خط السكة الحديدة الأول بالسودان
بد الدين حامد الهاشمي
The First Sudanway
ريتشارد هيل Richard Hill
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشميتقديم: هذه ترجمة صفحات عن تاريخ إنشاء أول خط للسكة الحديدة في السودان، وردت في كتاب المؤرخ البريطاني ريتشارد هيل “المواصلات في السودان Sudan Transport”، الصادر عام 1965م(صفحات 8 – 17). وسبق لنا نشر جزء من هذا المقال، وهنا ننشره كاملاً بعد إدخال بعض التصويبات على ما سبق نشره.
ومؤلف الكتاب هو البريطاني ريتشارد ليزلي هيل (1901 – 1996م) هو مؤرخ مختص بتاريخ مصر والسودان والشرق الأوسط، نشر عدداً من أمهات الكتب عن تاريخ السودان منها “قاموس الشخصيات السودانية” و”مصر في السودان” و”المواصلات في السودان”، وهو من أنشأ “أرشيف السودان بجامعة درم البريطانية”. ونشر ريتشارد هيل – بالاشتراك مع بيتر هوق – كتابه الأخير المعنون “صفوة الفيلق الأسود: كتيبة المجندين المصريين -السودانيين مع الجيش الفرنسي في المكسيك، 1863 -1867” وقد تجاوز عمره 94 عاماً. وله أيضاً عدد من المقالات عن سكك حديد السودان منها مقال نُشِرَ عام 1945م عنوانه: “سكك حديد السودان، 1875م: مقدمة”. وكان الرجل قد قدم مصادفةً للسودان عام 1927م ولكنه بقي به للعمل موظفا في مصلحة السكة حديد، وتقاعد منها في عام 1945م. وأقام في غضون سنوات عمله بالسكة حديد علاقة صداقة مع مؤرخين من الهواة لهما نفس الاهتمام بتاريخ السودان هما المصري الشاطر بصيلي عبد الجليل والسوداني محمد عبد الرحيم (الباشكاتب بالسكة حديد). ثم التحق بعد تقاعده بقسم التاريخ بكلية الخرطوم الجامعية لمدة أربع سنوات، آب بعدها لبريطانيا للعمل في جامعة درم البريطانية.
المترجم
******** ******** ********
إن رُسِمَتْ على خريطة جميع خطوط السكك الحديدية التي كان قد خُطِّطَ لها في السودان فإن النتيجة سوف تكون أشبه بشبكة صيد السمك.
وكان والي مصر محمد علي باشا قد شرع منذ عام 1837م في التفكير في إمكانية تشييد خط للسكة الحديد ينقل به رواسب الحديد الخام من كردفان إلى محطة شحن ملائمة على النيل الأبيض. غير أنه علم بأن عملية شحن ونقل القضبان الحديدية ومهمات السكك الحديدية (rolling stock) مثل القطارات والعربات والناقلات في بعض الأماكن على ظهور الإبل عبر الصحراء من كورسيكو أو سواكن ستكون عملية شاقة وباهظة الكُلْفَةُ المادية.
ولم يكن الوالي العجوز قد رأي أي خط للسكة حديد من قبل، لذا لجأ لطلب النصح من مستشاره موريس أدولف لينان دو بلفون Adolphe Linant(المعروف بلينان باشا، وهو مهندس ومستكشف فرنسي، شغل وظيفة كبير المهندسين بالأشغال العمومية في مصر بين عامي 1831 و1869م، ثم وزيراً للأشغال العمومية بها. المترجم)، الذي سبق له القيام بمسح مناطق الصحراء الشرقية بالسودان (التي تعرف محلياً بـ “أتباي Atbai”). وسعى لينان باشا لصرف نظر الوالي عن تلك الفكرة، وأقترح عليه إقامة خط حديدي من وادي النيل إلى البحر الأحمر عوضاً عن خط حديدي يوازي وادي النيل بين السودان والبحر الأبيض المتوسط. وذكر بلينان للوالي إنه يمكن بناء واحد من خطين: الأول منهما يمتد من سواكن إلى بربر، والثاني من سواكن إلى شندي، عبر نهر أتبرا في قوز رجب. وبعد عام من ذلك زار محمد علي باشا بنفسه السودان، وكان منشغلا وقتها بالبحث عن الذهب فلم يعد يفكر في إنشاء ذلك الخط الحديدي.
