التقاعس عن حماية المدنيين في السودان.. من يتحمل المسؤولية؟

اندلعت الاشتباكات في الخرطوم يوم السبت 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، التي تم تأسيسها ورعايتها من قبل القوات المسلحة نفسها قبل حوالي 15 عاماً. وكان الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، قائد الجيش، يمتدح هذه القوات ويدافع عن وجودها، ويشهد احتفالات تخريج أفرادها. كما قام بإلغاء المادة (5) من قانونها ليزيد من استقلاليتها في مجالات التجنيد والتسليح والعلاقات الخارجية، حينما كان يرأس المجلس العسكري الانتقالي. وعند تشكيل مجلس السيادة، تم تعيين قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، نائباً لرئيس المجلس، وهو منصب لم يكن منصوصاً عليه في تلك الوثيقة، مما اعتبره الكثير من المراقبين كأول خرق للوثيقة من قبله وتمكين لقوات الدعم السريع.
نجاح عمليات إخلاء المواطنين الأجانب:
في ظل موجة العنف الشديدة التي اجتاحت معظم المدن التي تشكل العاصمة السودانية، وخاصة مدينة الخرطوم، سارعت العديد من دول العالم إلى إجراء عمليات إجلاء لرعاياها عبر مطار القاعدة العسكرية في وادي سيدنا شمال مدينة أم درمان، أو عبر مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، أو المعابر الحدودية الشمالية مع مصر. شملت هذه العمليات رحلات جوية وبرية محمية، ولم يتم تسجيل أي حالات اعتداء على قوافل الإجلاء.
على الجانب الآخر، كان هناك تدفق كبير من السودانيين (معظمهم من المدنيين) يفرون من مناطق القتال، دون أي حماية، ويواجهون العديد من العراقيل أثناء محاولاتهم للفرار. ومع انتهاء عمليات إجلاء الأجانب، أصبح الهروب من ساحات القتال أكثر صعوبة وتعقيداً، وأصبح من الشائع أن يقوم عناصر الدعم السريع بعمليات سلب ونهب لممتلكات النازحين. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان من قبل جميع الأطراف المشاركة في القتال.
تعدد البنادق الخطر المحدق بالمدنيين:
مع توسُّع الحرب لتشمل معظم ولايات السودان، زادت المخاطر التي تواجه المدنيين، حيث يُقدَّر عدد القتلى بأكثر من 100 ألف شخص، ونزح حوالي 11 مليون شخص، منهم نحو 3 ملايين عبروا الحدود الدولية. ومع إغلاق الطرق، وانقطاع خدمات الاتصالات، والتدمير الذي أصاب البنية التحتية للخدمات، وتعطُّل مؤسسات الدولة في معظم أنحاء السودان، تحوَّلت الحياة إلى جحيم لعشرات الملايين من المدنيين.
وقد تأثرت بشكل مأساوي فئات كبار السن، وذوي الإعاقة، والمرضى، والنساء، والأطفال الذين يشكِّلون غالبية الضحايا. ووفقًا للتقارير الدولية الموثوقة، يحتاج 25 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية غذائية وطبية وغيرها من المعونات الإنسانية العاجلة. بينما شهدت معظم مناطق البلاد عمليات تجنيد كبيرة لتعزيز صفوف الفريقين المتصارعين، نتج عن ذلك انتشار غير مسبوق للأسلحة بين المدنيين، مما حول مئات الآلاف منهم إلى ميليشيات مسلحة تدعم هذا الطرف أو ذاك بدوافع مناطقية وقبلية وعرقية ودينية. وظهرت مخاطر مزدوجة على هؤلاء المدنيين، حيث تتعرض مناطق مثل شرق الجزيرة لعمليات انتقام جماعية من قوات الدعم السريع، بالإضافة إلى تصفيات لعشرات الأشخاص من قبل الجيش وبعض الجماعات المتحالفة معه في المناطق التي يستعيد السيطرة عليها. علاوة على ذلك، هناك شكوك معقولة بوجود عناصر مسلحة أجنبية تقاتل إلى جانب كلا الطرفين، مما يوفر بيئة مناسبة لظهور التنظيمات الإرهابية لتعمل على الأراضي السودانية، ما يزيد من معاناة المدنيين العزل.
دعوات الحماية هي صرخة تعلوا منذ بداية الاشتباكات
في اجتماع الإيغاد بأديس أبابا في يوليو 2023، تم طرح فكرة نشر قوات (إيساف)، التي تُعتبر جزءًا من الاحتياطي العسكري لشرق إفريقيا، لضمان حماية المدنيين وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمتأثرين من النزاع. ومع ذلك، فقد ردّ الجيش السوداني بشكل عنيف، واعتبر الفريق ياسر العطا هذه الدعوة بمثابة احتلال، ووجه هجومًا شديدًا على الرئيس الكيني متوعدًا إياه في حال إرسال مثل هذه القوات. في الواقع، بدأت آمال المدنيين المتضررين تتلاشى في الحصول على الحماية، بعد تكرار رفض القيادات العسكرية لمثل هذه المساعي وسعيها لإفشالها منذ بدايتها.
