ثقافتنا : بين ثقافة الدولة ودولة الثقافة
د. عبدالرحيم عبدالحليم محمد
ظللت لفترة مشغولا بأمر الاجابة على سؤال هو كيفية أن تحتل ّ الثقافةُ السودانية مكانةً بارزةً في ابراز أمتنا في تطلعها أن يكون لها حضور لافت ومؤثر وملهم في العالم .. نحن نعيش في عالم يحفل بالثقافة .. عالم نرى فيه كيف أن “القراصة” مثلا أو العراقي أو الجلابية عبرت الحدود وكذا موسيقانا ولو بدرجة محدودة باعتبارها احدى معالم هويتنا الثقافية وخصوصيتها التي تميِّزها عن غيرها من الدول الأخرى ، ولا بد للمتأمل أو المهموم بهذه المسألة من تأكيد ضرورة تشكيل أو تعزيز تلك الخصوصية الثقافية المبدعة التي تستلهم روح المجتمع وتراثه وتاريخه.
يظهر حرص الدول على تشكيل ثقافاتها الوطنية ، من خلال البرامج والمشروعات واستراتيجيات التَّنمية الثَّقافية المستدامة. ان هذا التعبير … يشوقني جدا وفي هذا الإطار يأتي سعى الدول الدائمُ والجدّي إلى رعاية الثقافة وتمويل برامجها وأنشطتها. حتى يمكن لنا الحديث عن دولة الثقافة كمفهوم سيال متجددة يخرج بالوطن من ثقافة راكدة الى ثقافة تنافسية from stagnant to competitive تعبِّر عن الهوية والتوجهات وتعزيز الوحدة وهذا حرم مضيء اشار اليه شاعرنا المبدع التيجاني يوسف بشير بأنه حرم الفن . فبقدر ما تكون الدولةُ حاضرةً في فضاءات الثقافة والإبداع ، بقدر ما يكون ذلك متمثلاً ضمن معاييرها الرسمية التي تخدم توجهاتها وبرامجها واستراتيجياتها.
تختلف فلسفات الدول في نظرتها الى التنمية الثقافية أو ما يسمى بالاستثمار الثقافي فبعض الدول تقوم بتوفير الدعم المادي لهيئات مستقلة ، لكى تتولى تلك الهيئات توزيع الدعم على المؤسسات النَّاشطةِ في الحقلِ الثقافي كما في الأنموذجِ الأنجلو – سكسوني. وفي بعض الأحيان تتولى وزارات الثقافة بمختلف هياكلها مركزية كانت أم جهوية إدارة الشأن الثقافي عبر تدخُّل الدولة بشكل مباشر في وضع البرامج وتنفيذ المشروعات الثقافية ، ومثال ذلك الأنموذج الفرنسي. وهناك نموذج آخر يعتمد اللا مركزية في إدارة الثقافة التي تتولاها الأقاليم ، على أن تحتفظ الإدارة المركزية بالتخطيط والتوجيه والتمويل ، كما هو الحال في ألمانيا..
أيا كان شكل تعاطي الدول مع موضوع الثقافة فـانه لا بد للدولة من الانسحاب من دور التوجيه المباشر أو الانتاج المباشر فتركز على رعاية الانتاج ودعمه فتخرج من دور ثقافة الدولة الى دولة الثقافة. على أن ذلك لا يعني أن تقف الدولة بعيدا بل تستمر الدَّولة في توفير الدعم والمتابعة والرعاية والتخطيط ، وتقيم المهرجانات الكبرى، مثل مهرجان الكتاب ومهرجانات أعياد الحصاد كمهرجان التمور وصناعاتها ومهرجان الشِّعر ومهرجان التراث ومهرجان الموسيقى ومهرجان المسرح ومهرجان السينما وغير ذلك من المجالات في تكامل أخاذ بين الاقتصاد والثقافة. إن على الدولة تشجيع قيام دور النشر وو دور السينما والمسرح والشركات الفنية الخاصة في كافة المجالات الإبداعية ، ودعم إنتاجاتها ، وبرامجها وعروضها. مع الاستمرار في أداء دورها في الرعاية والمتابعة والتمويل والتشريع. فتتحوَّل الفِرَق المسرحية إلى مراكز للابداع الفني ، بحيث يتم تمويل عملها ونشاطها. وكذلك الشأن بالنسبة للتشكيل والموسيقى والأدب ، وكافة أبواب الثقافة الحية ، على أن يبقى قطاع التراث الوطني الذي يشمل الآثار أيضاً، من مسؤوليات الدولة بالدرجة الأولى ، لصعوبة أن يتولاه أفراد أو جمعيات أهلية أو حتى القطاع الخاص ، مع العمل على ربط الثقافة ببرامج واستراتيجيات لدعم مفهوم التنوع التنوُّع والتسامح والانفتاح أمراً أساسياً في أي عمل ثقافي وإبداعي. نحتاج لذلك بعد أن لمسنا في هذه الحرب أثر تكايا قيمنا السمحة كما لمسنا فيها أسوأ ما عندنا باعلاء نعرات قبلية لا تنسجم مع روح التنوع أوروحانياته ..