وبُنِيَ أول خط سكة حديد في مصر من الإسكندرية حتى القاهرة بين عامي 1853 و1856م، ومُدَّ إلى السويس في عامي 1856 و1857م. وأشار المستكشف الإيطالي أنطوني برون روليت Antonie Brun – Rollet (1807 – 1858م) في كتاب أصدره بباريس عام 1855م لصعوبة زيادة التجارة مع السودان من دون إقامة سكك حديدية به، إذ أن سفر الأفراد من أسوان إلى سنار يستغرق عادةً نصف شهر، وأن نقل البضائع بين المدينتين قد يأخذ نصف عام كامل. وذكر ذلك المستكشف أن إقامة خط حديدي بين أسوان ومديرية بربر سيكون أكثر فائدةً لمصر من تشييد قناة بالسويس ستستفيد منها أوروبا بأكثر مما تستفيده مصر. ولَمَّحَ الخديوي محمد سعيد إبان زيارته للسودان في شتاء 1856م في عدد من المرات، وبصورة غامضة، إلى ضرورة تشييد خط للسكة حديد بالسودان.
وكان تولي إسماعيل باشا حكم مصر في عام 1863م قد منح بعض الأمل في أن الاتصالات في السودان لن تُهمل بعد الآن. وبناءً على مبادرة الخديوي الجديد، تم تشكيل شركة السودان لبناء السكك الحديدية وإطلاق السفن البخارية النهرية في السودان بالإضافة إلى تطوير الصادرات السودانية. وبدأت الشركة أعمالها برأس مال مدفوع قدره مليوني جنيه مصري (ج م)، تم الاكتتاب في ثلثيها مِنْ قِبَل بيوت التمويل في الإسكندرية وأوروبا. كانت الاستجابة فورية وكان المال فائضاً عَنِ الْحَاجَةِ. ومع ذلك، أثبتت عمليات الشركة التجارية في السودان فشلها المالي. وبحلول عام 1868، صُفِيَتْ تلك الشركة، وبقي أمل إقامة سكك حديدية في السودان بعيد التحقيق، كما كان دوماً.
أدرك إسماعيل باشا أن في البحر الأحمر إمكانية بناء اتصالات مباشرة مع السودان بأكثر مما هو متوفر عبر وادي النيل. ولكن، بسبب أن حكومة الخلافة العثمانية كانت تسيطر بصورة مباشرة على مينائي سواكن ومصوع، فلم يكن من المستطاع إقامة سكك حديدة بهما؛ لأنه إن أصبح أي منهما محطةً نهائية (terminus) للسكك الحديدية فإنها سوف تكتسب أهمية كبيرة بحيث لن يكون السلطان العثماني على استعداد للتنازل عنها لمصر. وإلى جانب ذلك، فقد كتب إسماعيل باشا بحكمة في عام 1864م، ما يفيد بأنه في زمن الحرب قد يُغْلَقُ البحر الأحمر أمام السفن المصرية، في حين أنه لا يوجد في طريق وادي النيل أي خطر من اعتراض أو تدخل أي عدو.
وفي عام 1864م وصل إلى أسوان خبيران بريطانيين في مجال المساحة. وكانا يعملان في شركة وارنق بروزرس (Waring Brothers) بلندن التي كان إسماعيل باشا قد تعاقد معها لمسح المنطقة التي سيُمَدُّ عبرها خط السكة حديد إلى السودان. وقام المساحان باستطلاع سريع لطريق يمتد على طول الضفة الشرقية للنيل من أسوان إلى كورسكو، ثم عبرا الصحراء إلى منطقة “أبو حمد”، وواصلوا السير حتى شندي على طول مسار السكك الحديدية الحالية. ومن هناك عبر المساحان النيل إلى المتمة حتى بلغا بيوضة. ثم آبا إلى مصر عن طريق دنقلا ووادي حلفا، التي بلغاها في فبراير 1805م. وفي تقريرهما آثر المساحان باريBray ووكرWalker إقامة سكة حديدية من أسوان إلى كويا (Koya) في دار السكوت. ومن كويا سيسير خط السكك الحديدية فوق جسر إلى الضفة اليسرى من النيل إلى “أبو دوم” (1) حيث سينعطف الخط إلى الداخل ويسير عبر بيوضة إلى المتمة. واستنتج المساحان أنه باتباع الآبار في البيوضة سيكون هناك ما يكفي من المياه تحت الأرض لتزويد القاطرات والماشية والرجال. وقدرا أن التكلفة التقريبية لإقامة ذلك الخط تفوق تسعة ملايين ج م، وسيستغرق تنفيذ المشروع من 6 إلى 10 سنوات.