طالبت البعثة الدولية المستقلة للتحقيق، التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في أكتوبر من العام الماضي، في تقريرها المقدم إلى مجلس الأمن في سبتمبر 2024، بضرورة إرسال قوات أممية لحماية المدنيين في السودان. وكان رد الجيش، على لسان وزارة الخارجية السودانية، قاطعًا في رفض هذه التوصية، مؤكدًا على موقفه السابق الرافض لتكوين البعثة من الأساس. في المقابل، أبدت قوات الدعم السريع تأييدها لعمل البعثة ومطالبتها بتمديد ولايتها، معبرةً عن استعدادها للتعاون معها وتسهيل مهمتها في المناطق التي تسيطر عليها.
كما أعلن حميدتي عن قرار بتكوين قوات خاصة لحماية المدنيين وقوافل المساعدات الإنسانية في أغسطس الماضي، لكن على الأرض، لا يبدو أن لهذه القرارات تأثيرًا ملموسًا. المبعوث الأمريكي الخاص للسودان، توم بيرللو، صرح في حديث مع مجموعة من الصحفيين في نيروبي في بداية شهر أكتوبر الماضي بأنه بدأ مشاورات مع دول إفريقية تمهيداً لنشر قوات إفريقية/أممية لحماية المدنيين، لكنه سرعان ما نفى هذه المعلومات موضحاً أن ما قيل قد أُخرج عن سياقه. في الآونة الأخيرة.
تم تجديد النقاش حول كيفية حماية المدنيين في السودان من خلال الاقتراح الذي طرحته تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدّم). ويتلخص هذا الاقتراح في إنشاء مناطق آمنة على الحدود السودانية مع كل من مصر وتشاد وجنوب السودان، حيث يمكن إيواء المدنيين وتحظر فيها العمليات العسكرية، بما في ذلك استخدام سلاح الطيران والطائرات المسيرة. كما ينص الاقتراح على تقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين دون أي عوائق، حتى يتم التوصل إلى توافقات تؤدي إلى وقف الحرب في البلاد. وقد لاقت هذه الدعوة ترحيباً واسعاً من معظم القوى السياسية المدنية التي تدعم إنهاء الحرب وحماية المدنيين من آثارها.
أفادت وزارة الخارجية السودانية في بيان لها مؤخرًا بعد تعيين السفير علي الشريف كوزير، أن الجرائم التي ترتكبها قوات الدعم السريع ضد المدنيين تهدف إلى جذب تدخل دولي تحت ذريعة حماية المدنيين، وذلك من أجل حمايتهم من هزيمة عسكرية قاسية.
يعتقد أمير محمد سليمان، المحامي ومدير البرنامج القانوني في المركز الإفريقي لدراسات العدالة والسلام في كمبالا، أن المسؤولية الأساسية عن حماية المواطنين والمقيمين في أي دولة تقع على عاتق الدولة نفسها من خلال مؤسساتها الأمنية، وهذا ما يعرف بـ “المسؤولية الحمائية”، والتي تشمل حماية الأفراد من أي اعتداءات سواء كانت من قوات محلية أو غزو خارجي.
ويضيف: “وللأسف، فشلت الدولة السودانية في هذا الواجب، والدلائل على ذلك كثيرة كما في الجنينة والجزيرة وغيرها من المناطق التي شهدت انتهاكات جسيمة بحق المدنيين من قبل أطراف النزاع. وعندما تفشل الدولة في أداء دورها في الحماية، يتوجب على المجتمع الدولي التدخل لحماية المدنيين، كما حدث بإرسال بعثة اليوناميد إلى دارفور وبعثات الاتحاد الإفريقي إلى الصومال وجنوب السودان”.
ومع أن السائد اليوم هو محاولة حل المشكلات الإفريقية ضمن الإطار الإفريقي، فإن مسؤولية الحماية تقع على الهيئات الإقليمية مثل الإيغاد ومجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي. لكن حتى الآن، لم يحدث ذلك بسبب الاعتبارات المرتبطة بمبدأ سيادة الدول، حيث تتطلب نشر القوات موافقة الحكومة المعنية، والتي لم توافق على دخول قوات دولية لحماية المدنيين أو للفصل بين القوات.
كما أن كل طرف يسعى للسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من البلاد لتحسين موقفه في أي مفاوضات مستقبلية، مما يعني أن المدنيين هم دائماً الضحايا. بالإضافة إلى ذلك، هناك تعقيدات كبيرة تواجه إمكانية نشر هذه القوات مثل التمويل والحصول على مصادره، وما يتطلبه هذا من مكونات عسكرية وشرطية ومدنية للتدريب ورفع قدرات الأجهزة العدلية والقانونية لضمان استمرار العمل في مجالات الحماية بعد مغادرة تلك القوات.
أما فيما يتعلق بتصريحات وزارة الخارجية عن أن انتهاكات قوات الدعم السريع تهدف لاستدعاء التدخل الخارجي لحمايتها من الهزيمة العسكرية، يرى سليمان أن ذلك ليس سبباً رئيسياً، إذ يسعى كل طرف إلى تحسين شروطه التفاوضية في نهاية المطاف، مشيراً إلى أن الانتهاكات التي تُرتكب في مناطق سيطرة أي طرف تصل في بعضها إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ولا تسقط بالتقادم، وهي مسؤولية تقع على عاتقهما، ولا يُعفيهم ادعاء أن مرتكبيها غير منضبطين أو غيرهم.
التغيير