ثقافة وآداب، وفنون

“موعدنا في شهر آب” رواية ماركيز التي نشرت بعد سنوات من رحيله

كيف جرت عمليّة نشر رواية “موعدُنا في شهر آب” لغابريال غارسيّا ماركيز؟ وهي الرواية التي أراد الكاتب تمزيقها في حياته، لكنّها صدرت حديثًا وطُرِحت للبيع في المكتبات.

سانتياغو فانيغاس

بي بي سي نيوز موندو

ترجمة وضّاح محمود/ عن الإسبانيّة

عن المجلة الثقافية الجزائرية.

إنّها رواية قصيرة يبلغ عدد صفحاتها 122 صفحة، تتعقّب أثر آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة نَصَفٌ في العمر، عاشت حياة زوجيّة سعيدة طوال 27 عامًا وليس لديها أيّ سبب للهروب من عالمها الذي بنته بيديها. مع ذلك، فإنّها تسافر في شهر آب من كلّ عام لزيارة قبر أمّها المدفونة في إحدى الجزر، فتصبح هناك امرأة مختلفًة تمامًا لليلة واحدة فقط.

هذا الأربعاء طُرِحت الرواية للبيع في المكتبات في جميع أنحاء العالم.

كان غابريال غارسيّا ماركيز قد عمل على النصّ طويلًا وبشكل مكثّف، لكنّ العمليّة توقّفت بسبب مرضه وتدهور قدراته الذهنيّة. وفي السنوات التي سبقت وفاته، صرف النظر عنها بذاته قائلًا: “هذا الكتاب فاشل ويجب تمزيقه”.

مع ذلك، فقد قرّر إبناه رودريغو وغونثالو نبش الكتاب من أرشيف جامعة تكساس في أوستن ونشره مع اقتراب الذكرى العاشرة لوفاة الكاتب.

“أعتقد أنّه عندما قال إنّ الكتاب فاشل، كان قد فقد القدرة في الحكم عليه. صحيح أنّ الرواية ليست مصقولة تمامًا مثل رواياته الأخرى، لكنّها أيضًا ليست بالنصّ الكارثيّ الذي لا يمكن فهمه. وأعتقد أنّه هو الذي كان في حال لم يعد يمكّنه من فهم أيّ شيء»، قال رودريغو غارسيّا للصحافة.

عمل كريستوبال بيرا -وهو مدير تحرير دار “بلانيتا إستادوس أونيدوس” للنشر- مع غارسيّا ماركيز في حياته على نصّ رواية “موعدُنا في شهر آب”، وكان أيضًا محرّر النسخة النهائيّة من الكتاب.

في مقابلة مع بي بي سي موندو، يذهب بنا كريستوبال بيرا إلى ما وراء الكواليس ويحدّثنا عن إصدار الكتاب الذي يصفه الكثيرون بأنّه الحدث الأدبيّ الأبرز لهذا العام.

********************

كيف حدث وأن عملت على نصّ “موعدنا في شهر آب”، وكيف كانت علاقتك مع غارسيّا ماركيز في تلك العمليّة؟

لقد كنتُ محرّرًا لغارسيّا ماركيز منذ عام 2001، عندما تعاونتُ معه في تحرير مذكّراته التي حملت عنوان “عشتُ لأروي”. في ذلك الحين بدأت علاقتنا التي تجمع الكاتب بالمحرّر، لكنّها كانت علاقة عن بعد، ثمّ صارت فيما بعد علاقة شخصيّة حينما ذهبت أنا إلى مكسيكو في العام 2006. ثم استمرت علاقتي به لا سيّما في تحرير الكتاب الذي حمل عنوان “لم آت لألقي خطابا”، وهو كتاب يجمع خطبه كلّها ونُشِرَ في العام 2010.

وأخيرا، وكما ذكرت في ملاحظاتي الملحقة في نهاية الرواية، فإن وكيلة غارسيا ماركيز، السيدة كارمن بالثلس، طلبت إليّ في العام 2010 تشجيعه على إنهاء رواية “موعدُنا في شهر آب”، التي لم أكن أعلم بوجودها.

