مقالات وآراء

نزع و تمزيق ..

حكايةُ حربٍ!

طه جعفر الخليفة

قصة قصيرة

أعدّ الجوع لهم مؤائد. تحولت دمدمة المتفجرات ، أزيز المسيّرات ، زمجرة الطائرات فوق رؤوسهم مع صوت الرصاص ، تحولت إلي شخيرِ يصدر عن نومهم العميق. لم يكن بالأنحاء ماءٌ ليشربوه غير ما تبقي من خطوِ الجنود في بِرَكِ مياه الأمطار ، شربوا ذلك الخليط المُشّبَع والمحتشد بالموت الذي رفض المجيء. تعب الموتُ من التِجوال في شوارع حِلّتهم المنتهكة إلي آخر بيت فيها ،تعب! .
قالوا ” نحن عائلة إندمجت وصارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية ولا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءَه أو يؤلمه في الروح”. وقالوا لم يعد عند الجنود ما يغضبوننا به أو يجعلنا نرد علي أسئلتهم. وقلت لم يعد للحرب ما تقوله أو تستطيع به أن تجعلهم يتكلمون.
جاء بعضهم ليقتلوهم لأنهم من الفلول، فعل القتَلّةُ فعلتهم وفرحوا بها وهللوا وكبّروا. جاء قتَلَةٌ آخرين ليقتلوهم لأنهم متعاونون مع المليشيا المتمردة ، فعل القتَلّةُ فعلتهم وفرحوا بها وهللوا وكبّروا. قالوا لم نمت جراء الهجمتين لا بل ظللنا كما نحن “نحن عائلة إندمجت وصارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية ولا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءَه أو يؤلمه في الروح” قالوا إنتهت الحرب عندما صار القتلُ لا يقتل وأصبح الرعبُ لا يُخِيف. فقلت فعلاً إنتهت الحرب عندما تحوّل الجوع إلي واهبٍ للطعام.
لم يجد الجنود ما يفعلونه فقرّر قادتهم الإتفاق وإقتسام البلاد مناصفة بينهما ، ناسها وموارده مناصفةً بينهما. قالوا سمعنا ذلك عندما مرّ جندي جوار بيتهم. كان الجندي يسمع كلام قائده المتفق مع القائد الآخر. سمع الجندي ذلك في واحدٍ من تلفوناته التي كانت لمَوْتَى أو منهوبين. كان الجندي يسمع ويتلفت كأنه يسمع أصواتا. لم يكن هنالك ما يُصدِر صوتا لأنه خلال الحرب قد نفدت الكلمات ولم يتبقَ من الكلام غير تلك الأصوات المجوفة الي لا تهتم لها طبلةُ أُذنِ ولا ترتعش من أجلها. حتي الحيوانات صارت صمّاء. مع نهاية المكالمة إنتشرت في الهواء رائحةُ البُراز المختلطة برائحةِ الأجساد المُتحللة. رأيت في نهاية الشارع جثة قديمة تحلّلت ويبست وصارت هيكلا مكسواً بجلد رقيق ، هيكلٌ بفم مبتسم. قوة الرائحة ونفاذها فيما يبدو دفع بالكلاب ، القطط ، الطيور ، الهوام ، القوارض وجمهرة الحشرات النَشِطة. دفعت الرائحةُ الجميع ركضا ، زحفاً وطيراناً نحو النهر. قالوا عندما تأكدنا من ذلك المنظر المهيب وهو مغادرة الحيوانات لحِلَتنا حدث أمر غريب حيث بدأت عائلتنا المندمجة في الإنفصال ، إنفصل الأب مبتعدا ، نزعت الأم نفسها عن جسد العائلة ، تبقي جسد ممزق ومرتبك في إندماجه لكنه بدأ في الإنفصال فتفرق الأولاد والبنات بددا ، خرجوا عن ذلك الجسد حيث كما قالوا كنّا عائلة إندمجت وصارت جسداً واحداً ، ليست له هوية جنسية ولا ذاكرة ليخدش الإغتصاب حياءه أو يؤلمه في الروح. إنفصلنا أي واحد منّا بندوب وتقرحات شملت جسد الواحد منّا وروحه. قالوا لم نهتم بما حدث لأن الحرب إنتهت عندما لم يجدِ الموتُ من يقتله ولم يجدِ الجوعُ ما ينهشه ولم يجدِ المرضُ جسدا ليعذبه. قلت إنتهت الحرب.

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. الشيوعي السوداني الجذري العايش في كندا لما يكتب قصص قصيرة على طريقة الإشتراكية الواقعية التي كانت أسلوب أدبي في سبعينات الإتحاد السوڤييتي وتروّجه دار مير لثقافة الشعوب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..