مقالات وآراء

الكيزان في السودان إرث من الخراب والدمار

هلال وظلال
عبد المنعم هلال

عندما يتحدث السودانيون عن إرث النظام السابق في البلاد والمعروف باسم “الكيزان” فإنهم يتذكرون كيف تم تدمير الكثير من المشاريع الحيوية التي كانت تمثل عصب الاقتصاد السوداني من الزراعة إلى الصناعة ومن الطاقة إلى البنية التحتية ، تحولت الكثير من هذه المشاريع إلى رماد بسبب سوء الإدارة والفساد والمصالح الشخصية التي سيطرت على نظام الحكم لفترات طويلة.
يعد مشروع الجزيرة الذي تأسس في عهد الاستعمار البريطاني أحد أكبر المشاريع الزراعية في العالم كان هذا المشروع يمثل العمود الفقري للاقتصاد السوداني حيث كان يعتمد عليه آلاف المزارعين لتأمين لقمة عيشهم إلى جانب مساهمته الكبيرة في الإنتاج الزراعي الوطني.
ومع ذلك في عهد “الكيزان” البغيض تعرض مشروع الجزيرة لإهمال شديد وسوء إدارة حيث جرى تجفيف القنوات التي تغذي المزارع بالمياه وتهميش المزارعين عن اتخاذ القرارات بالإضافة إلى ذلك تمت خصخصة أجزاء من المشروع وبيعها لمستثمرين مما جعل المشروع عاجزاً عن تحقيق إنتاجيته السابقة وتدهور حاله من مشروع ناجح إلى أطلال تنعق فيها الغربان.
كان السودان من الدول الرائدة في إنتاج السكر في المنطقة بوجود عدة مصانع مثل مصنع سكر كنانة ومصنع سكر الجنيد هذه المصانع كانت تدير عملياتها بكفاءة وتساهم في تأمين احتياجات السودان من السكر بل وتصديره إلى الخارج.
ومع مرور الزمن وخلال حكم “الكيزان” تعرضت هذه المصانع للخصخصة أو البيع لمستثمرين أجانب مما أدى إلى تدهور الإنتاج كما تم إهمال عمليات الصيانة والتحديث مما جعل هذه المصانع غير قادرة على المنافسة أو حتى تأمين احتياجات البلاد من السكر. تراجعت صادرات السكر وتحولت الصناعة من قوة اقتصادية إلى قطاع مثقل بالديون والمشاكل التشغيلية.
كانت الخطوط الجوية السودانية (سودانير) واحدة من أقدم وأكبر شركات الطيران في إفريقيا كانت تمتلك أسطولاً ضخماً وتقدم خدمات جوية ممتازة تغطي العديد من المدن الإقليمية والدولية.
لكن في فترة حكم “الكيزان” تحولت سودانير إلى رمز للفشل الإداري والفساد. تم بيع الطائرات وتهميش الطاقم المهني وأدى سوء الإدارة إلى إغراق الشركة في الديون. في النهاية أصبحت سودانير عاجزة عن تلبية احتياجاتها التشغيلية مما أدى إلى تقليص كبير في رحلاتها وتعطل شبه كامل لأنشطتها وكانت الطامة الكبرى بيع خط هيثرو.
كانت السكة الحديد السودانية من أقدم وأطول شبكات السكك الحديدية في إفريقيا وكانت تربط بين معظم مدن وقرى السودان مما يساهم في نقل البضائع والركاب بسهولة ولكن تحت حكم “الكيزان” تعرضت السكة الحديد للإهمال التام حيث تم تجاهل الصيانة وتدمير الكثير من البنية التحتية وتمت خصخصة أجزاء من هذا القطاع وبيعها لمستثمرين غير مؤهلين مما أدى إلى انهيار شبكة السكك الحديدية بالكامل تقريباً نتيجة لذلك توقفت الحركة التجارية والركابية التي كانت تعتمد على هذه الوسيلة الحيوية وزادت الأعباء على الاقتصاد المحلي.
خلال فترة ازدهار النفط في السودان كانت البلاد تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط لدعم الاقتصاد وتمويل مشروعات التنمية لكن “الكيزان” لم يستثمروا هذه الثروة بشكل حكيم وتعرضت عائدات النفط للفساد والإهدار وتم تخصيصها لمصالح ضيقة ولتمويل حروب أهلية بدلًا من التنمية المستدامة.