وهكذا، عندما عدت إلى المكسيك، أخبرته بذلك. وكان قد أنهى بالفعل المسودة الأولى في العام 2004.

في ذلك الوقت، أي بين العامين 2010 و2011، كان قد بدأ يفقد ذاكرته قليلًا ولم يكن يعمل فعلًا على الرواية. لكنّه كان منكبًّا على تنقيحها بتصحيح كلمة هنا أو جملة هناك، وهنا تجلّت عبقريّته في تلك التصحيحات الطفيفة.

تمكّنتُ من قراءة ثلاثة فصول من الرواية أو أربعة، بحضوره وبصوت عال، فأثارت إعجابي. وعلاوة على ذلك فلقد رأيت أن موضوعها جديد تمامًا في عالمه الروائيّ، وأنّ البطلة امرأة لم نر مثلها من قبل في رواياته.

استمرّ في تدوين الملاحظات على النسخة الخامسة التي كانت لديه بين النسخ العديدة التي كان قد عمل عليها، إلى أن تخلّى عنها أخيرًا مع تدهور حالته الصحيّة.

ماذا حدث للرواية بعد وفاة غارسيّا ماركيز في عام 2014؟

بعد وفاته قرّرت العائلة أنّ الوقت غير مناسب لنشر هذه الرواية، لا سيّما أنّ غارسيّا ماركيز عبّر بذاته في سنواته الأخيرة عن رفضه لنشرها.

نُقِلَتْ جميع أوراق مكتب غارسيا ماركيز ومخطوطاته، بما في ذلك مخطوطة هذه الرواية، إلى مكتبة جامعة تكساس في أوستن لتُحفَظ فيها وتصبح أرشيفًا كبيرًا للكاتب. لم تكن هذه الرواية متاحة للجمهور في البداية، لكنّ بعض الناس تمكّنوا من رؤيتها.

وبعدما لاحظ إبنا غارسيا ماركيز أنّ بعض الأشخاص قد تمكّنوا من الوصول إلى المخطوطة وقالوا إنّها جيّدة جدًا ويجب نشرها، قرّرا أخيرًا مخالفة رغبة والدهما ونشرها. وكان في ذلك الحين أنْ طلبا إليّ العمل على تحريرها النهائيّ.

هذه الرواية كانت جزءًا من مشروع سرديّ، يقول محرّر غارسيّا ماركيز.

عدا عن تخلّي ماركيز عن الرواية في سنواته الأخيرة، كيف كانت علاقته بها؟ ما هي رؤيته لها؟

كانت هذه الرواية جزءًا من مشروع سرديّ.

في مقابلة أجراها في مدريد، بعدما قرأ الفصل الأول من هذه الرواية على الجمهور، أخبر الصحفيّة أنّه يكتب سلسلة من الروايات القصيرة، موضوعها العام هو الحب في حياة من هم نَصَفٌ في العمر. ولقد كانت رواية “عن الحبّ وشياطين أخرى” جزءًا من هذا المشروع.

وعندما عاد من لوس أنجلس إلى منزله في العام 2002 بعد رحلة العلاج من مرض السرطان، استأنف العمل على مخطوطة ما أصبح فيما بعد “ذاكرة غانياتي الحزينات”، فأنهاها في عام واحد ثمّ نشرها.

بعد ذلك أمضى عامًا كاملًا في العمل على مسوّدة “موعدُنا في شهر آب” التي كانت لديه.

وفي ذلك الحين، أرسل نسخة منها إلى وكالة بالثلس في برشلونة، وكانت تلك النسخة هي الخامسة من الرواية، وقد تخلّى عنها فعلًا ولكنْ بمعنى أنّه “تركها ترتاح”، مثلما قال لسكرتيرته، مونيكا ألونسو. إنّ الدور الذي قامت به سكرتيرة غارسيا ماركيز في سياق عمليّة نشر هذه الرواية هو دور بالغ الأهمية. فهي التي كانت تساعده وتحفظ له المخطوطات.

