مقالات سياسية

في اقتفاء أثر خراب المدن : الصورة الشاعرية للطغاة- 5

د. مجتبي سعيد عرمان

هدفت هذه السلسة من المقالات إلي تفسير الدمار، والخراب ، والجوع ، وتفكيك النسيج الإجتماعي بفعل الطغاة والطغيان السياسي وذلك حينما حكم الأوطان أصحاب المقدرات المتواضعة ، وزمرة صغيرة حكمت بحد السيف والمال. هذه المقالة مكرسة بالكامل إلي شاعر المنفي مظفر النواب الذي بكي وطنه العراق وهو يري بعيون الشاعر الجوع الذي يفتك بالفقراء علي الرغم من الثراء ، والمياه الوفيرة في نهري دجلة والفرات اللذان قامت علي ضفافهما اعظم الحضارات في التاريخ البشري. يقف شاعرنا مظفر النواب حائرا في معادلة الثراء من جهة والفقر من جهة ثانية وكأنه يتحدث عن بلادنا ونهر النيل العظيم وغيره من الأنهر الموسمية ، إذ يقول:
وكنت عرفت لماذا يسكن جوعٌ في الأهوار؟
جوعٌ ، وثلاثة أنهار ؟
لا غرو ، الحضارات دوما ما تُولد عند الأنهار ، وهكذا يولد كبار الشعراء عند منحيات الأنهار وجداول الماء ، وكل شيء حي منه. علي ضفاف نهر دجلة بمنطقة الكرخ ببغداد ، ولد شاعر المنفى والقصيدة المهربة مظفر النواب في وسط أرستقراطي ، لكنه لم يكن يدري ما يخبئه له القدر كما كتب في إحدى قصائده:
يا غريب الدار
إنها أقدار
كل ما في الكون مقدار وأيام له
إلا الهوى
ما يومه يوم
ولا مقداره مقدار
عاني مظفر النواب معاناة هائلة من النُظم السياسية القمعية في بلاده ، وكان دوما الزائر المقيم في سجون الطاغية تحت سياط الجلادين التي لا ترحم وقد وصف تلك المعاناة مع جلاديه غلاظ القلوب حينما حمل السلاح مع الفلاحين بالقرى المتاخمة لإيران ضد النظام القمعي في بلاده. تشاء الأقدار أن يجد نفسه في قبضة جهاز الأمن الإيراني السيء السمعة المعروف بالسافاك ، بمخيلته الشاعرية وصف جلاديه وصفا بليغا قائلا عنهم :
في طهران وقفت أمام الغول

تناوبني بالسوط.. وبالأحذية الضخمة عشرة جلادين

وكان كبير الجلادين له عينان

كبيتي نمل أبيض مطفأتين

وشعر خنازير ينبت من منخاريه

وفي شفتيه مخاط من كلمات كان يقطرها في أذني

ويسألني: من أنت؟
خجلت أقول له

قاومت الإستعمار فشردني وطني

غامت عيناي من التعذيب
كانت له مقدرة مدهشة علي تخصيب نصوصه الشاعرية بالرموز التاريخية التي لعبت ادوارا بطولية في حياة المجتمعات على كافة الصُعد حينما كان الإنسان فتيا. لا يخفى مظفر النواب إعجابه الشديد بالإمام على بن طالب ، بل يتحسر علي حال الوطن والمواطن ويقول له لو جئت اليوم لحاربك الداعون إليك وسموك شيوعا في وتريات ليلية ، بل أيضا يستدعي الحسين بن علي الشهيد الثائر ، وأبو ذر الغفاري ، وحسين الأهوازي زعيم القرامطة قائلا للإمام علي:
أنبيك عليّاً

مازلنا نتوضأ بالذل

ونمسح بالخرقة حد السيف

ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ظل مظفر النواب وحيدا في وجه الرياح الهوج في لجة بحر متلامط الأمواج كبحار ماهر سائرا وثائرا في وجه سلطة البغي والتجبر التي اُغتصب بحد السيف والمال مدافعا عن البشر المهانين ، والجوعي والمساكين ، معبرا عن حبه واعتزازه بكل الثوار في اي مكان وزمان ، فهم عابرون للجغرافيا ، واللغة ، والاثنية ، والدين ، وهم من يمنحونه الثبات واليقين في وجه الجلاد وسياطه التي تشقق جسده المتعب وروحه المعذبة قائلا :
لا اتذكر ، فالثوار
لهم وجه وأحد في روحي
غامت عيناي من التعذيب
وأنت تغوص في بحار مظفر النواب لن تجد سوي اللآليء والصدف البحري في خارطة إبداعه الشعري الذي كرسه للتعابي والمقهورين وإن بقي وحيدا يردد مع علي الذي أحب : “آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق” وإن بقي معه القليل من الأصدقاء الذين لم يخنوا العهد والقضية ، فهو سوف يسير على الدرب فالنهر دوما يحن إلي مجراه حتي لو فارقه ظله ، إذ يقول بحرقة:
لم يبقى لي من صحب قافلتي سوي ظلي
واخشي أن يفارقني
وإن بقى القليل
هذا قليل مما فعلته أنظمة البطش والطغاةُ بالاوطان التي تم نهبها وتدميرها ، والفتك بالشعراء والمثقفين علي يد تلك السلطة التي على رأسها طاغية لا يرحم ممثلا ظل الله في الأرض حتى اوصلونا إلي حرب الكل ضد الكل ، وشبح الدويلات الذي يلوح في الأفق. لنا عودة مرة أخرى.

 

[email protected]

تعليق واحد

  1. نعم مظفر النواب شاعر مصادم ومناضل لكن لو كان مقالك عن الشاعر الضخم المناضل شاعر الملحمة، كنا حشود بتصارع عهد الظلم الشب موانع شب حواجز رحم الله هاشم صديق الشاعر المسرحي الأزاعي الأكاديمي ولعمري انه اسمغ قامة من مظفر النواب لكن هذا ديدنا نحن السودانيين لا نعرف تسويق مبدعينا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..