روسيا إذ تناهض الاستعمار في السودان
أرنست خوري
تستحق القيادة الروسية في عهود فلاديمير بوتين عن جدارة لقب بطلة العالم في تسخيف اللغة والأفكار، حيث تنشّط آلة حربها وتوقع قتلى لا يستسيغ كثر استفظاع قتلهم، بما أنّ لا يد لأميركا وحلفائها في الجريمة. ولكثرة ما تردّد البروباغندا الروسية مصطلحات خطيرة من دون سياق ولا مناسبة، أو بما يناقض ما يقوله المعجم، فإن تلك المفردات تصبح تافهة ممجوجة. يحصل ذلك مع كلمة “النازيين الجدد” الذين ليسوا سوى الأوكرانيين الذين يرفضون أن تحتلهم روسيا ويتمسّكون باستقلالهم وحريتهم. يتكرّر الأمر مع “الإرهابيين الإسلاميين”، أي السوريين المنتفضين على الجحيم الأسدي. أما أحدث فصول الانقلاب الروسي على المصطلحات، فقد استعرضها نائب المندوب الروسي في مجلس الأمن ديمتري بوليانسكي، مساء أول من أمس الاثنين، في نيويورك، عندما أراد تبرير استخدامه “الفيتو” لإسقاط مشروع قرار صاغته بريطانيا وسيراليون ووافقت عليه الدول الـ14 في المجلس (جميع الأعضاء ما عدا روسيا)، ويدعو، من بين أمور عدّة، إلى وقف الحرب في السودان. تبرير الفيتو عند بوليانسكي: يجب عدم فرض مجلس الأمن وقف الحرب “بطريقة استعمارية تحقّق ما تريد بعض الدول الأعضاء أن تكون عليه صورة الدولة (السودان) ومستقبلها”. ولتفسير سبب أن بريطانيا هي أحد البلدين اللذين قدّما مشروع القرار، رمى بوليانسكي ما له مفعول السحر في الأدبيات العالمثالثية التي لم تدرك بعد أن العالم تغيّر، وأن الاستعمار انتهى منذ عقود. الديالكتيك ربما جعل السيد بوليانسكي يكتشف أن بريطانيا تريد من تمرير مشروع القرار “تحقيق نقاط أمام الجاليات السودانية والناخبين في المملكة المتحدة”، مع أن لا انتخابات هذه الأيام هناك ولا لوبي سوداني معتبر في ذلك البلد، ودياسبورا السودانيين منقسمة ولاءاتها بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) أو ضدهما.
إنها قصة مناهضة استعمار بالنسبة إلى الروس إذاً، تحرّضهم على رفض “دعوة طرفي الحرب السودانية إلى عدم استخدام العنف الجنسي تكتيك حرب، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية”، في بلد يواجه فيه نحو 26 مليون شخص انعداماً حادّاً في الأمن الغذائي. هي مناهضة الاستعمار تدفع إلى رفض “دعوة المتحاربين إلى الدخول في حوار بحسن نية، والاتفاق على هدن إنسانية وترتيبات مستدامة”، وتحتّم وأد نصّ يدعو “الدول الأعضاء إلى الامتناع عن التدخل الخارجي الذي يؤجج الصراع”. محاربة الاستعمار إياها توجب على دبلوماسي، مثل بوليانسكي، قضى وقتاً معتبراً في جلسة مناقشة مشروع القرار وهو يلهو أو يوحي وكأنه يلهو بهاتفه، أن يرفض باسم حكومته “إدانة الهجوم المستمر الذي تشنه قوات الدعم السريع في الفاشر، ويطالب قوات الدعم السريع بوقف جميع هجماتها ضد المدنيين في دارفور والجزيرة وسنار وأماكن أخرى في السودان على الفور” بحسب أحد بنود مشروع القرار المذبوح.
تدرك روسيا أن صدور قرار عن مجلس الأمن لم يكن ليغيّر على الأرجح شيئاً من مأساة ذلك البلد، فقد سبق لمجلس الأمن أن دعا في مارس/ آذار الماضي إلى وقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان. كذلك في يوليو/ تموز، طالب المجلس مليشيا الدعم السريع بإنهاء حصار الفاشر في إقليم دارفور، ومعروف ما كان مصير الدعوتين اللتين امتنعت روسيا عن التصويت عليهما. ولكن روسيا رغبت من خلال استخدام حق النقض إرساء قواعد لغوية لسياساتها حيال جنوب العالم: ضع مناهضة الاستعمار الغربي على لسانك وافعل ما شئت. قل إنك متيّم بأفريقيا وبشعوبها إلى درجة أنك مستعد لإرسال سفن القمح بالمجان إليهم، ثم اسرق ذهبهم وثروات بلادهم عبر عصابات فاغنر. ثرثر عن مساوئ الإمبريالية لتحتلّ حلب ودرعا على بُعد آلاف الأميال من روسيا، فهناك، طموحات التوسع تسمّى إعلاءً لصوت الجنوب، والمصالح الروسية تُوصف بأنها ضمانة للأمن والاستقرار. أما الاستعمار والإمبريالية فمعناهما أن تكتب مشروع قرار يدعو إلى وقف حرب السودان.
العربي الجديد