ولم يكن الخديوي إسماعيل غافلاً عن احتمال أن يكون لخط حديدي يبدأ من البحر الأحمر فائدة لمصر؛ لذا أسند في عام 1868م لمهندس مصري اسمه حسن بيه الدمياطي عمل مسح مبدئي لخط سكة حديد من سواكن إلى خور لانقيب، ومنه إلى كسلا. وفي نفس الوقت نالت شركة الملاحة البخارية “العزيزية مصر” امتياز تشييد خط سكة حديد من الخرطوم إلى سواكن ومصوع. وفي عام 1867م قدم إسماعيل باشا مصطفي الفلكي ناظر مدرستي المهندسخانة والمساحة بالقاهرة مشروعا بديلاً لخط حديدي يربط ما بين سواكن وشندي. وفضل الفلكي في تقريره أن يسير خط السكة حديد من سواكن بجانب الطريق البري (لقوافل الجمال)، وهو نفس الطريق الرابط بين سواكن وبربر في عام 1885م، والذي لم يصب نجاحاً يذكر (2).
ومثل الشلال الأول في أسوان عقبة كداء أمام عمليات الشحن، خلا في الأشهر التي يفيض فيها النيل. وفي عام 1864م طلب الخديوي نصيحة المهندس المدني البريطاني (سير) جون هووك شو (Hawkshaw) فيما يتعلق بإمكانية فتح ذلك المسار للملاحة. وتولى الفنيون العاملون مع هووك شو مهمة مسح الموقع وقدموا له تقريراً بالنتائج التي حصلوا عليها. ورفع هووك شو ذلك التقرير للحكومة المصرية، وكان يتضمن اقتراحاً بإقامة قناة ملاحية (ship canal) تصلح لمرور السفن. وبغض النظر عما كان السير جون فاولر (Fowler)، المهندس المدني الإنجليزي والمتخصص في بناء السكك الحديدية والبنية التحتية للسكك الحديدية (ومستشار الخديوي الهندسي) يعتقده من ضعف فني في خطة هووك شو، وأن تقديراته للتكلفة المالية غير دقيقة، فقد رفض فاولر التصميم الذي قدمه هووك شو لقناة مرور السفن تلك. وعوضاً عن اقتراح هووك شو، قدم فاولر في يناير 1873م تقريرا لوزير الأشغال العامة اقترح فيه تشييد منحدر أو ممر للسفن (ship incline or slipway) عبر الشلال الأول، وهو تصميم يتضمن مد خط سكة حديدية محمولة على سفن بطول حوالي 3 كيلومترات (كم). وفي ذلك التصميم كان من المقرر أن تطفوا السفن على حاملات على السكك الحديدية، ثم تُنْقَلُ عبر البر بواسطة محركات هيدروليكية ثابتة. ومع ذلك، تبنى تقرير فاولر أكثر من مجرد منحدر للسفن في أسوان؛ بل تضمن مشروعاً (متكاملاً) للسكك الحديدية في السودان.
