية لحرب الكل ضد الكل بضمان مفهوم الدولة الحديثة التي تجسد فكرة العيش المشترك بضمانها لتحقيق المسؤولية الإجتماعية نحو الفرد.
أربعة عقود من الحروب إبتداءا من زمن قرنق قد فتحت على حرب الكل ضد الكل وحتى بعد إنفصال الجنوب لم تؤسس النخب في جنوب السودان دولة حديثة وعندما أنجز الشعب السوداني ثورته بشعار حرية سلام وعدالة نلاحظ أن من جاءوا من جهة صفوف جون قرنق وهم ياسر عرمان وأردول و مالك عقار لم يخدموا ثورة الشعب السوداني بل نجد أن مبارك أردول ومالك عقار كانا خصم من رصيد ثورة ديسمبر مما يدل أن جون قرنق في حربه المفتوحة بلا آفاق نسى أن يؤسس لنخب تعرف طريق فكر عقل الأنوار والنتيجة نراها في فشل نخب جنوب السودان في التأسيس لدولة مستقرة في الجنوب ومن جاء الى الشمال كأردول ومالك عقار ومناوي وجبريل جاءوا بفكر منحط لذلك عجبهم الإصطفاف مع الجيش الكيزاني.
لم يبقى غير عبد العزيز الحلو في جبال النوبة وهو يقاوم نخب سودانية فاشلة عجزت في أن تضحي بهويتها الدينية من أجل قيام سودان حديث ليس للخطاب الديني فيه أي مجال لأن النشؤ والإرتقاء يقول لنا أن مسيرة البشرية قد تجاوزت العرق والدين وأن مفهوم الدولة الحديثة لا يستقيم إلا بفصل الدين عن الدولة وأن الديمقراطية ليست نظم حكم فحسب بل أن الفكر الليبرالي قد أصبح بديلا للفكر الديني.
استاذنا الفاضل طاهر مقالك غاية في الروعة ,لانك قد وضعت يدك علي الجرح,المشكلة تكمن في المثقف السوداني ذات نفسه ,كما اخبر بذلك الدكتور الراحل منصور خالد في كتابه النخب السودانية وادمان الفشل,لان ثقافتنا وتعليمنا مبنيان علي محوران هما العروبة والاسلام,والهروب من افريقيتنا صارب واحدة من مشكلاتنا,تخيل القناة السودانية لاتجد فيا برنامج واحد يتكلم عن افريقيا وتاريخها وجغرافيتها وسياستها,بل حتي نشرة الاخبار لاتجد خبرا واجدا عن افريقا,الكل يصب في المحيط العربي والاسلامي,ومن هنا تبرز المشكلة,اللعة الاساسية هي للغة العربية,جامعتنا الوحيدة التي كانت باللغة الانجليزية تم تعريبها,وهكذا دواليك,نحن محتاجين لعقد اجتماعي جديد تكون فيه المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات,كما ذكر الدكتور جون قرن,والا فجماعة التابوت الذي توارثة انبياء بنو اسرائيل الذي فيه بقية مما ترك ال موسي سيطل من يحكم السودان,الا لعنة الله غلي الكيزان,اكرر لك الشكر والتقير وليت مثقفينا بعد هذه الحرب العبثية يصحو فكرهم وضميرهم,,وللمفارقة كل الذين يزعمون انهم احرارا مستنيرن يقفون في صف ( تقدم) بينما يقف صاحب اليان افريكانيزم الدكتور محمد جلال هاشم في فصف جماعة الموز,ولاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم.