مقالات وآراء

محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)

 

في إعادة النظر في عقيدة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان تسليماً من عبد الله خليل واستلاماً من الفريق عبود

محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)

 

عبد الله علي إبراهيم

(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي “. . . ومنصور خالد” (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية “تسليم وتسلم” بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و”قدر ظروفك”. اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها “تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر”، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).

غلب الرأي في فكرنا السياسي، أن الانقلاب عملٌ خاص إما لعبد الله خليل (البيه)، رئيس الوزراء من حزب الأمة على حكومة ائتلافية بين حزب الأمة وجزب الشعب الديمقراطي (الختمية)، أو لحزبه أو لدوائر متنفـِّذة فيه. وأن العساكر تسلموا أمراً بالقيام به من البِيْه، وزير الدفاع، فاستلموا الحكم امتثالاً لأمر عالٍ كما هي نظم الجيش. فمحمد عمر بشير يرى أنه كان حتى السيد عبد الرحمن ضَلَع في الانقلاب لإغراء البِيْه بتأمين رئاسة السودان له. وهو ما حلم به دائماً كما تواتر. وقال بذلك السيد محمد أحمد محجوب أيضاً. ولهذا قيل إن السيد سارع لتأييد الانقلاب يوم وقوعه. وقال اللواء أحمد عبد الوهاب، الرجل الثاني في الجيش، إنهم ربما وجدوا خطاب السيد بمباركة حركتهم حين التقوا به في يوم الانقلاب أو أنه أعده بعد خروجهم من داره مباشرة.
ربما لم يكن العساكر خلوّاً من السياسة حتى تقع لهم كتعليمات من البِيْه على حسب العبارة المشهورة “تسليم وتسلم”. فقد صورنا الأمر كذلك ربما من باب الاستهانة بغريزة العسكر السياسية أو للكيد للبِّيْه وحزب الأمة. وقد استثمر العسكر نسبة انقلابهم إلى التسليم والتسلم استثماراً تنصلوا به عن مسؤولية الانقلاب يوم الحساب كما نجد ذلك في أقوالهم للجنة التي تشكلت بعد ثورة أكتوبر 1964 للتحقيق في الأسباب التي أدت إلى ذلك الانقلاب. فقد قال عبود أمام المحققين معه، بعد ما أطاحت به ثورة أكتوبر 1964، عن قيامه بالانقلاب خضوعاً لأمر عالٍ من وزير الدفاع، البِيْه:” لو عبد الله خليل قال بلاش الحكاية كنا في ثانية ألغينا كل شيء.”
من جهة أخرى، ربما لم يكن البِيْه هو وحده الذي وسوس للعسكريين بالانقلاب، فقد اتفق للكثيرين، واليساريين منهم على وجه الخصوص، أن الأمريكان هم من أوحى بهذا الانقلاب للبِّيْه وللجيش معاً. وأفضل عرض لدور أمريكا في الانقلاب، هو ما جاء على لسان روث فيرست الشيوعية الجنوب أفريقية، التي اغتالها نظام بلدها العنصري، في عام1982. فقد رجَّحت أن أمريكا وبريطانيا باركتا تقحـُّم الجيش السوداني للحكم في 1958 بعد لأيٍّ لما ارتأيا أنه شرٌّ لابد منه، لاستقرار البلاد كما فهما ذلك. وقالت إنه بتاريخ 13 نوفمبر 1958 كان صُنّاع السياسة الأمريكية، قد اقتنعوا أن مصر ستنفِّذ انقلاباً في السودان بناءً على تصريح مختَــلَف عليه بأن حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي بصدد التحالف لإقصاء حزب الأمة من الحكم يوم افتتاح البرلمان في 17 نوفمبر 1958. وأضافت فيرست أن المقصود من التصريح كان تسريع خطوات تحالف حزبي الأمة والوطني الاتحادي. وقد رأينا في الفصل الفائت كيف سهرت بريطانيا، التي انطوت على شيء من الثقة بالوطني الاتحادي منذ اختار استقلال السودان على الوحدة مع مصر في 1956، لإنشاء هذا الحلف بين حزبي الأمة والاتحاديين بالوعد والوعيد. وقد تواثق الحزبان على هذا الحلف في اجتماع انعقد ليلة 17 نوفمبر. ومات الحلف في مهده بحركة الجيش في فجر تلك الليلة. ومن رأي فيرست أن ذلك التصريح، والمقصود منه التعجيل بتحالف الأمة والاتحادي، عاد بعكس مراده، فقد أسرع عبد الله خليل البِيْه، رئيس الوزراء من حزب الأمة، بزجِّ الجيش في الحكم.