واختار فاولر وادي حلفا، عند الطرف الجنوبي لنهر النوبة، مقراً ومحطة شمالية أولى للسكك الحديدية المقترحة التي ستتبع الطريق الذي كان المساحان باراي ووكر قد اقترحاه من قبل إلى كويا. ومن هنا سيعبر الخط النهر على جسر من ثلاث عوارض حديدية ويتبع الضفة اليسرى للنيل إلى الدبة. ثم يترك الخط النهر ويمضي في طريقه إلى الجنوب الشرقي عبر بيوضة حتى يصل إلى المتمة، وهي المحطة النهائية التي اقترحها من قبل باري ووكر. وبعد أن أضاف المصريون لاحقاً دارفور إلى مملكتهم، وسعت مسوحات فاولر نطاق مشروع السكك الحديدية فأضافت إليها تلك المديرية الجديدة. وبموجب الاقتراح المنقح، سيمتد خط السكة الحديدية إلى الداخل من الدبة، حتى وادي الملك والستير el – soteir، وسيكون تقاطعاً للخطين: أحدهما سيمتد عبر أم بادر إلى الفاشر (المقر الإداري لدارفور)، بينما يقطع الآخر بيوضة، ليس إلى المتمة كما كان مقرراً من قبل، بل لمنطقة مناسبة أكثر تقع على النيل الأبيض بالقرب من الخرطوم، بمنطقة بعيدة عن الشلال السادس تقع أعلى النهر. ومما يؤسف له أن كل تلك المشاريع المشاريع الضخمة لم تتحقق على أرض الواقع، ولم تثمر عن شيء سوى كتابين بائسين ألفهما مهندسا مساحة عملا في تلك المشاريع.
غير أنه من ناحية أخرى، يمكن أن نعتبر مثل ذلك التقرير كان له عظيم الأثر على مستقبل السكة حديد في السودان. فقد كان فاولر قد نصح باستخدام خط حديدي بمقياس/ عرض gauge 3.5 قدم (1.06 م)، واقترح أن يمضي خط السكة حديد عبر السودان إلى مصوع أو لأي منطقة أخرى على البحر الأحمر تخضع لحكم الخديوي، بالإضافة لتوفير بواخر نيلية سريعة يمكن حملها بسهولة فوق ما أقترحه من منحدر أو ممر السفن في أسوان. وكان من شأن ذلك تقديم خدمات سريعة لحمل الركاب والبريد والبضائع بين الإسكندرية والبحر الأحمر كانت ستوفر أياماً عند المقارنة مع الترحيل عبر قناة السويس.
وأعجب الخديوي إسماعيل أيما إعجاب بتقرير فاولر، وقبله منه، وأمر بتعيينه مستشاراً هندسياً له. وأمر كذلك بطبع نسخ من ذلك التقرير وتوزيعه على كل المسؤولين بالسودان. ومنح الخديوي شركة هندسية في لندن (هي أبليبي إخوان Appleby Brothers) عقداً لتوريد القضبان الحديدية والآلات المتحركة (rolling stock). وكخطوة أولى لبناء منحدر للسفن، بُنِيَ خط سكة حديد بعرض 3 أقدام و6 بوصات في عام 1874م من الشاطئ عند أسوان إلى الشلال، على مسافة 14.5 كم، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من سكة حديد السودان حول الشلال الأول. وبُدِئَ في العمل عام 1873م في بناء مستودع ومسار للسكك الحديدية في “أنقاش Anqash”، وهو موقع يقع إلى الشمال قليلاً من قرية وادي حلفا القديمة.
وفي تلك الأيام أجبرت الأحول المالية والاقتصادية المتردية الحكومة المصرية على تقليص التصميم الأصلي الذي قدمه فاولر. وصار الهدف الأقرب للتحقيق هو أمبيكول Ambigo، الواقعة على بعد 266 كم من وادي حلفا، وذلك تحاشياً لثلاثة شلالات معيقة للملاحة؛ وذلك باستخدام عبارة بخارية عوضاً عن بناء كبري كويا. وبناءً على ذلك، كان على فاولر مراجعة التكلفة الكلية للمشروع. وبالفعل قلص فاولر ميزانية المشروع إلى 1,421,000 ج م؛ منها مبلغ 674,000 ج م تدفعه مصر نظير المواد المجلوبة من الخارج لإقامة المشروع، بينما كان على السودان أن يتولى – من موارده الذاتية – توفير الأيادي العاملة (من أفراد الجيش بالسودان)، وعربات النوم الخشبية، ودفع تكاليف عمليات التفتيش والترحيل لجنوب وادي حلفا. وكانت جملة ما على السودان دفعه نظير كل ذلك هو 747,000 ج م.
