ثقافة وآداب، وفنون

في «حفلة التفاهة» التي أقامها كونديرا… مفتاح الحكمة وروح الدعابة

التفاهة هي نمط يقوم على تسطيح الحياة والانغماس في أشكال الوجود التي لا فائدة منها، كالثرثرة والنظرة السطحية للأفكار. الدعاية الإعلامية كما الترويج لكتبٍ رديئة المحتوى، غايتها رصف الناس في طابور فكري معين. الاشتهاء الأعمى للنقود والبخل على الذات، أو الإفراط في صرف المال، محاولة مبطنة لكسب الجاه والسلطة. الدراسة في كلية جامعية غايتها رفع الشأن في المجتمع، دون هدف سامٍ من ذلك الفرع، الاستغلال «المارقية الاقتصادية» من قبل دولة تستغل سوء أحوال اقتصاد دولة أخرى بمسمى التعاون والتضامن والصداقة. الاهتمام بالمظهر الخارجي دون الولوج في العمق، والقيام بفعل ينافي قانون الدولة أخلاقياً؛ مثل دفع رشوة لموظف حكومي لغاية شخصية بحتة، مثل بناء عقار يخالف معايير الإقامة الآمنة فيه؛ ذلك مساهمة في نشر الفساد الخلقي في جهاز الدولة. شراء أصوات الناخبين من قبل حزبٍ ثري مادياً، دون امتلاك قاعدة شعبية؛ ذلك يخلق خللا في هيكيلة الدولة، وللأمر بعدٌ آخر غايتهم من الوصول إلى برلمان الدولة.. الادعاءات المبالغة في الوصف «ارتداء الأقنعة» والبرامج التلفزيونية، التي تهتم بالدعابة والضحك تكون خلفيتها سياسية غايتها استخدام الدعابة لغرضٍ سياسي، إذ يكون موضوع الحلقة متفقاً عليه.

صناعة المال ميكافيلياً وقوة خطاب التفاهة

من خلال التسليع، مثلاً مشاركة ممثل سينمائي في إعلان لمنتج صناعي؛ ذلك استغباء للمشاهد، واستغلالا لجمهور الممثل لغرض تجاري، دون أدنى اعتبار للسينما كفن. واستخدام المال في إنتاج أعمال سينمائية دارجة ورابحة؛ ذلك سعي جاد ومساهمة حقيقية في تسليع فن السينما لغاية ما، كما الحال بالنسبة إلى مشاهير كرة القدم، مثلاً إعلان كريستيانو لمنتج تجميل «شامبو كلير»، والسؤال الذي يشير إلى نفسهِ بصغية الاستغراب والتعجب، هل كريستيانو لاعب كرة أم خبير تجميل؟ في هذا الإعلان قامت الشركة باستغلال شهرته للترويج لمنتجها، فيقوم محبو اللاعب كريستيانو بشرائه، والأخير استغل شهرته في ذلك الترويج لكسب المال «تسليع الشهرة ــ تسليع الذات». والمدارس الخاصة ساهمت هي أيضاً في تسليع العلم وتخريج أجيال لا تجيد سوى بصم الأفكار دون فهمها، فليس من مصلحة المدرسة رسوب الطالب في صفه، فذلك يخفض من نسبة راغبي الدراسة في تلك المدرسة، والعكس يكون صحيحاً؛ كلما زادت نسبة الناجحين فيها زادت نسبة الإقبال على الدراسة فيها.
الخطيب الذي يقود الآخر فرداً أو جماعة إلى مقصلة الموت والمصالح الشخصية أو الحزبية تحت مسمى الشهادة؛ ذلك أيضاً تفاهة بصيغة ما، لأنه يساهم في نشر ثقافة المجموعة في سبيل ما يؤمن هو بهِ ويقضي على الفردانية لأنه يخلق جماعة من خلال نفسه «رأيهِ وتأثيرهِ»

حفلة التفاهة

في كتاب «حفلة التفاهة» لميلان كونديرا ـ صدر عن المركز الثقافي العربي 2014، الدار البيضاء، ترجمة معن عاقل ـ الحفلة يقصد بها الاستعراض، استعراض سلسلة من الأفكار عبر سلسلة من الشخصوص، فالكتاب مكتوب بأسلوب البوليفونية لشخصياتها المتعددة، وأفكارها المتنوعة من الإيروتيكية غير الخادشة للحياء العام وللمرأة أيضاً، مجرد وصف لتضاريس جسدها، الهاء عائدة على الشابات الفرنسيات اللاتي يُظهرن سررهن؛ والسياسية كما في الجزء الثاني «مسرح العرائس» والتطفل على حرية الفرد، ومكان هذا الاستعراض فرنسا.