ربما لم نجانب الصواب إن قلنا إن بريطانيا وأمريكا خاصة لم تكونا بعيدتين عن خطة الانقلاب وهما في غمرة سعيهما لتوفيق أوضاع السودان بما يلائم أغراضهما في إطار الشرعية الدستورية. ونحتاج لبيان دورهما في الانقلاب إلى نظرٍ أدق في وثائقهما الدبلوماسية. فسيكون مثيراً أن نعرف إن كان لسفارتي الدولتين صلة مباشرة بالجيش نفسه. فلو وُجدت هذه الصلة استوجب علينا أن نراجع العقيدة السائدة في أن الانقلاب لم يكن سوى “تسليم وتسلم” أمر به البِيْه وزير الدفاع، وأتّبَعه الجيش كأمرٍ صادر من الضابط الأعلى. فلو صح أن للدولتين سكة سالكة لقيادة الجيش لتعقد أمر منشأ الانقلاب.
ومما يغري بالكشف عن صلة مستقلة لقادة الجيش بالدبلوماسيين البريطانيين والأمريكان، عبارة غامضة قالها محمد أحمد أبو رنات، رئيس القضاء في عهد البِيْه وعبود، وأحد أعمدة الطاقم المدني في دولة نوفمبر لِــ ” روث فيرست “. وسبب غموضها أنه بنى الفعل فيها للمجهول بدربته القانونية المعروفة حتى ضاع الأثر وغاب المذنب. فقد قال إنه قد اتفق ضمنياً للناس (من هم؟) في مناقشات استمرت لبضعة أسابيع صواب أن يتولى الجيش زمام الأمر. وقد كان أمر الجيش والحكم مما جرت الشورى حوله وتقليبه بين هؤلاء الناس. وقال القاضي إنه وضح من هذه المناقشات بين هؤلاء الناس أن حركة الجيش هذه ستكون موضع ترحيب ما. وليس واضحاً من عبارة أبي رنات طبيعة هذه الجماعة التي قَلَّبت أمر حركة الجيش، واستعدَّت لمباركتها متى وقعت.
غير أننا ربما لن نشتطّ إن قلنا إن القاضي ربما كان طرفاً في هذه الجماعة التي تدبر شراً للدستور الذي أقسم أن يصونه. فقد وجده زعيم من حزب الأمة مختلياً بالبِيْه ظهيرة اليوم الذي سبق الانقلاب. وتكرر ذكر اسم القاضي في روايات وشهادات عن الانقلاب وجده أهلها في مواقع للشبهة. فقد ورد أنه أوصل بعربته المرحوم اللواء حسن بشير، الرجل القوي في دولة نوفمبر، إلى منزل المرحوم أحمد خير في السابعة والنصف من صباح الانقلاب. وكان اللواء جاء لأحمد خير ليعرض عليه أن يكون مستشاراً قانونياً للانقلابيين. وقد تقدّم أبو رنات اللواء داخل المنزل. وألمح لأحمد خير بسبب الزيارة. لهذا لم يكن أحمد خير خالي ذهن عن عرض اللواء. وسمى أحمد خير هذا التلميح بالإنجليزية (hint). ورجَّح أحمد خير، أمام لجنة التحقيق الرسمية في دواعي الانقلاب، أن مجيء القاضي له صباح الانقلاب، كان ليدل اللواء على منزله. وهذا بمثابة تغطية لرئيس القضاء من تُهمة التآمر لخرق الدستور. ثم واصل أحمد خير، نفي الشبهة عن أبي رنات، رفيق سلاحه في نظام عبود، قائلاً إنه لا يعتقد أنه ممَّن علم بجذور الانقلاب، ولكنه كان مع ذلك، وثيق الصلة بعبود وحسن بشير. وأضاف أن هذه صلات قد تجعله أقدر منه ليدرك علم نفس الموقف السياسي وأغراضه آنذاك. وفي سياق هذه التبرئة لأبي رنات من وِزر التآمر للانقضاض على الدستور قال حسن بشير في أقواله للمحققين إنه جاء وحده لأحمد خير. ولكنه عاد ليقول للمحققين إنه وجد أبا رنات مع أحمد خير حين ذهب لعرض منصب المستشار القانوني عليه بأمر من عبود. وظل اسم القاضي يرد في أقوال الآخرين كلاعب ذي وزن في الانقلاب. فقال الدرديري محمد نقد للمحققين أن أحمد خير صَبِح ليلة الانقلاب مع العسكريين وقد صاغ لهم كل بياناتهم. وأضاف أن القاضي هو الذي زكَّى أحمد خير للعسكريين حين طلبوا منه أن يكون مستشاراً تقية منه حتى لا يُشاهد رجل في منصبه والتزاماته يُظاهِر على خرق الدستور.