في سنواته الأخيرة، وحينما بدأت ذاكرته تخونه ولم يعد قادرًا على التعرّف على أشياء كثيرة، ذكر عدّة مرّات أنّه لا يريد نشر الرواية، وأنّها ليست منتهية، وما إلى ذلك.

ولكن كما يقول ابناه في مقدّمة الكتاب، صحيحٌ أن الرواية ليست مصقولة مثل أعماله الأخرى، لكنّها مكتملة وناجزة وسوف يرى القراء اكتمالها بأعينهم. لم أجدْ نفسي مضطرًّا ولا مرّة بالطبع لإضافة أيّ كلمة على النصّ، بل إنّني لا أجد ضرورة لذكر ذلك.

ما هي التفاصيل التي يمكنك إخبارنا بها عن عمليّة تحرير الكتاب؟ وما هي التحدّيات التي واجهتك؟

كان التحدّي الأكبر هو الاحترام المطلق لعمل غارسيا ماركيز. إنّها مهمّة تنطوي على مسؤولية هائلة.

من حسن حظّي أنّه كانت قد أتيحت لي فرصة العمل معه، جنبًا إلى جنب، في التحرير كثيرًا، ما مكّنني من معرفة أعماله جيّدًا، كما أنّني قمت سابقًا بتصحيح بعض نصوصه وفهمت كيف يعمل هو عليها وهذا ساعدني كثيرًا في تحرير هذا الكتاب.

كان أهمّ شيء هو قراءة المخطوطة بأكملها ومعرفة إن كانت القصّة مكتملة ومنتهية. لم أقم بأيّ شيء لإنهاء القصّة، كما أنّني لم أضف أيّ جملة أو أيّ شيء على خاتمتها. كان كلّ شيء في الرواية مكتملًا على الورق.

لقد قمت بعمل المحرر على المخطوطة التي كانت مستندًا رقميًّا (وورد)، إضافة إلى النسخة الخامسة التي تركها الكاتب مطبوعة على الورق وفيها الكثير من التعليقات التوضيحيّة المكتوبة بخطّ يده في الهوامش، وفيها أيضًا تعديلات وأشياء أخرى. اعتمادًا على هاتين الوثيقتين قمت بعملي للوصول إلى النصّ النهائيّ.

ولم يكن عليّ غير اتّباع القرائن التي تركها على هاتين المخطوطتين لاتّخاذ القرار المناسب، كما فعلت مثلًا حينما حذفت جملة كان هو قد شطبها.

أما بعد ذلك، فقد توجّب عليّ القيام ببعض التعديلات التي تندرج ضمن إطار العمل العاديّ للمحرّر مثل التحقّق من البيانات الواردة في النصّ من أسماء مؤلّفين وموسيقيّين، وبعض قضايا الاتّساق في النصّ نفسه.

إنّها مهمّة تنطوي على مسؤوليّة هائلة، يقول كريستوبال بيرا.

ماذا تقصد بقضايا الاتّساق في النصّ؟

هناك مثالان أشرت إليهما في ملاحظاتي الملحقة بالكتاب. في الفصل الأخير، أي في خاتمة الرواية نرى أن عمر البطلة قد بلغ الـ 50 عاما، وبعمليّة حسابيّة بسيطة، نرى أنّه يجب أن يكون عمرها في الفصل الأول 46 عامًا.

وهناك نقطة مهمّة أيضًا، ففي الفصل الأول يصف بطلة الرواية بأنها امرأة قريبة من سنّ الشيخوخة، وهو نفسه يضع علامة على هذه العبارة، ويشير إليها بإشارة استفهام. لا شكّ في أنّ هذه العبارة كانت قد ظلّت في المخطوطة من نسخة مبكرة أخرى، وهو يدرك بالطبع أنّ المرأة البالغة من العمر 46 عامًا ليست قريبة ممّا نعنيه بسن الشيخوخة.

