مابكِ يابلدي الحبيب

✒️ عبدالمنعم الكتيابى
عند ( العصاري ) يهبهب نسيم الأصيل أطراف الملاءات التي فُرشت لتوها في الحيشان الوسيعة المحاطة بجدران عنيدة تقاوم الفصول وهي تطل على أزقة عتيقة تروح وتجيئ وتفضي إلى بعضها البعض دون عنت أو كلل ..
هناك قومي يشدني إليهم رائحة النعناع وهي تشرئب إلى الأنوف من براد الصيني حين ينحني ليصب رحيقه في كوب زجاجي ( متمر وممستك ) يسمونه من باب التمليح والطرب ( عثمان حسين ) .. ويكتمل طقس الأصيل مع شاي( العصر ) بإجتماع الآباء والأبناء والأحفاد ومن حضر من الجيران والضيوف والحديث ذو الشجون ، يتخلله صوت المذياع وكثيرا” مايصادف الأنس ذاك حلقة جديدة من مسلسل إذاعي تعقبه نشرة أخبار وينصت الجميع عندما يقول المذيع في ختامها ( أيها السادة توفي …. ويعدد المراحيم بأسماء أقاربهم وصلة القرابة ويحدد مقابر كل واحد منهم ومكان العزاء إلى أن يقول تغمدهم الله بواسع رحمته ) فالكل يعرف بعضا” من الموتى أو ذويهم .. هكذا كانت الحياة تسير في هدوء ودعة ..
وكانت مدينتي سيدة المدن في الوداعة والصخب ، في الدعة والشظف ، متسامحة حتى في ثنائياتها : ختميه و أنصار ، صوفيه وسنه ، ، شيوعيون وأخوان مسلمون ، أفندية وشيوخ ، هلال ومريخ ، مدائح وغناء .. لافرق بين عرق وعرق أو دين ودين ..
ياترى هل ستعرف المدينة ملامحي حين أعود إليها ؟ هل ستفهم لغتي ؟
لقد تغير كل شيء بين يوم وليلة نعم تغيرت لغتي نشيدا” وغناء فمن ( عربا” نحن حملنا ونوبه ) صار نشيدنا ( الحل في البل ) وتبعها قاموس تتصدره الخشونة والعنف حتى في إيقاع الكلمات ( فتك ، بتك ، ردم ،جغم)حتى المزاج لم يعد هو هو… فمن سايق الفيات وسايق البوباي إنتقل إلى سايق الركشه تعال بي جاي ، وبدلا” عن ( أهدي لي تفاحه بس أو برتكانه )إلى( اديني بنيه وإيه كدا ما عارف ) ، و(ابومروه ) صار إسمه ( أب جيقه ) والتي كالبانه يتمايل عودها أسمها ( صبجه ) والجنتل مان بدلا” من يا أستاذ أو يا سيد صار ينادى بـ ( يا عمك وياخال ) ومن خطت نحو الأمومة لآداء رسالتها الأسريه والمجتمعيه من آنسه أو سيده صارت تنادى بـ ( ياخاله ) ..
ولذا ضاعت ملامحنا بين عشية وضحاها وسط هذا التيه الثقافي .. فصرنا لا نعرف بعضنا بعضا ،بل ضَعُفت أواصر الود بيننا ففسد في أدنى خلاف في الرأي ، وغاب حسن الظن وكثر التنمر ووجدت البندقية طريقها سهلا” إلى صدورنا وعرفت الصواريخ شامخات المباني فهدتها بعد زوال ساميات المعاني ، فإنهار كل شئ .. لم يجد نسيم الأصائل ملاءات على الأسرّة ليهبهبها ، بل لم يجد جدرانا” يصافحها أو أبوابا يكتب عليها حضرنا ولم نجدكم ..
تحطم المذياع فلم نعرف من مات وأين دُفن ، ولم تٌنصب سرادق للعزاء ..
وتفرق الجميع وبقي النيل وحيدا” بلا سمار ولا ندمان ..
ونجا من نجا وفي نفسه شئ من أسى وإبتلعت الصحاري هياكل من ضلوا الطريق إلى النجاة أما القرى الآمنة شرقا” وغربا” صارت لا تعرف شرقها من غربها وأين ذهب أهلها الذين عمروها ومن أين أتى من دمروها ..
فابكِ يابلدي الحبيب ..
البلاد
بخير
وستبقى
بخير
إن
شاء
الله