مقالات وآراء

مناقشة حول جملة تغبيش الوعي

 

د. محمد عبدالحميد

لا تكاد تُعبّر جملةٌ في أي جدل سياسي عن مستوى مُغالي في التطرف، والذاتية، والإعتداد بالرأي أكثر من إطلاق جملة (تغبيش الوعي). فهذه الجملة عند استخدامها بشكل واعي أو غير واعي تؤكد على أن قائلها يقوم بعملية(إطلاق نار تحذيري) للآخر من التوغل في مناطق وعيه.
إن مُطلِق هذه الجملة يحاول تأكيد أن ما عدا رأيه ما هو إلا محاولة “لتغبيش الوعي” … وهو في نهاية المطاف شكل من أشكال الإرهاب الفكري يستخدمه عادة المتطرفون في آرائهم الذين لا ينظرون لغير فكرهم إلا على أنه توجه نحو “تغبيش الوعي”.. وهذا إتجاه يجب مناقشته قبل إطلاق حكم الفساد عليه.
إن الوعي بشكل عام هو حالة عقلية تنتج عن الذات بحقيقة أن كون الفرد يعيش في واقع يأخذ عنه تصورات يأمل ويطمح في أن تكون متمثلة له وللجميع.. وتختلف درجات هذه الحالة العقلية وكيفية التعبير عنها من شخص لآخر، غير أنه من الصعب القول جملة واحدة أن شخصا معينا مغيب عن الوعي، طالما كان ذلك الشخص متفاعل في علاقات اجتماعية متفاوتة بين المادي والروحي والقيمي والنفسي والاخلاقي مع بيئته… وما يفرق حقيقة في أمر الوعي هو المشرب الذي إستُمِدت منه المعرفة (وهذا مبحث آخر يبحث في مضمار علم المعرفة – الإبستمولوجي) … لذلك فإن كل فرد في المجتمع عاقل وقادر على التفاعل هو واعٍ بدرجة ما لأنه ممتلك لدرجة ما من المعرفة، غير أنه لابد من التأكيد على حقيقة أن هذا الوعي في حد ذاته دينامي متحرك وليس ثابتا، فقد يمكن أن يتلقى الشخص مستويات أرفع أو أكثر تعقيدا من المعرفة بالظواهر التي تحيط به.. إن كانت نظماً سياسية، أو علاقات إنتاج مادي، أو تعلقاً بقيم دينية أو أخلاقية أو روحية.. وقد يحتاج لتبني أي منها هضم مرجعياتها الفكرية وما قد تقود له انحيازاتها الايدولوجية بإستعدادت نفسية خاصة. وربما تخضع تلك القناعات في لحظة ما للتغير أو التبدل في سياقات إجتماعية وتاريخية وبيئية وحتى عُمرية مختلفة.
مهما يكن من أمر، فالمدافع عن وجهة نظر النظم السياسية الفاشية على سبيل المثال، لا يمكن أن يُقال أنه غير واعي، فالواقع إنه إنسان مختلف مع شخص آخر يُعلي من قيمة النظم الديمقراطية.. فإذا ما عمد الفاشستي لبث دعاية لفكره لا يمكن أن يقال أنه “يغبش الوعي”، لأنه يبث قناعاته المتعارضة مع غيره المختلف معه، وكذلك الأمر بالنسبة للمعتقد في الأفكار الدينية وهو يبث فكره، لا يمكن أن يقال إنه “يغبش الوعي” مِن قِبل مَن يقول بأن الوعي تحدده علاقات الفرد ضمن حالة وجوده المادي… فالحقيقة التي لامراء فيها أن الفضاء العام يستحمل كل الأطروحات القائمة على كل حالة وعي بما يمكنها من أن يُبشَّر بها بكل حرية وديمقراطية.
إن حجر الزاوية في هذه المناقشة يرتكز على المجهودات المبذولة لخلق بيئة تتوافر على إشتراطات خلق الوعي الكلي من تعليم ومعارف وابتكارات وثقافة وآداب وفنون وتكنولوجيات تجعل من الفرد قادر على تطوير وعيه بالإختيار الحر، أما إن لم تكن البيئة تتوافر على قواعد الوعي تلك، فستبقى قدرة الإنسان على الوعي في أضعف حدودها كما تجعله نهباً لإبتزاز القوى المدعية للوعي كما هو الحال تماماً في السودان، لذلك تتكرر بين مختلف القوى السياسية تهمة (تغبيش الوعي) كأنهم قد انجزوا تلك البيئة المواتية للوعي وأن الآخرين لا يلعبون إلا دور المخرب لذلك المنجز. وقد يلاحظ المتابع أن الأمر في جوهره مستند على درجة كبيرة على حالة من الكسل الذهني وعدم الفاعلية والركون لإطلاق مثل هذه الجملة (تغبيش الوعي) إذ يمكن النظر للواقع في وسطٍ ما منحاز كبيئة لواحدة من مستويات الوعي الخاص، كالوعي الديني مثلاً وهو الأكثر سيادة في واقع المجتمعات ما قبل الصناعية أو التي لم تدخل في علاقات إنتاج معقدة.. هذا الواقع يفرض على مَن يتبنى قيم غير المستدنة للمرجعيات الدينية (العَلمانيّة) أن يبذل جهداً مضاعفاً ليقنع الآخرين بأن واقعهم لا تحدده النصوص أو المسلمات الدينية فحسب، وهذا في حد ذاته عملية صراعية عميقة تتطلب قدراً عالٍ من الشجاعة الفكرية وتملك أدوات خطاب تتناسب ومستوى وعي الناس في ذلك المجتمع.. أما أن يشيح صاحب هذا التوجه بوجهه عن المجتمع ويدغمه بصفة التخلف وأن الآخرين يمارسون (تغبيش الوعي) ، فذلك ضرب من الهروب وتعبير عن القنوط وتمسك بحالة تطرف لا تسمن ولا تغني من جوع.. والأمر نفسه في المقابل ينطبق على حامل الفكر الديني في مجتمعات لا تحفل بالدين أو تدير ظهرها للمرجعيات الدينية.. فلا يمكن أن يتم دمغها بالكفر والإلحاد ومخاصمتها وشن الحرب عليها بعمليات إنتحارية أو إرهابية أو إنقلابية لمجرد أن وعيهم لا يتسق مع وعيه.
في خاتمة هذه المناقشة يجدر إعادة التأكيد على إن إطلاق جملة (تغبيش الوعي) في المساجلات والحوارات السياسية المستخدمة بإفراط في المسرح السياسي السوداني تُعبر عن موقف ذاتي يعتقد مطلقها أنه مركز حركة الوعي. ويفترض أن وعيه وحده الصحيح وأن ما دونه أو غيره ما هو إلا محاولة لتغبيش وعي الجماهير، مما يمكن أن يتسبب في تسميم الفضاء العام بهذا التوجه الفاسد، فالعمل في الفضاء العام مفترض أنه متاح للجميع ليبث مَنْ يشاء ما يشاء مِن أشكال الوعي التي يريد ليكون الإختيار والخيار حراً.

‫6 تعليقات

  1. طيب يا فالح -الوعى بطبيعته ذاتى وكل ما يخرج من حيز الذاتيه يتحول الى شيء واقعى محسوس ومدرك ومن ثم الوعى يضمر في تمثلاته ادراكيه وحاله فهم وتوسل لتفاعل المعرفه المكتسبه والتفاعل الاجتماعى ————والوعى له تشكلان : وعى ذاتى ووعى بالاخر وكليهما يؤسس للدرايه بالوجود واليقظه وتطور فسيولوجى للمخ —————اما مغالطه (تغبيش الوعى) فتضمر( التغبيش) وهى حاله الخلط كما خلط بياض الفجر بظلمه الليل ومفادها تخليق حاله المتاهه عبر خلط المدركات وتخلق حاله ادرك شيء ما —————فلا أرى في المفهوم ما يستدعى الاحتجاج ولعل كاتب المقال منغلق في ماقبل الحداثه حيث ربط الدال بالمدلول ويجهل استصحاب البراد يغم في فهم المفاهيم !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!! اما ادعاءات حركه الوعى والناجز والمنجز فانشاء غير موضوعيه ولا تستحق الرد

    1. Dictionary
      Definitions from Oxford Languages · Learn more
      par·a·digm
      /ˈperəˌdīm/
      noun
      1.
      a typical example or pattern of something; a model.
      “there is a new paradigm for public art in this country”

      البراد يغم
      that is so bad

    2. أنت تفهم وتكتب أحسن من كثير من كتاب الراكوبة
      فأرجو أن تكتب لتحلنا من هذا الغثاء الأحوي
      الذي تذخر به الراكوبة
      شغل الفلسفة ومناهج ما بعد الحداثة لمعرفة الواقع وحتقدر تعمل مواضيع مفيدة

  2. لا يوجد تغبيش وعي يوجد حق ويوجد باطل الحق واضح والباطل أوضح، كل البشرية في النهاية تقف مع الحق . الباطل كل من يقف في صفه او حرامي انتهازي أو مكابر حسود او ضابط جيش مفلس فكريا واخلاقيا وخائب جبان.
    الذين يؤمنون بالاهية القرآن (….. أن الباطل كان زهوقا)

    1. في حالتنا الانية انه تجهيل وليس تغبيش حيث من يدعون المعرفة يدعو البسطاء لتبني ما يجعلهم مسيطرين بخلق بطولات زايفه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..