مصر تحتاج إلى استكشاف كل خياراتها في القرن الأفريقي
من الخطأ الاعتقاد أن مصر حصرت كل خياراتها في منطقة القرن الأفريقي في سلة الصومال وحده، حيث طورت علاقاتها مع إريتريا وجيبوتي وكينيا والسودان، وعدد من الدول الواقعة في الفناء الخلفي لتلك الدول، لكن فُهم كل تقدم حدث مع هذه الدول وغيرها على أنه موجه ضد إثيوبيا كنوع من الضغط عليها لإبداء مرونة في أزمة سد النهضة، في حين أن غالبية دول المنطقة تحتفظ بعلاقات جيدة مع القاهرة وأديس أبابا أيضا، ويصعب أن تشارك أيّ منها في تحركات تضر بمصالح إحداهما، وهو ما يعلمه الطرفان اللذان عبّرت بعض التصورات والتوجهات والتصريحات الصادرة عنهما عن خصومة حدية، وأن الطريق بات مسدودا حول أيّ تفاهم بينهما.
لا تسعى مصر إلى عداوة دائمة مع إثيوبيا، ولا تريد الأخيرة تصعيدا يضر بمصالحها، وما ظهر الفترة في الماضية قد لا يعدو مناوشات يوحي من ورائها كل طرف أنه يملك أوراقا يستطيع بها الضغط على الآخر للتسليم برؤيته بشأن الموقف من سد النهضة.
مضى كل جانب في تبني سياسات تشير إلى أن الآخر هو المستهدف منها، فاقتراب القاهرة من مقديشو لم تجد أديس أبابا تفسيرا له سوى أنه موجه ضدها، ربما يكون ذلك صحيحا في جزء منه، لكنه يتزامن مع توجه مصري عام حيال القرن الأفريقي، بعد أن تسببت التطورات القريبة منه على الضفة المقابلة في تكبيد القاهرة خسائر باهظة لتعثر الملاحة في البحر الأحمر، وانخفاض عائدات قناة السويس.
◄ مصر تستطيع القيام باستدارة سياسية بحثا عن خيارات جديدة في منطقة القرن الأفريقي، لأنها دولة تؤمن بالمفاوضات، ومع أن هذا الطريق لم يكن منتجا في حالة إثيوبيا، إلا أن القاهرة تتمسك به
علاوة على تزايد تحركات بعض القوى الدولية في خليج عدن وجنوب البحر الأحمر بذريعة لجم تهديدات جماعة الحوثي في اليمن، وكل توجهات تشير إلى خسائر إستراتيجية يمكن أن تتكبدها مصر في المستقبل ما لم تكن لديها تصورات جاهزة للتعامل مع أيّ مفاجآت تنجم عنها لاحقا أشد صعوبة، ما زاد من الاهتمام بالقرن الأفريقي.
كما حرصت القاهرة على أن يكون لها وجود عملي على الأرض عبر المشاركة في قوات حفظ السلام الأفريقية في الصومال، وتقديم مساعدات عسكرية للحكومة المركزية في مقديشو بعد التوقيع على اتفاق تعاون عسكري، يتجاوز حدود قوات حفظ السلام، إذ تشارك مصر الصومال همّه في مكافحة الإرهاب.
إذا فهمت إثيوبيا هذه الرسالة جيدا يمكنها أن تتقاسم مع مصر والصومال هذا الهم، بينما إذا تخطته سوف يستمر الخلاف، وربما تتكاثر معالمه وتزداد حدته ويتسع نطاق سوء النوايا، وتبدأ المنطقة دخول دورة جديدة من التوترات، ما يجعل البلدان في حاجة إلى البحث عن تغيير في التكتيكات تنهي العقدة التي ضاعفت من الخلاف وخلقت مدخلا يتضافر مع أزمة سد النهضة.
يتمثل هذا المدخل في توقيع إقليم أرض الصومال مذكرة تفاهم مع إثيوبيا تحصل بموجبها الثانية على ميناء بحري وقاعدة عسكرية وتسهيلات لوجستية، وكلها رفضها الصومال، حيث لا يجوز للإقليم (شبه المستقبل) التوقيع على اتفاقيات مع أطراف خارجية من وراء ظهر الحكومة المركزية، والذي رفضته القاهرة وتضامنت مع موقف مقديشو، فبدأت سلسلة من التصعيدات بين مصر وإثيوبيا.