بسبب سياسات “الكيزان” الرعناء وعنصريتهم البغيضة قاموا بفصل جنوب السودان في 2011م حيث توجد معظم حقول النفط وبذلك فقد السودان معظم موارده النفطية ولم تستطع الدولة تعويض هذه الخسارة أو تنمية قطاعات أخرى. كانت هذه الخسارة نتيجة لسياسات قصيرة النظر ونهب مستمر لموارد البلاد.
لم يقتصر الدمار على المشاريع الاقتصادية بل شمل أيضاً القطاعات الحيوية كالتعليم والصحة تم بيع العديد من المدارس والمستشفيات العامة أو تحويلها إلى مؤسسات خاصة يمتلكها كادرهم التنظيمي مما حرم الشعب السوداني من الخدمات الأساسية التي كانت تقدم لهم مجاناً وتدهور مستوى التعليم وتراجع مستوى الرعاية الصحية بشكل كبير مما أثر بشكل مباشر على حياة المواطنين.
إن تدمير وبيع هذه المشاريع الحيوية هو جزء من إرث ثقيل تركه “الكيزان” للسودان إرث يقوم على الفساد وسوء الإدارة وغياب التخطيط السليم لتنهار على أيديهم المشاريع التي كانت في يوم من الأيام مصدر فخر للسودانيين.
بعد أن تم تدمير المشاريع الحيوية وبيع مؤسسات الدولة تحت حكم “الكيزان” لم يتوقف الضرر عند ذلك الحد. بل تمادت السياسات الخاطئة التي اتبعتها السلطة في إشعال الحروب والصراعات الداخلية التي لا تزال مشتعلة حتى يومنا هذا.
بعد الاستيلاء على السلطة في عام 1989م تبنى النظام الكيزاني سياسة العنف والتفرقة ما أدى إلى تأجيج الصراعات القبلية والإثنية في مختلف مناطق السودان بدأ ذلك بالصراع في جنوب السودان الذي تحول لاحقاً إلى حرب أهلية طويلة امتدت لعقود وأسفرت عن انفصال الجنوب في 2011م لكن الحرب لم تتوقف عند هذا الحد.
في أوائل العقد الأول من القرن الحالي أشعلت سياسات النظام الصراعات في دارفور حيث استخدمت الحكومة ميليشيات الجنجويد لقمع التمرد هناك وبدلاً من محاولة التوصل إلى تسويات سلمية كانت القوة العسكرية هي الخيار الوحيد للحكومة وقد أدى ذلك إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث مع مئات الآلاف من القتلى والملايين من النازحين.
وفي جنوب كردفان والنيل الأزرق استمرت النزاعات المسلحة مع الحركات المتمردة حيث كانت الحكومة تقمع أي محاولات للمطالبة بالحقوق أو التنمية المتوازنة هذه الحروب الداخلية كانت تستخدم كأداة لتشتيت الانتباه عن الفشل في إدارة الدولة وتفاقم التدهور الاقتصادي.
هذه الحروب المستمرة أدت إلى تدمير نسيج المجتمع السوداني وزرع الكراهية بين مختلف المجموعات العرقية والقبلية استخدم النظام “فرق تسد” كأداة للتحكم في البلاد ما جعل إنهاء الحروب أكثر تعقيداً بعد سقوطه.
واليوم السودان لا يزال يعاني من تبعات هذه السياسات ، الحرب التي أشعلها “الكيزان” لم تقتصر على الدمار الاقتصادي بل امتدت لتشمل الانقسامات الاجتماعية والسياسية التي تعرقل أي جهود نحو بناء دولة مستقرة وآمنة.
إشعال الحروب كان جزءاً من استراتيجية البقاء للنظام السابق لكنها تركت البلاد في حالة من الفوضى التي تتطلب جهوداً كبيرة للعودة إلى طريق السلام والاستقرار.

 

[email protected]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..