يوسا يعيد اكتشاف الاسباني غالدوس شبيه بلزاك وديكنز
رواياته فريدة في تصويرها التفصيلي للحياة واستكشافها الطبيعة البشرية
لنا عبدالرحمن
كان بينيتو بيريز غالدوس (1843 – 1920) كاتباً سيكولوجياً من الطراز الأول، لا يُضاهى في تحليل الطبقات الاجتماعية، ومبدع ملحمة من الروايات الأدبية، بحيث تبدو كل رواية جزءاً مكملاً للآخر، وكأنه يعمل على الدمج بين الدراما والكوميديا الإنسانية ببراعة.
يغوص يوسا النوبلي البيروفي، في عمق الإبداع الأدبي لغالدوس، قائلاً: هو أول كاتب محترف في إسبانيا، وهو الشخص الذي عرف كيف “يروي عبر أعماله التاريخ والواقع الاجتماعي لبلاده”، قرأ يوسا جميع أعمال الكاتب الإسباني خلال فترة الحجر الصحي في 2020- 2021، لذا يقدم لنا بدقة لا مثيل لها رؤية تحليلية نافذة لأعمال غالدوس. فمن غير ماريو بارغاس يوسا يستطيع التقاط التفاصيل الدقيقة للكاتب، الذي اعتُبر “مرآة” المجتمع الإسباني، المراقب الحاد، والرسام المبدع للملامح الإنسانية، والناقد السيكولوجي الرهيف؟ ومن هنا تأتي تلك الانطباعات بأنه يلتقط التفاصيل الإسبانية بنظرة هادئة، كي يعطي رؤية أكثر دقة وموضوعية.
تتداخل رؤية يوسا الإبداعية مع نثر بيريز غالدوس العميق، لتخلق حواراً ذكياً، واضحاً، بعيداً كل البعد من الحديث الأدبي التقليدي والممل، إذ يرى يوسا: “أن بينيتو بيريز غالدوس، كان في مستوى السمعة الأدبية الرفيعة التي اكتسبها، واستحقها بلا منازع”.
وُلد غالدوس في عائلة من الطبقة المتوسطة، وطور منذ صغره اهتماماً بالأدب والموسيقى والفن. بعد إكمال دراسته الأولى في جزر الكناري، انتقل إلى مدريد عام 1862 لدراسة القانون، إلا أنه سرعان ما تحول نحو الكتابة. بدأ مسيرته كصحافي، مما أتاح له فرصة مراقبة المشهد الاجتماعي والسياسي المعقد لمدريد عن كثب. وقد أثر هذا التعرض بشكل عميق على رواياته اللاحقة، حيث قدم من خلالها تصويراً للمجتمع الإسباني بواقعية ونقد دقيق.
توثيق التاريخ
تُعتبر سلسلة “الحلقات الوطنية” لغالدوس، المؤلفة من 46 رواية، من أعظم إنجازاته، حيث تُغطي التاريخ الإسباني من معركة طرف الغار عام 1805، وحتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقد تأثر فيه بتقليد السير والتر سكوت، حيث جمع بين الشخصيات التاريخية والخيالية، ليروي أحداث التاريخ الإسباني، من الغزو النابليوني إلى سقوط الملكية، وظهور الجمهورية الإسبانية الأولى.
كان هدفه من هذه السلسلة ليس فقط توثيق الأحداث، بل تقديم نظرة سياسية وأخلاقية، من خلال أعين شخصياته، منح غالدوس القراء إحساساً عميقاً بالهوية الإسبانية، وصراعات الاستقلال، والتناقضات في المجتمع.
إضافة إلى أعماله التاريخية، كتب غالدوس أكثر من 30 رواية معاصرة تتناول حياة الناس العاديين، صور خلالها الظلم الاجتماعي، والنفاق، والأزمات الأخلاقية التي تعصف بالمجتمع الإسباني. روايات مثل “ميريسيورديا” و”دونا بيرفيكتا” و”ماريانيلا”، تتميز بأسلوبه الواقعي الحاد، إذ تجمع بين تحليل سيكولوجي مُفصل للشخصيات، ونقد للمعتقدات السائدة.