هنا، وبكلّ بساطة قمت بعملي التحريريّ، وفسّرت تلك العلامة التي تركها بخطّ يده، فأزلت تلك الإشارة إلى سنّ الشيخوخة، وبذا أصبح القارئ لا يشعر بالارتباك، لأنّ البطلة امرأة تبلغ من العمر 46 عامًا.

هناك مثال آخر يتعلّق ببطلة الرواية أيضًا، ففي الفصل الأول تلتقي برجل في الجزيرة، ثمّ تعود بعد سنوات وتلتقي به مرّة أخرى مصادفة في أحد مطاعم المدينة، وذلك في الفصل الأخير، لكنّها لا تتذكّره في بداية الأمر لأنّه كان بشاربين لم يكونا لديه في الفصل الأوّل، حينما قابلته في الجزيرة.

هذه مجرّد مسائل تتعلّق بالاتّساق في السرد الذي كان سيراه الكاتب حتمًا في المراجعة النهائيّة. لذلك، كان لا بدّ من إزالة ذكر الشاربين من الفصل الأول لفهم الإشارة إليهما في الفصل الختامي.

كان تدخّلي في النصّ يقوم على مايلي: تعقّب إشارات الكاتب، والتحقّق من الاتّساق السرديّ للأعمار، وكذلك التسلسل الزمنيّ، والأسماء…

ماذا يمثّل هذا الكتاب في أدب غارسيّا ماركيز وماذا يقدّم لنا من جديد عن نهاية حياته الإبداعيّة؟

إنّ القراء هم الذين سيحكمون على “موعدُنا في شهر آب”. أمّا أنا فأعتقد أنّ هذه الرواية تطوي صفحات سجله الإبداعيّ العظيم وتختمها بمشبك من الذهب. كما أعتقد أنّ ماركيز في أعماقه كان على علم بذلك.

إنّها رواية بطلتها أنثى، وهو أمر لم نرَ مثله قطّ في أيّ من رواياته الأخرى. لقد كانت النساء مهمّات جدًّا في رواياته منذ “مائة عام من العزلة” كما في جميع قصصه، إلّا أنّهن لا يؤدّين دور البطولة مثل آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة قرّرت في لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة وحرّيّتها الفرديّة.

وهذا الأمر يسبّب لها صراعات في أعماق نفسها، لكنّها تستمرّ في هذا الطريق، على الرغم من أنّها كانت سعيدة في زواجها من الناحية النظريّة وليس لديها أسباب موضوعيّة للقيام بما تقوم به.

ولهذا السبب يصف رودريغو، ابن ماركيز، الرواية بأنّها رواية نسويّة. أعتقد أنّ هذه الرواية تعيد ترتيب جميع أعمال غارسيّا ماركيز وبخاصّة دور المرأة فيها، والذي يجب إعادة النظر فيه بعد هذه الرواية. ولهذا السبب بالذات أعتقد بأهميّتها البالغة.

وفضلًا عن ذلك، فإنّ أحداث الرواية التي يرويها ماركيز بأسلوبه وطريقته الخاصّين، تجري في مكان وزمان غير محدّدين؛ ربما في الثمانينات أو التسعينات من القرن المنصرم، على ساحل كولومبيا، وفي إحدى جزره، لكنّه لا يكشف لنا الأسماء حقًّا. لم يشأ أن يترك لنا إشارات واضحة تدلّ على المكان الذي جرت فيه الأحداث، وهو أمر جديد في رواياته.

إنّه عمل يردّ الاعتبار لنساء رواياته الأخريات إذن…

لا شكّ في ذلك. لكنّ ما أقوله لا أهميّة له على كلّ حال، لأنّ القراء منذ الآن فصاعدًا هم من سيحكمون على العمل.

مع ذلك، فإنّه لا بدّ لي الآن من أن أستذكر تلك اللحظة التي قرأت فيها بصوت عالٍ لأوّل مرة عدّة فصول من الرواية معه. فحينها أمِلتُ أن يتمكّن جميع قرّاء غارسيّا ماركيز من قراءة الرواية والاستمتاع بهذه التحفة الفنيّة التي كان لي الشرف في قراءتها لأول مرة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..