أعداء الديموقراطية وتقوبض المصلحة الوطنية

د. محمد حمد مفرح
يتسم الحكم الشمولي ، بصورة عامة ، والمعروف بالنهج الدكتاتوري والقمع ومصادرة الحريات ، بالسعي المستديم لترسيخ اقدامه في الحكم ومحاربة الديموقراطية ليفسح المجال لنفسه للحكم لأطول فترة ممكنة ، غير عابئ بمصالح الشعوب ونهضتها. ويعد هذا هو ديدن كل الحكومات الشمولية التي حكمت السودان والتي ظلت تقف طوال تاريخها حجر عثرة في طريق توطين وترسيخ نظام الحكم الديموقراطي بالبلاد. وقد تسبب هذا النهج في استئثار الحكومات الشمولية بغالب سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال حتى تاريخه ، كما قاد لاجهاض كل محاولات نجاح واستقرار الديموقراطية بالسودان.
وتعد تجربة حكم الانقاذ ، باعتبارها الفترة الأطول في تاريخ السودان ، المثال الأسطع في محاربة الديموقراطية بل والاستماتة في ذلك مع شيطنة كل رموزها والصاق التهم الجزافية المغرضة بهم بغية اغتيالهم معنويا وبالتالي قطع الطريق على الديموقراطية. وظلت الانقاذ منذ انقلابها على الحكم الديموقراطي في العام ١٩٨٩م تعمل جاهدة ، من خلال حكمها ، على ترسيخ مفهوم الدكتاتورية Concept of dictatorship بديلا للديموقراطية. وقد تمظهر هذا المفهوم عبر فلسفة حكم الانقاذ وسياساتها وممارساتها طوال فترة حكمها وذلك على نحو حاولت معه ان تسبح عكس تيار البداهة وطبيعة الاشياء لتؤكد لجماهير الشعب السوداني ، ضمنا وصراحة ، أن نظام حكمها الدكتاتوري هذا ، مهما كانت سلبياته ، يعد البديل الأفضل للنظام الديموقراطي. ومضت اكثر من ذلك ، مدعومة من قبل الاسلامويين (سندها الأساسي) ، ومدفوعة بقبضتها الحديدية وبطشها وقمعها لمعارضيها فضلا عن مصادرة الحريات العامة ، زاعمة ، بلسان الحال ولسان المقال ، أنها كتبت ، من خلال حكمها ، نهاية تاريخ البلاد عبر اسدال الستار على أي محاولة لتغيير نظامها.
وينطوي هذا النهج ،.اي نهج محاربة الديموقراطية عبر ترسيخ الدكتاتورية ، على جهل بمفهوم الديموقراطية التي تمثل ، عكس الدكتاتورية ، افضل نظم الحكم بل وتلتقي مع الشريعة الاسلامية التي يدعون الحرص عليها ، في المقاصد والأهداف. وتتمثل افضلية الديموقراطية في أنها تعمل على ادارة الصراع الفكري واختلاف الرؤى في جو من الحرية المنضبطة وتقوم على الحرية Freedom والشفافية Transparency والمساءلة Accountability.
يقول الكاتب الاسلامي المصري خالد محمد خالد في كتابه (الديموقراطية ابدا) ، معبرا عن قيمة الديموقراطية (ان التاريخ يلوح لنا بكلتا يديه وفي يمينه تجربة وعن يساره تجربة ويقول ان الشعوب التي لا تدافع عن حرياتها تموت وتنقرض).
وليس ثمة من شك في أنه إذا قام الاسلامويون بالسودان ، اعمالا للشريعة ، بدعوة علماء المسلمين للتفاكر حول كيفية تطوير نظرية أو نظام حكم قائم على الشريعة الاسلامية ومواكبة للعصر ، ونجح مسعاهم هذا ثم سعوا للدفع به في ادبيات السياسية الدولية ، ليس ثمة من شك في أنهم إذا قاموا بهذا المسعى لتصدرت الشريعة الاسلامية الفكر السياسي الدولي بديلا عن الديموقراطية التي تعتبر وليدة الفكر السياسي الغربي. بيد انهم اعتمدوا ، بدلا من ذلك ، الدكتاتورية التي تناقض ، في مفهومها ومقاصدها ومراميها ، الشريعة الاسلامية والديموقراطية على حد سواء.
ومن ناحية أخرى يؤكد نهجهم هذا على عدم الاعتبار بدروس ثورة اكتوبر ١٩٦٤م ضد نظام الرئيس عبود وثورة ابريل ١٩٨٥م ضد نظام نميري. هذا علاوة على عدم قراءتهم للتاريخ السياسي وعدم المامهم بمصير الدكتاتوريات على المستوى الاقليمي والدولي والتي لم تسعفها قبضتها الحديدية على استدامة السلطة وسلب الشعوب حرياتها والتحكم في مصائرها الى الأبد ، او قرؤوا هذا التاريخ لكنهم تجاهلوه وتعاموا عنه او لم يستوعبوه. وهذا يعني ، بطبيعة الحال ، انهم لم يتعظوا بتجربة حكم القذافي في ليبيا او على عبد الله صالح في اليمن أو عيدي امين في يوغندا أو بوكاسا في أفريقيا الوسطى أو نيكولاي تشاوسيسكو الرئيس الروماني السابق أو اغستو بينوشيه رئيس تشبلي السابق ، على سبيل المثال لا الحصر. وقد اعتمدت هذه التجارب الدكتاتورية نهجا عمد الى مصادمة منطق التاريخ السابق في شرق العالم وغربه والذي سعت من خلاله انظمة دكتاتورية كثيرة لاحلال الاستبداد محل الديموقراطية فكان مالها الفشل الذي أورث البلدان المعنية الموت الجماعي والدمار الشامل Mass destruction وغيرهما من الماسي ، كما خصم كثيرا من مسيرتها الحضارية.