ماذا لو تصالحت أديس أبابا مع مقديشو، أو انفتحت القاهرة على أرض الصومال، هل تتغير المعادلة الراهنة في منطقة القرن الأفريقي، وتصبح الأطراف الأربعة على وفاق بدلا من شقاق يفضي إلى أزمات مركبة؟
قد تكون إثيوبيا بدأت حوارا غير مباشر مع الصومال عبر وساطة تركية، لم تحقق تقدما، وربما ماتت مبكرا، لأن كل طرف دخلها وهو على قناعة بأن موقفه صحيح، وغير مستعد لتقديم تنازلات، باعتبار أن التنازل تراجع أو اعتراف بالخطأ، في حين أن أنقرة قدمت حلا بمكن البناء عليه يتعلق بالحفاظ على وحدة الصومال، أي عدم الاعتداد بمذكرة التفاهم الموقعة بين أديس أبابا وهيرجيسا، مع إتاحة الصومال فرصة لمنح إثيوبيا منفذا بحريا بديلا، إلا أن الاقتراح وُئد، وتوقفت المفاوضات غير المباشرة.
ولماذا لم تفكر مصر في الانفتاح على إقليم أرض الصومال، مستفيدة من التطورات السياسية فيه بعد إجراء انتخابات بات مرشح المعارضة عبدالرحمن محمد عبدالله المعروف بـ”عبدالرحمن عرو” على وشك إعلان فوزه على الرئيس الحالي موسى بيهي، وهي فرصة لتجاوز المذكرة التي وقعها بيهي مع إثيوبيا في يناير الماضي.
◄ مصر لا تسعى إلى عداوة دائمة مع إثيوبيا، ولا تريد الأخيرة تصعيدا يضر بمصالحها، وما ظهر الفترة في الماضية قد لا يعدو مناوشات يوحي من ورائها كل طرف أنه يملك أوراقا يستطيع بها الضغط على الآخر
وكذلك الاستفادة من المرونة النسبية التي أبداها زعيم المعارضة (الرئيس المحتمل) بشأن عرض الاتفاق على البرلمان الجديد، والذي قد يكون مخرجا لتجاوز العقبة، وطيّ صفحتها، خاصة أن القاهرة تميل دوما لتغليب الحلول التفاوضية في الأزمات الإقليمية، ولديها من التاريخ والخبرات والمقومات ما يؤهلها لإعادة استكشاف إقليم أرض الصومال، الذي يصعب أن يحصل على اعتراف دولي بعد فشل أكثر من ثلاثة عقود.
كما أن الهزيمة المتوقعة للرئيس بيهي يعتبرها الكثيرون هزيمة سياسية للاتفاق الذي وقّعه مع أديس أبابا، وهي فرصة لمقديشو لتبدأ صفحة جديدة مع هيرجيسا وتسوية الخلافات بينهما، لأن بقاء الوضع الحالي وما ينطوي عليه من انفصال ضمني ليس في مصلحة منطقة تزخر بأقاليم شبه مستقلة يبحث بعضها عن الاستقلال الكامل، لكن الكوابح الإقليمية العديدة تقف حائلا دون ذلك.
يمكن أن تسهم مصر بدور فاعل في تسويات تنطلق من قواعد متينة، تحافظ على تماسك الدول ووحدتها وتمنح قدرا من الاستقلالية لبعض الأقاليم المستقرة التي لها خصوصية سياسية وأمنية واجتماعية في إطار الدولة الواحدة، وهو توجه قد تكون إثيوبيا من أكبر المستفيدين منه، لأن التوترات العرقية في أقاليمها قد تكرر سيناريو أرض الصومال، والذي فشل في انتزاع اعتراف رسمي باستقلاله من إثيوبيا، وهو الشرط الذي وضعته هيرجيسا لمنح أديس أبابا قاعدة بحرية جنوب البحر الأحمر.
تستطيع مصر القيام باستدارة سياسية بحثا عن خيارات جديدة في منطقة القرن الأفريقي، لأنها دولة تؤمن بالمفاوضات، ومع أن هذا الطريق لم يكن منتجا في حالة إثيوبيا، إلا أن القاهرة تتمسك به، لأن هناك اعترافا في كواليسها بتعاملها بحسن نية مع أديس أبابا لفترة طويلة، وعندما انتبهت للفخ كانت إثيوبيا قطعت شوطا كبيرا في تحويل سد النهضة إلى أمر واقع، وكسبت تعاطف بعض الدول عقب ترويجها له باعتباره مشروعا تنمويا فقط دون حديث عن أصل الخلاف مع مصر وهو التمسك بالثوابت التاريخية والتوقيع على اتفاق يقنّن عمليات الملء والتشغيل بما لا يوقع ضررا مائيا بمصر ما يفرض على القاهرة مراعاة الأخطاء التي وقعت فيها إذا قررت الانفتاح على هرجيسا للحفاظ على وحدة الصومال وتنويع خياراتها في القرن الأفريقي.
العرب