وتقرر في ديسمبر من عام 1874م تعيين شاهين باشا جني مسؤولاً إداريا لعملية تشييد السكة حديد، مع رجل إنجليزي اسمه كيلقور Kilgour ليشغل وظيفة كبير المهندسين. واُنْتُدِبَ للعمل في المشروع مصريان (هما محمد صدقي أفندي ونجيب أفندي) كانت لهما خبرة واسعة في السكة حديد. ولم تكن مهمة شاهين باشا مهمةً فنية، بل كانت تتعلق بالتنسيق بين سلطات المديريات بصعيد مصر والسودان، والعمل مسؤولاً عن شؤون التوظيف للعمالة المحلية. ورافق شاهين باشا فاولر وكيلقور بوادي حلفا في يوم 15 فبراير 1875م حين أُقِيمَ احتفال بمناسبة افتتاح السكة حديد. وكان ذلك يوماً هبت فيه رِيح عجاج عَصُوف. وأخفق شاهين في توظيف أكثر من 150 رجلاً من منطقة وادي حلفا. ولو كان قد سعى لتوظيف “صعايدة” من جنوب مصر للعمل في ذلك المشروع عن طريق السُخْرَة (Corvée)، فإن ذلك كان سيكلف الكثير (؟ المترجم). وما هو أسوأ من ذلك، لم تكن حلفا ودنقلا من المناطق التي تُمَارَسُ بها أعمال السُخْرَة كما هو الحال في مصر. ونظراً لأنه سيتطلب الأمر ما لا يقل عن ألف رجل لتكملة الخط الحديدي حتى “العقبة” (14 كم فقط، حيث تبدأ حدود دنقلا)، اقترح شاهين على السلطات المحلية في وادي حلفا ودنقلا تعيين وكلاء لتجنيد الرجال في المنطقة (بمعدل رجل واحد من كل ساقية). وأُحْضِرَتْ قسراً جماعة من الرجال إلى وادي حلفا وبُدِئَ في مد الخط الحديدي. وبحلول العاشر من أبريل، تم وضع 8 كيلومترات من السدود وأُكمل تشييد مبنى الرئاسة. وأثنى الخديوي إسماعيل على شاهين باشا لنجاحه في أداء أعماله.
واحتج سكان وادي النيل من حلفا إلى دنقلا على تلك السُخْرَة وقدموا التماساً إلى القاهرة. وبينما كانت المناقشات جارية بين الحكومة المصرية وإدارة السكة الحديد في وادي حلفا، اكتشف المهندسون فجأة صخوراً صلبة في “العقبة” كان تكسيرها يتطلب وجود أدوات لم تكن متوفرة بالبلاد ولا بد من استيرادها من الخارج. وهذا ما دعا لإيقاف العمل في المشروع والاستغناء عن العمال؛ وبذا حُلَّتْ مشكلة العمالة اليدوية في ذلك الأيام. وفي يوم 31 مايو قدم شاهين للخديوي في القاهرة استقالته من وظيفته، فقد كانت أزمة جلب العمالة شديدة الوطأة عليه. غير أن الخديوي تجاهل طلب شاهين وأصدر في 11 سبتمبر أمراً قضى بوضع مدينة ومنطقة أسوان، وقسم وادي حلفا ومديرية دنقلا تحت إدارة شاهين باشا. وبعد نحو شهر من ذلك القرار طلب شاهين مرة أخرى الإعفاء من تلك المهمة. وفي هذه المرة قبل الخديوي استقالة شاهين باشا، وعين مكانه مصطفى باشا فهمي (2) الذي كان يعمل في وزارة الحربية، وصار بعد ذلك رئيساً للوزارة المصرية، وذلك بنفس راتبه القديم، مع علاوة اغتراب شهرية قدرها 50 ج م. وفي يونيو من عام 1876م عُيِّنَ علي باشا صادق محل مصطفى باشا فهمي. وورد في الجريدة الرسمية المصرية يوم 18 نوفمبر 1887م أن المهندس المصري محمد بيه راسخ، من سكان الإسكندرية (لا يجب الخلط بينه وبين حكمدار السودان بين عامي 1861و1862م، الذي يحمل ذات الاسم ونفس الدرجة) قد عُيِّنَ في وظيفة نائب مدير عام السكة حديد. ويجب أن نذكر هنا أيضاً أن الحكومة بالقاهرة كانت قد أمرت حاكم دنقلا بجلب 3,000 سوداني للعمل في تشييد السكة حديد. ولم تُجْدِ احتجاجات ذلك الحاكم ضد ذلك القرار نفعاً.