لا بد للقائمين عل أمر الاستثمار والتخطيط الثقافي في بلادنا ، الانتباه الى ما تشكله أنظمة الملكية الفكرية القوية من دور فاعل في الحفاظ على الاقتصادات التنافسية والديناميكية والمستدامة في جميع أنحاء العالم. ونذكر هنا أن هذه الملكيات تمثل وفقا لبحث صغير أجريته ، حوالي 38% من اجمالي الدخل القومي للولايات المتحدة ، كلذلك عبر ابداعات من عقول وحناجر المبدعين , لقد أشارت احدى الدراسات إلى أن دخل بلد صناعي مثل المملكة المتحدة من الثقافة (كتب ومسرح وسينما وموسيقى وفنون تشكيلية…) يتجاوزُ في حجمه دخلَها من صناعة السيارات البريطانية الشهيرة. كنت أستمع الى برنامج تلفزيوني علة قناتنا الفضائية ، جاء فيه أنه وفي عام 1943م ، أخذ سلاح البحرية الأمريكية موسيقاه من أعمال موسيقاؤنا الراحل اسماعيل عبدالمعين حيث جيء به يومها الى بارجة بحرية في قبرص للاستماع الى موسيقاه تدشينا لها واحتفاء بها. هنا كان حالي كحال اب سيدنا ابراهيم “ونظر نظرة في النجوم … وقال إني سقيم”. نظرت كباحث ودارس في مجال الملكية الفكرية وتجاربي في النشر مرورا عبر تصنيف المؤلفات في أم درمان ، لاحظت بادرة جيدة للاهتمام بقطاع الملكية الفكرية لكن مع ضمور في النظرة الشاملة لدورها في مجالات الثقافة والاقتصاد وضرورة تكامل الجهدين القانوني والاقتصادي ليس فقط في مجال عضويات البلاد في الاتفاقيات التي تمنح المؤلفين خارج بلدانهم نفس الحماية لمؤلفي ذلك البلد ، نذكرمن ذلك اتفاقيات مثل اتفاقية بيرن وروما واتفاقية الوايبو للأداءات الفكرية. ولا بد لنا هنا من الاشارة مرة اخرى الى أن الملكيات الفكرية بعناصرها المختلفة لم تعد مجردَ مكوِّنٍ أساسي من مكونات هوية الدول والمجتمعات فحسب ، بل تحوَّلت إلى مصدر للثروة يستلزم أمر تنميتها تكامل أدوار تتراوح من مقاعد الدراسة الى صالونات الدولة والحكم بنظرة شاملة تنظر للدولة كمنشأة دائمة التعلم في عالمملكيات فكرية يؤمن أن الزبد يذهب جفاؤ ويبقى في الأرض ما ينفع الناس…
أحترم طرحك يا دكتور لكن مفهوم الثقافة ليس كما ذكرت فلبس العراقي والجلابية والقراصة ليس ضمن مفهوم الثقافة فكل الأشياء المادية والمصنوعة تقع ضمن مفهوم الحضارة والتي هي نتاج الثقافة ومفهوم الثقافة هو الفهم والادراك وكلما يضيئ العقل ويشمل المفهوم (اصطلاحاً) أيضاً مجموعة من المعتقدات والمعارف والسلوكيات والثقافة في ابسط صورها هي مجموعة من الصفات التي تمكن المتصف بها من التميز في فهم الواقع والقدرة على التعامل معه بحكمة. أما الحضارة فهي فن العمل وصناعة الأشياء بدقة والثقافة هي الخُلق المستمر للذات اما الحضارة فهي التغيير المستمر للعالم. ما جعلني اعقب عليك هو ظن البعض أن الثقافة هي مظهر خارجي للإنسان بينما هي في الواقع جوهر ومعرفة وعلم وفهم وادارك وقبم وسلوك.. وأكثر ما يؤلمني إختصار الثقافة جهلاً (عندنا في السودان) على الغناء والموسيقى والشعر واللباس والطعام والمصنوعات اليديوية.. بينما العالم يراها ويعرفها بأنها العلم والقيم والمعرفة تنمية العقل ورفع الجهل والعمل بهم لخلق الحضارة.
وخلاصة القول من ينظر إلى اهرامات البجراوية والآثار بأنها إرث ثقافي فهو بعيد عن مفهوم الثقافة التي صنعت تلك الأهرامات.. لذلك السودان لم يتطور حضارياً لانه لم يدرك أن الثقافة التي تعني العلم والمعرفة والسلوك والقيم هي ما يبني الحضارة .. لذلك تنمية السلوك الإيجابي والتعلم والفهم والادراك للحقائق يجب أن يكون محور تنمية الإنسان السوداني ثقافياً ليصنع وطن حضاري بدون إقصاء وحروب تدمر الموروثات الحضارية ( الآثار و المباني التاريخية والمباني ذات التصميم الإبداعي) والموروثات الثقافية كالمكتبات والإنتاج الأدبي والفني والعلمي … وروح التسامح…… الخ
ودمت بخير