مقالات وآراء

الخرطوم : قرنان من الإحتلال

خالد فضل

بدأ نقل عاصمة الدولة السودانية المؤسسة حديثا في العام 1824م على يدي عثمان بك جركس , وهو الحكمدار التركي/المصري , واكتمل تأسيسها كعاصمة حوالي 1830م , وكان ذلك لأول عهد الناس بنظم الدولة الحديثة , في معظم الأراضي التي تشكّل الآن جمهورية السودان . ولم تشمل تلك الأراضي مناطق شاسعة في المديريات الجنوبية _سابقا_ ودارفور إلا بعد ثلاثة أو أربعة عقود على ذلك التاريخ , وعندما كانت الإدارة التركية/المصرية المزدوجة تحكم بنظمها في بقية الأنحاء ظلت تلك المناطق تحكم بنظمها التقليدية المتوارثة , ولعل مقررات التاريخ السوداني الحديث في المدارس السودانية توضح ذلك . وكيف ساهم الزبير باشا رحمة في ضم تلك الأقاليم للسلطة المركزية في الخرطوم . ومؤكد أن دوافع ذلك القائد لم تك بمفهوم تأسيس دولة سودانية موحدة تقوم على نمط الدولة القومية التي أساسها المواطنة , فلم يك هناك قانون للجنسية السودانية مثلا , طيلة عهود الحكم التركي /المصري , والمهدية , والحكم الإنجليزي /المصري. ولم يصدر قانون الجنسية السودانية إلا في العام 1957م , أي بعد الإستقلال بعام واحد . ويشير د. فيصل عبدالرحمن علي طه , في مقال أعيد نشره 4 يوليو 2024م _سودانايل_ إلى أن مسألة الجنسية السودانية قد ظهرت لأول مرة في مراسلات بين الحاكم العام للسودان والمندوب السامي البريطاني في مصر سنة 1923م وتم الإتفاق على أنّ وجود جنسية سودانية موضع شك ومصدر لغط محتمل .
كانت الخرطوم إذن وظلّت حتى العام 1957م عاصمة لأناس لا يحملون وثيقة رسمية تعرّفهم !! بمعنى أوضح تبدو مسألة تحرير الخرطوم من الإحتلال الأجنبي مسألة محل شك ولغط كذلك , فالقبائل التي شكلت جيوش المهدية , لم تك تحمل أي وثائق رسمية تؤهلها لصفة (سوداني) , ولعل الأفراد الذين انضموا وشكلوا (قوة دفاع السودان) ضمن الجيش المصري , لم يكونوا في واقع الأمر يحوزون تلك الوثيقة (الجنسية) السودانية , رغم أنّ الجيش يعتبر أقدم مؤسسة من مؤسسات الدولة السودانية كما تقول الأدبيات السائدة الآن !! وهذا يقودنا للتفكير مليا في إعادة قراءة تاريخنا بعين فاحصة وبصيرة ناقدة , عوضا عن اجترار المرويات السائدة وكأنها مسلمات أزلية . المرحوم د. خالد الكد في رسالته للدكتوراة ؛ والتي أصدرها في كتاب لاحق عن مفهوم القومية لدى طبقة الأفندية في السودان أشار إلى ما يشبه الطرفة , من أنّ أحد أعيان مدينة أم درمان ومن أسرها العريقة ؛ رفض استخراج جنسية (سودانية) باعتبار أنها تساوي بينه وبين (عبه) فلان وعب هي اللهجة السائدة ل (عبد) الطريف أنها تستخدم للمفرد المذكر فقط , فلا يقال للجمع (عببة) مثلا ولا للمؤنث (عبّة) !.
بهذا تصبح الخرطوم التي ظلت لقرنين من الزمان عاصمة للسودان هي في الواقع الرسمي عاصمة للسودانيين منذ1957م فقط , أي منذ 67 سنة فقط , ومع ذلك يظل السؤال عن مغزى التحرير قائما , ففي خلال هذه المدة الأقصر من سنوات التأسيس , هل استوفت فعلا صفتها (العاصمة) , وقد شهدنا في أخريات عهد حكم المرحوم النميري الضابط الكبير في الجيش (69_-1985م) ما عرف بالكشة , والتي استهدفت بصورة خاصة الناس المنحدرين من أقاليم أطراف الدولة السودانية , وجبال النوبة , وهي المناطق التي تعرف سياسيا بالمناطق المهمشة . وفي أيام حكم الجنرال الآخر البشير (89__2019م) , كان يتم الإشارة في أحيان كثيرة إلى الحزام الأسود حول الخرطوم , ومظنة البغي والعدوان كطباع لقاطني تلك الأحزمة . ولعل من المفرقات أنّ أي حركة احتجاج أو محاولة إنقلاب مسلح تصدر عن مواطني (المناطق الموسومة بالمهمشة) يتم التصدي الدعائي الرسمي المركزي لها بإعتبارها (حركة عنصرية) , وحتى الحرب الراهنة تستخدم فيها ذات الدعاية . وظل مفهوم التحرير ملتبسا بالفعل , أي تحرير ؟ ولعل الراحل د. جون قرنق ديمابيور أتيم , قد حاول التقعيد النظري لمفهوم التحرير بتوضيحه (التحرير ليس من منو لكن من شنو؟) بمعنى آخر التحرير من ممارسات ينتهجها بعض السودانيين (منذ 1957م) تاريخ صدور الجنسية , ضد آخرين , حظوا معهم بذات الصفة في نفس الموعد . أيّا كانت هيئتهم التي سيطروا بها على الحكم ؛ وهي كما معلوم وعلي إمتداد 70 سنة تقريبا هيئة (إنقلاب) عسكري . فالخرطوم ظلت رهينة للإحتلال الفعلي منذ قرنين , ولم تحظ بفترات تحرير نسبي إلا لعشر سنوات ربما تزيد واحدة , وهنا أعني , بالتحرير (إمتلاك كل المواطنين للحق المتساوي والعادل في اختيار وتغيير من يحكمونه ونوع الحكم , بطرق سلمية , وعبر آلية الإنتخابات النزيهة والحرة في مجتمع ديمقراطي) ساعئذ يمكن أن يحتفل المحتفلون بتحرير الخرطوم , مثلما حاولوا أن يحتفلوا في أكتوبر64 وأبريل 85 وأبريل مرّة أخرى 2019م وتفرح سما الخرطوم حبيبتنا وتصفا ؛ كما تمنى الراحل محجوب شريف عليه الرحمات الواسعات .

 

[email protected]

‫2 تعليقات

  1. تصويب :

    الجيش السوداني ليس اقدم مؤسسة من مؤسسات الدولة بل سبقته سكك حديد السودان والنقلين الميكانيكي والنهري ومصلحة الأشغال وسبقته حتى مصلحة المرطبات.
    الجيش السوداني تأسس في العام ١٩٢٥ من ضباط سابقين في الجيش المصري ممن لم يشاركوا في إنتفاضة نوفمبر ١٩٢٣ بموجب وتبعاً (براءة الحاكم العام) البريطاني حيث أصبحوا يؤدون قسم الولاء (لحكومة السودان) التي يرأسها الأخير.

    1. شكرا جزيلا على التصويب المهم , ولذلك استخدمت عبارة كما تقول الأدبيات السائدة الآن بعدها علامات التعجب .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..