وقد استمرت الانقاذ ، مدفوعة بامساكها بمقاليد الأمور في السودان ورسوخ قدميها في التربة السياسية بالبلاد ، استمرت في محاولة تعزيز سياساتها الاستبدادية عبر اقصاء معارضيها ومحاربة الديموقراطية ، بعد أن وضعت يدها تماما على كل مجالات الحياة بالبلاد وحولتها الى ملك من املاكها.
وقد قادها هذا الوضع ، معززا بفترة حكمها الطويل التي رأت انها هزمت من خلالها كل المعوقات التي تعتور طريق حكمها ، قادها الى قناعة بأنه من الاستحالة هزيمتها وانها لا محالة مستمرة في حكمها الى ما شاء الله. وقد تجلى ذلك عبر تصريحات قيادات الانقاذ والاسلامويين الذين كانوا بصرحون بكل زهو بأنهم اتوا بما لم تستطعه الأوائل وانه ليس هنالك من يستطيع إيقاف مد نظامهم. كانوا يتباهون ب(ثورة التعليم) غاضين الطرف عن سلبياتها ، وبانتصاراتهم على الحركات المسلحة وكل من عارضهم دافنين رؤوسهم عن سياساتهم الراديكالية غير المتبصرة التي قادت الى فصل الجنوب كما افرزت بؤر صراع مسلح. في كل من دار فور وجنوب كردفان وجنوب النيل الازرق القت بظلال جد قاتمة على مجربات السياسة بالسودان. هذا علاوة على انهم كانوا يتباهون بالبنية التحتية كالطرق والجسور التي بنوها ناسين ان الخدمات كالصحة والتعليم وغيرهما قد تدهورت في عهدهم بشكل مريع وان مجانية التعليم اصبحت في ذمة التاريخ.
مجمل القول أن محصلة حكم الانقاذ ، بالرغم من التضخيم الزائف لها والغبار الكثيف الذي اثير حولها ، تعد جد بائسة ، عنوانها التدهور العام والمعاناة والتراجع الشديد على أكثر من صعيد. ويؤكد التقييم الموضوعي والواقعي والمنصف لهذه التجربة على أن الانقاذ فشلت على اكثر من صعيد ، ما ادى الى اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة. وليس أدل على ذلك من ان الوضع الاقتصادي في عهد الانقاذ قد تدهور الى حد كبير وان ديون السودان الخارجية بلغت ستين مليار دولار كما أن البلاد صنفت واحدة من أفقر دول العالم.
ومن المفارقات المؤسية ان فلول نظام الانقاذ ظلوا، مع كل ذلك ، يبذلون الجهد الجهيد في محاربة الفترة الانتقالية سعيا وراء عودتهم للحكم ، وذلك عبر خلق الأزمات وشيطنة قيادات الفترة الانتقالية مع الصاق التهم الجزافية بهم . وبالطبع فان هذه التهم مؤسسة على أدلة وقرائن احوال كثر لا يتسع المجال لتفصيلها . وقد واصلوا هذا النهج حتى انقلبوا على الحكومة الانتقالية في اكتوبر ٢٠٢١م. ولما لم يتمكن الانقلابيون من تكوين حكومة قاموا باشعال الحرب الحالية والتي تؤكد كل الأدلة من تسجيلات الاسلامويين وتصريحاتهم العلنية ، وكل قرائن الأحوال ، على انهم هم الذين بدؤوها.
وهكذا ظل فلول الانقاذ يسعون سعيا حثيثا لقطع الطريق على التحول الديموقراطي Democratic transition بكل السبل. ولكي يحققوا هدفهم هذا فقد عملوا وما زالوا يعملون على عرقلة كل المبادرات الاقليمية والدولية التي هدفت وتهدف الى وقف الحرب. والسبب في ذلك هو ببساطة ان إيقاف الحرب يتقاطع مع مصالح نظام الانقاذ للعودة للحكم وخلافه كما يعرضهم للمحاكمات التي لا تسقط بالتقادم.
وبذا فقد ضرب فلول الانقاذ والداعمون لهم عرض الحائط بكل المناشدات الخاصة بوقف الحرب وظلوا يدعون لاستمرارها بالرغم من ان وقفها يعد هدفا انسانيا ملحا يتوقف عليه انقاذ الشعب السوداني ومقدراته من عقابيل استمرار الحرب.
وتبعا لذلك فما زال مسلسل محاربة الديموقراطية مستمرا من خلال ممارسات وأفعال هدامة ومستميتة لا تأبه بمصلحة الوطن. وقد تجلى ذلك مؤخرا من الافعال الهدامة والمحمومة التي قامت بها، كما تؤكد الحيثيات المنطقية ، عناصر من نظام الانقاذ و مناصريهم ، خلال زيارة د. حمدوك الأخيرة للندن في مسعى منه لانقاذ الشعب والبلاد من افرازات وعقابيل الحرب الدائرة.