وكانت الأوضاع المالية والاقتصادية بمصر قد أجبرت الحكومة على تخفيض سقف أهدافها في إقامة خط سكة حديدة إلى حنك (Hannik) في منطقة الشلال الثالث. وتوقفت نِهَايَةُ خَطِّ السِّكَّةِ الحَدِيدِيَّة عند منطقة صرص Saras على بعد لا يتجاوز 54 كم من وادي حلفا؛ ولا تزال هناك نحو 47 كم حتى يبلغ الخط ضفاف النهر. ولم يكن الجنرال غوردون (الذي خلف إسماعيل باشا أيوب في منصب حكمدار عام السودان في عام 1877م) يؤيد قيام مشروع السكة حديد بالسودان لأنه كان من المتوقع أن تتولى حكومة السودان الإنفاق على إنشائها. وقام غوردون في شتاء 1877م بزيارة تفقدية لما أُقِيمَ من ذلك المشروع، ولم يخف امتعاضه مما شاهده. وعوضاً عن الاستمرار في مد الخط الحديدي، اقترح غوردون بناء خطوط ترام منفصلة حول كل شلال فيا بعد صرص مع تقديم خدمات للبواخر بين كل شلال وآخر. وعدت السلطات المصرية ذلك الاقتراح بديلاً رديئا (رغم رخص تكلفته)، ولذا لم يتم المضي قدماً في تنفيذه. وقامت الحكومة المصرية، سعياً منها لخفض النفقات أكثر فأكثر، بإنهاء تعاقدها مع الشركة اللندنية المصدرة لمعدات وآليات السكة حديد (أبليبي إخوان Appleby Brothers) ودفعت لها تعويضاً قدره 78,000£. وكانت إحدى نتائج زيارة غوردون التفقدية للسكة حديد في عام 1878م، هي تنظيم رحلة أخرى لتفقد السكة حديد بقيادة مدني بريطاني اسمه أ. جونسون كان يعمل مديراً عاما، ومساعده البمباشي ت. هـ. غوودينGooding ، في رفقة 6 من ضباط الجيش المصري.
إن القاطرات والعربات الدارجة ومهمات السكك الحديدية الأخرى لهذا الجزء الأصلي مما أصبح اليوم سكك حديد السودان تستحق اهتمامنا. لقد كان المحرك رقم واحد، وهو أول محرك يعمل على الخط، عبارة عن قاطرة بخارية صغيرة أُرْسِلَتْ في عام 1871 أو 1872م من شركة فوكس ووكر وشركائهم Fox, Walker and Co لشركة المقاولين أبليبي إخوان Appleby Brothers. وأُرْسِلَتْ عام 1873م إلى وادي حلفا أربعة محركات للقاطرة البخارية الصغيرة ذات تشكيل (2-6-o) مع عجلات قيادة عديمة الحواف تزن حوالي 22 طناً (ربما كانت من صنع جون فاولر)، ورُقِّمَتْ من 2 إلى 5. وقام فوكس ووكر وشركائهم بتسليم عجلتين أخريين للقطارات البخارية 0-6-0 عام 1875م.
وتبين صورة اُلْتُقِطَتْ عام 1887م لمحطة أو مستودع السكة حديد في وادي حلفا بعض ما كان بالسكة حديد في تلك الأيام من محركات وقطارات وغير ذلك. وكانت كل المعدات المتحركة بالسكك الحديدية ذات عجلات أربع، وتشمل كذلك 4 عربات ركاب الدرجة الثانية، وعربة صالون، و5 مركبات مغطاة بسقف فولاذي، و50 عربة غير مَسْقوفة لها إطارات حديدية، مع عربتي فرملة. وظلت معظم تلك العربات الأصلية إلى عام 1945م (أي بعد نحو سبعين عاما من بدء استخدامها في وادي حلفا) تُسْتَخْدَمُ كشاحنات لحمل القمامة والنفايات، وحُوِلَتْ المركبات المغطاة بسقف فولاذي إلى مخزنين صغيرين، أحدهما في الخرطوم، والآخر في جبيت. قد تبدو مثل هذه المعلومات من الأمور التافهة عند من ليسوا من أهل الخِبرة والعلم، غير أنها معلومات مهمة جداً عند رجال السكة حديد، وتدل على أن من قاموا بإنشاء السكة حديد كانوا قد أسسوها على أسس متينة وصانوها بصدق وأمانة. ويمكن للمرء أن يحكم على “السكة حديد” من الطريقة التي كانت تتعامل بها مع ممتلكاتها وأصولها.