المهرّج

أدبيَّة الأدب تكمن في الفصل الأول المعنون بـ(الأبطال يتعارفون) من الكتاب المقسم إلى سبعة أجزاء، وفي الجزء الثاني المعنون بـ(مسرح العرائس) بدأت حفلته، لكن تسمية هذا الجزء من الكتاب بمسرح لم تكن هباءً بل مكراً من الكاتب؛ إذ كلمة المسرح تشير في معناها إلى فن النظر أو فن التفكير، أي أن الكاتب يقول بصيغة ما انظروا.. فكروا.. وكلمة العرائس لها دلالة رمزية في استعباد الإنسان، تحريكه وفق أهوائنا وما نريده منه. في قصة (أربعة وعشرين طيراً من الحجل) ذات البعد السياسي من الجزء ذاته الذي يركز على شخصية ستالين، والمروية بصيغة فعل الماضي دلالة توضيحية من الكاتب، على أنها حدث مضى عليه زمن، لكنه يستحضرها هنا لخدمة فكرة مراد توصليها عبر شخصية ذات ثقل سياسي، إذ تقول القصة إن ستالين كان يحب قضاء بعض الوقت مع معاونيه بعد أن يمضي أياماً مديدة متعبة، وذلك يشعره بالارتياح وهو يقص عليهم حكاية قصيرة من حياتهِ كما في الحكاية الآتية: قرر ستالين ذات يوم أن يذهب إلى الصيد، فارتدى معطفاً رياضياً قديماً وانتعل حذاء تزلج وتنكَّب بندقية صيد طويلة واجتاز ثلاثة عشر كيلومتراً. عندئذ شاهد أمامه طيور الحجل جاثمة على الشجرة، توقف وعدّها، هناك أربعة وعشرون طيراً من الحجل، لكن لسوء الحظ لم يأخذ معه إلا اثنتي عشرة طلقة! يطلق النار عليها فيقتل منها اثني عشر طيراً، ثم يعود ويجتاز من جديد ثلاثة عشر كيلومتراً نحو منزله ويأخذ مجدداً اثنتي عشرة طلقة ويجتاز مرة أخرى الثلاثة عشر كيلومتراً ليجد نفسه أمام طيور الحجل لم تزل جاثمة على الغصن ذاته، فيطلق النار عليها، وأخيراً ها هي جميعاً. هناك لا معقولية في حقيقة القصة، غير قابلة للتصديق أبداً، إذ كيف لم تطِر الحجلات أثناء قيام ستالين بإطلاق النار عليها وهو لم يطلق طلقة أو طلقتين، بل اثنتي عشرة طلقة؟ كيف لم تخف الحجلات من دوي الطلقة، ورغم ذلك بقيت جاثمة على الغصن وستالين قطع مسافة الثلاثة عشر كيلومتراً وأحضر طلقات أخرى وهي ما زالت جاثمة على الغصن فاصطادها جميعاً؟ اللامعقولية أظهرت مدى هيمنة ستالين على عقل الفرد، وقدرته على تزييف الحقيقة.

حرية الكلام المباول

في السياق ذاته تقول القصة: إن لكل عضو من فريق ستالين مبولته الخاصة، صف من المباول على الجدار ولم يتبول معهم أبداً. ذلك ما أشعرهم بالحرية وتجرؤوا على التحدث بصوت مرتفع عن كل ما اضطروا للسكوت عنه في حضرة الزعيم، خاصة في يوم روى قصة الحجل. بينما ستالين له مبولته الخاصة في بناء مجاور منفصل عن المبنى الأول؛ وذلك دلالة عميقة تشير إلى الترفع السلطوي الذي يحظى به ستالين. لم يكن أعضاء فريق ستالين مصادقين على ما يتفوه بهِ في قصته تلك، بل التزموا الصمت وذلك ليس دلالة على الموافقة وتصديق ما يتفوه به، بل خشية من بطش هذا الرجل. القصة واردة في كتاب اسمه «مذكرات خروتشوف». يقرأ أحدهم الكتاب ويدعى «شارل» فيضحك «كاليبان» على اللامنطقية فيه، لكن آنذاك لم يضحك أحدٌ مثلما فعل «كاليبان» الآن، بل التزموا الصمت ووجدوا ما رواه ستالين سخيفاً ومثيراً للاشمئزاز.

معجزة الخوف

– قال كاليبان بعد برهة: الشيء الوحيد الذي يبدو لي غريباً في هذهِ الحكاية، هو أن أحداً لم يدرك أن ستالين كان يمزح، ومعنى ذلك أن الجميع مصاب بالعمى الفكري والتحليلي في حضرة القائد ستالين. – بالتأكيد قال شارل ووضع الكتاب على الطاولة، لأن أياً ممن هم حوله لم يعودوا يعرفون ما هو المزاح وماهي النكتة..

الكلمة تحت المجهر

«استنشق هذهِ التفاهة المحيطة بنا، فهي مفتاح الحكمة وهي مفتاح روح الدعابة». التفاهة هي الوجه الآخر للمارقية. بإمكان التافه أن يتسرب إلى داخلك بصفة ما أو حجة ما ليصل إلى مبتغاه، ربما تكون تلك الدعوة إلى ممارس طقس رياضي فيلقي عليك سؤالاً وهو يعرف الجواب مسبقاً، فتكون الغاية هي مدى فهم استيعابك وتحليلك للموضوع الذي يسأل عنه، أو ربما تكون الغاية هي إيصال جوابك إلى جهة أمنية كما مخبري الحكومات والجواسيس. ويقصد كونديرا بعبارة «استنشق هذه التفاهة المحطية بنا»؛ فكّر جيداً في الكلام المتداول أمامك في المجالس وحلل شخصية السائل. وفي عبارة «فهي مفتاح الحكمة» خذ حذرك، واستفهم. وفي عبارة «وهي مفتاح الدعابة» يقصد بها بلاهة السؤال في حال كنت ذكياً وموضوعياً في الرد.
إذن، التفاهة هي التدخل فيما لا يعنيك. مثلاً انتقاد هوية اللغة لقضية سياسية عمرها لا يتجاوز قرنين من الزمن لكاتب شاءت الأقدار أن تكون تلك اللغة هي لغة البلاد الرسمية، بينما لغته الأم محظور الكتابة بها والتفوه بها في الدوائر الرسمية في حيز الدولة، وتعني أيضاً جر الآخر إلى ثقافة القطيع لقضية هو مؤمن بها، وأيضاً تعني توزيع شهادات حسن السلوك والتحليل والتحريم وفق إيمانهِ هو.

نيجرفان رمضان

كاتب سوري

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..