أعمال غالدوس، مع ذلك، ظلت غير معروفة بشكل جيد في فرنسا، حيث لم يُترجم سوى 5 من أصل 46 من “الحلقات الوطنية” التي كتبها، والتي يقوم فيها، متأثراً بوولتر سكوت، بدور المؤرخ لإسبانيا بين عامي 1805 “معركة طرف الغار” و1880 “نهاية الجمهورية الإسبانية الأولى”. عند قراءة هذه “الحلقات”، المتوافرة بالفرنسية، يحضر إلى الذهن، ليس فقط وولتر سكوت ووقائع التاريخ الإسكتلندي، بالزوجة والعشيقة
تعد رواية غالدوس الأشهر “فورتوناتا وجاسينتا”، التي نُشرت عام 1887، من أعظم الأعمال في الأدب الإسباني، وغالباً ما يعتبرها النقاد تحفته الكبرى. تدور أحداث الرواية في مدريد، وتحكي قصة جاسينتو سانتا كروز، وعلاقته بزوجته جاسينتا، وعشيقته فورتوناتا. تزوج البطل من جاسينتا، وهي ابنة عائلة راقية مثل عائلته، لكن فورتوناتا، العشيقة، مجرد فتاة من العامة وشبه أمية، لكنها أنجبت له الطفل الذي حلم به، وهو الأمر الذي لم تستطع جاسينتا تحقيقه. يهجر جاسينتو فورتوناتا عدة مرات، ويعود إليها، ويخونها مجدداً. ويفعل الشيء ذاته مع زوجته. ومن خلال هذه القصة، يستكشف غالدوس موضوعات الحب، وصراع الطبقات، والخيانة، والصعود الاجتماعي، مما يعكس تعقيدات الحياة الإسبانية في القرن التاسع عشر. تتميز الرواية بعمقها النفسي، وتقديمها بانوراما اجتماعية، تجعلها في مصاف الروايات الأوروبية العظيمة.
تميز أسلوبه الكتابي بالسخرية والفكاهة التي على رغم متعتها، تُقدم تعليقات اجتماعية حادة، ومثل بلزاك، استخدم غالدوس في كثير من الأحيان اللهجات المميزة، والتعابير اللغوية المختلفة، لتصوير التنوع داخل المجتمع الإسباني، مما جعل شخصياته حية وقريبة من القراء.
على رغم نجاحه، واجه غالدوس انتقادات كثيرة في إسبانيا بسبب آرائه التقدمية، حيث كان يدعو إلى علمانية إسبانيا، ودعم تحولها نحو الديمقراطية الحديثة. وقد انعكست هذه الآراء في رواياته التي غالباً ما تنتقد الكنيسة والأرستقراطية، والعناصر المحافظة الأخرى في المجتمع الإسباني، مما جعل بعض أعماله تُمنع من بعض المكتبات، بسبب تصويرها النقدي للقيم المجتمعية.
يتساءل يوسا هل تُعتبر “فورتوناتا وجاسينتا” أعظم رواية لغالدوس؟ ثم يجيب على هذا التساؤل قائلاً: “بلا شك”. هل هي أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر، في منافسة مع “لا ريخينتا” لكلارين، نعم، وبلا شك أيضاً. هذا على الأقل ما يعتقده ماريو فارغاس يوسا.
الحلقات الوطنية
يعتمد أسلوب غالدوس في “الحلقات الوطنية”، على قراءات متعددة، وعلى وثائق منقّبة، ليقدّم لنا تاريخاً حياً ومشوقاً لحقبة غابرة. كان غالدوس يكتب بسرعة، ويكتب كثيراً، ونادراً ما كان يراجع أعماله. لذا نجد في أعماله، التي درسها فارغاس يوسا بعناية، عدداً من الحكايات غير الضرورية، حيث تنجرف الحبكات إلى الغرابة، بخاصة عندما يجرب الكتابة الخيالية، ما يجعل الروائي البيروفي يجد أحياناً صعوبة في تلخيصها من دون الوقوع في الابتذال.
استطاع غالدوس من خلال واقعيته أن يعكس الأبعاد الاجتماعية لحياة مدريد والمجتمع الإسباني الأوسع. صور الطبقات الاجتماعية المختلفة، من الأرستقراطية إلى الطبقة العاملة، مما أتاح للأصوات، التي تم تجاهلها في الأدب من قبل، أن تجد مكاناً لها في أعماله. كانت شخصياته واقعية ومعقدة، تواجه أزمات أخلاقية تعكس تعقيدات الطبيعة البشرية.
وعلى رغم أنه يُعد من أعظم المؤلفين في إسبانيا، فإن أعماله لم تحظَ في البداية بالاهتمام الدولي الذي تستحقه، وذلك بسبب قلة الترجمات. لكن الاهتمام المتجدد بأعماله في السنوات الأخيرة أدى إلى ترجمة عدد من رواياته المهمة، بما في ذلك “فورتوناتا وجاسينتا” و”ميريسيورديا” و”دونا بيرفيكتا”، كي تصل إلى جمهور أوسع، ويزداد تقدير النقاد والأكاديميين لغالدوس، باعتباره شخصية أساسية في الأدب العالمي، ترك وراءه إرثاً أدبياً زاخماً وثرياً، يلتقط بجوهره النابض ما يُسمى الحياة الإنسانية الزاخمة والمتدفقة.
إندبندنت عربية