جاء عند فيرست ما قد يضع النقاط على حروف أبي رنات المواربة عن أولئك الناس الذين تواثقوا على فكرة قلب نظام الحكم. فمن رأيها أن بريطانيا وأمريكا مالتا لفكرة الانقلاب في الدقائق الأخيرة لأن احتمالات استحواذ مصر على السودان بانقلاب يقوم به صغار الضباط، أو بتحالف الاتحادي مع حزب الشعب، وكليهما مصري الهوى، كانت تتزايد يوماً بعد يوم. وجاءت فيرست بما يشير إلى صلة واصلة بين الدبلوماسية الغربية والانقلابيين. فقد قالت: “ولما بلغ الأمر هذا الحد، لم يعد لبريطانيا وأمريكا وجه اعتراض على تدخل الجيش، فهما إما أصبحتا على الحياد بشأن تدخل الجيش، مما اعترضتا عليه قبلاً، طلباً لاستقرار الوضع السياسي، أو قد هجرتا بحماس موقفهما بشأن الانقلاب لاحتواء مطامع مصر وحِيَلها الحقيقية أو المتوهمة حيال السودان. وقد طمأنا الانقلابيين أنهما قد تبديان عدم ارتياح للانقلاب في الظاهر إلا أنهما راضيتان بقيام الانقلاب وما يعقبه”.
وعليه ليس صعباً الاستنتاج هنا أن هناك أكثر من جهة أوحت للجيش بالانقلاب. بل ربما كان الجيش هو من أوحى لنفسه بخرق الدستور واعتلاء سدة الحكم. فقال ف. بختولد، الذي كتب كتاباً حسناً عن السياسة السودانية، إن الجيش ربما استوحى الانقلابات الناجحة من حوله في مصر والعراق والباكستان. وزاد بأن الضباط السودانيين كانوا عقدوا أواصر مع باكستان في عهد أيوب خان. وربما أغرتهم هذه الأواصر للتحرك لأخذ الحكم عنوةً. بل قال اللواء أحمد عبد الوهاب إن أول أسبابهم للانقلاب كان هو “إحباط محاولات الضباط الصغار، الذين كانوا على وشك إحداث انقلاب قد يعود بنتائج سيئة”. وقال اللواء حسين على كرار أيضاً إنهم كانوا في سباق مع صغار الضباط ” لأنه إذا لم يعملوها، فلا بد أن الصغار سيعملوها”. وكان أخشى ما يخشاه هؤلاء الضباط الكبار أن يكون انقلاب الصغار لصالح مصر التي قال اللواء محمد أحمد التيجاني إن زيارات مسؤوليها للسودان قد تواترت. وتبقى شيء في نفس هؤلاء الضباط العظام من تهور صغارهم حتى بعد الانقلاب. فلما انقلب المرحوم المقدم على حامد ورفاقه على النظام في 1959 كان عبود، شديد الاقتناع بضرورة إعدامهم منعاً للفتنة. وقال للصحفي جعفر حامد البشير أنهم جاؤوا إلى الحكم وهم على أبواب المعاش وقد أسلس قياد الناس لهم بالنظر إلى خبرتهم الطويلة في أصقاع البلد، ومعرفتهم بطبائع الناس. وسأل جعفر: “فكيف بمصير البلاد الآن إذا وقع حكمها في أيدي شبان مغامرين، حديثي السن والتجربة والمسؤولية، لا يزيد بعضهم على رتبة الرائد؟”.

مولانا أبو رنات رئيس القضاء قبل وخلال فترة إبراهيم عبود

‫4 تعليقات

  1. شكلك يا عبد الله علي إبراهيم لم تجد وقتاً لتقرأ مجلدات “شذرات على هامش السيرة” لمنصور خالد عليه رحمة الله لترى كيف حدث ما يسمى إنقلاب 17 نوڤمبر 1958، لترى أن إنقلاب العسكر حدث حقيقة بعد ذلك، عندما خان العسكر – الذين تطبل لهم اليوم- العهد وآثروا الإستمتاع بالسلطة المدعومة بالسلاح والتي ، للمفارقة، أيدها حزبك وأستاذك عبد الخالق فيما بعد.

  2. نحن اسسنا الاتحاد الافريقي،،،،نحن دعمنا حركات التحرر الأفريقية، ،،نحن علمنا الأفارقة والعرب الكورة، ،،،نحن الشافو خلو،، ورجغ ورجغ ورجغ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..