لم يجذب افتتاح أول خط سكة حديد في السودان الكثير من الانتباه في مصر أو بقية دول العالم. غير أن دليل برادشو للسكة حديد Bradshaw’s Railway Manual (وهو أول كتاب في العالم يرصد جداول مواعيد السكك الحديدية حول العالم) أتى على ذكر تلك المناسبة، وجاء فيه ما يلي:
“لقد بدأ خديوي مصر في عمل واحد من أضخم المشاريع العملاقة التي حاول إنجازها في مملكته – ألا وهو ربط شمال مصر بجنوبها بقطارات السكة حديد. وعند النقطة النهائية لكل الغزوات القديمة والحديثة، حيث وجد الغزاة الفرس والرومان أن الصحراء كانت تمثل حاجزاً غير قابل للعبور، كان الخديوي يستعد – بمساعدة جيش من المهندسين والبحرية الإنجليزية – لقيادة طريق حديدي وفريق من الخيول الحديدية ليس فقط إلى حدود النوبة، بل إلى قلب أفريقيا”.
وعلى الرغم من كل ذلك الدَّفْق المضطرب من الكلمات لم تكن هناك قوات بحرية إنجليزية، ولم تكن هناك سوى حفنة من المهندسين الإنجليز يعملون بخط سكة حديد في وادي حلفا. وأتت المزيد من المعلومات الموثوقة التي وردت من أحد الكُتَّاب في “وقائع اجتماع لمعهد المهندسين المدنيين” بلندن، في عام 1876م، والذي امتدح فيها عربة بضائع ذات مفاصل، منخفضة الجوانب بأربع عجلات، صممها السير جون فاولر خصيصاً لسكك حديد السودان. وكان وزنها الفارغ أكثر من 3 أطنان و8 قناطير في مقابل سعة حمل تبلغ 6 أطنان طويلة long tons (أي ما يعادل 2240 رطلاً أو 1016 كجم. المترجم).
هل كان من الخطأ إقامة خط السكة حديد على قضيبين؟ ألم يكن من الأوفق إقامة ذلك الخط على قضيب حديدي واحد (بناءً على قاعدة السكة المفردة monorail)؟ لقد كان ذلك التساؤل المتشكك قد أُثِيرَ في عام 1878م في اجتماع “الجمعية الجغرافية الملكية” عندما أيد أحد المتحدثين استخدام السكة المفردة بحسبانها شكلاً رخيصاً من أشكال السكك الحديدية الرائدة. وفي أثناء النقاش حول تلك النقطة علق أحد أعضاء الجمعية بالقول إن سكك حديد السودان التي صممها فاولر كانت ستؤدي تماماً الغرض الذي أقيمت من أجله بتكلفة تعادل سُّدْس ما كلفته من أموال لو أنها استخدمت سكة مفردة.
وأبدت الحكومة المصرية ومفوضو الدين المصري Commissioners of the Egyptian Debt (4) قلقهم من تكلفة الجزء الصغير من خط السكة حديد الذي أكتمل تشييده. وأرسلت تلك المفوضية وفداً من مسؤوليها إلى وادي حلفا في ديسمبر 1880م، حيث وجد أعضاء تلك المفوضية أن محطة ومستودعات السكة حديد بحلفا لم تستكمل بعد، ولكنها كانت في حالة جيدة وبها 5 قاطرات و61 عربة، وهذه كافية للخط عند اكتماله، ولكنها ليست كافية لأي امتداد مستقبلي. وعارضت المفوضية خطة غوردون باشا لإنشاء خط ترام، ونصحت عوضاً عن تلك الخطة بالاستمرار في مد خط السكة حديد إلى فركة Farka )تُكْتَبُ في الخرائط الأوروبية (Firket على بعد 156 كم. وكانت المفوضية على ثقة من أن من خط السكة حديد لتلك المنطقة سوف يثمر عن فائدة تجارية، وسيوفر اتصالاً حيوياً بين مصر ودنقلا وكردفان ودارفور. ثم عُيِّنَتْ للمنطقة لجنة أخرى في شتاء العام التالي لدراسة مد خط السكة حديد لجنوب وادي حلفا. وأوصت تلك اللجنة (التي كان من ضمن أعضائها البمباشي غوودين Gooding) بمد خط السكة حديد الى كوشا Kosha (على الكيلومتر 169)، وأوصت أيضاً بجلب معدية بخارية إليها لربطها بالضفة الغربية للنيل، حيث ستكون المحطة النهائية هي الدبة، الواقعة على بعد 554 كم من وادي حلفا.
وفي عام 1883م، وبعد إنهاء ثورة أحمد عرابي باشا، وفي بداية الاحتلال البريطاني لمصر، أتت لوادي حلفا آخر لجنة مصرية للبحث في أمر السكة حديد بالسودان. وكان من ضمن أعضاء تلك اللجنة عبد القادر حلمي باشا، الذي كان قد أنهى لتوه عمله حكمداراً عاماً للسودان. ووصفت تلك اللجنة خط وادي النيل بأنها خطة مكلفة اقتصاديا وليس لها من نفع؛ وناشدت اللجنة الحكومة المصرية العمل على مد خط السكة حديد من سواكن إلى بربر قبل أن تأتي أي قوة أخرى وتقوم بذلك. ولم يكن لرجل مستقل الرأي ومحايد مثل عبد القادر ليقدم مثل تلك النصيحة إلا إذا كان يؤمن بالفعل بإمكانية إقامة مثل ذلك الخط. وكان يدرك – أكثر من غيره – بأن المنطقة بين بربر وسواكن لم تعد في أيدي المصريين.
لم يكن فشل مشروع السكة حديد الذي تبناه إسماعيل باشا بالأمر المستغرب. ومع نهايتها الجنوبية في صرص المحاطة بشلالات حنك وكجبار، قلما ما كانت حركة المرور تجتاز وادي النيل بين مصر ومقاطعتي دنقلا وكردفان. واستمر الوكلاء المتعاقدون العبابدة في نقل الحركة التجارية لوادي النيل عبر طريق كورسكو – بربر الصحراوي حتى سقوط بربر عام 1884م في أيدي قوات المهدية. في عام 1878م، وفي مقابل نفقات رأسمالية (capital outlay) حتى ذلك التاريخ بلغت600,000 ج م، جلبت السكة الحديد إيرادات إجمالية قدرها 3,620 ج م فقط، بينما بلغت إيراداتها في عام 1879م 7,360 ج م، وبلغت في عام 1880م 4,276 ج م. ولم تجلب تحركات القوات الثقيلة في عامي 1882-1883 م ضد الثورة المهدية لها سوى اعتمادات ورقية / صكوك ائتمان paper credits. وليس لنا علم بالتنظيم التجاري في السكة حديد في تلك الأيام. ولا نعلم عن وجود مطبوعات أو أي أثر باقٍ لأسعار تذاكر الركاب. وعقب سحب الحاميات البريطانية – المصرية إلى وادي حلفا في بداية عام 1886م صارت السكة حديد عرضةً لغارات قوات المهدية من دنقلا، وتوقفت حركة القطارات في خارج دائرة المناطق المحمية بمعسكر حلفا، وتناقصت الإيرادات إلى أن نضبت نهائيا.
*********** *********** **********
إحالات مرجعية
1/ وادي “أبو دوم” هو وادٍ جاف في السودان يقع في صحراء بيوضة، ويمتد من وسط صحراء بيوضة بحوالي 150 كم نزولاً إلى نهر النيل.
2/ لريتشارد هيل مقال عن خط السكة حديد بين سواكن وبربر، تجد في هذا الرابط ترجمة له: https://shorturl.at/mv2p2
3/ للمزيد عن مصطفى باشا فهمي يمكن الاطلاع على سيرته في موسوعة الويكيبديا https://shorturl.at/8NTkP
4/ يُسمى “صندوق الدين المصري Caisse de la Dette Publique /”Public Debt Commission”، وتجد في هذا الرابط بعض المعلومات عنه: https://shorturl.at/plJNd.
نقل
البضايع