خسائر كارثية للبنوك السودانية وفرص التعافي بعيدة
ارتفاع تاريخي لاسعار العملات وانخفاض الودائع وتآكل العملة..
بالنظر إلى وضع السودان، لا يوجد أي أمل قريب لاستعادة نشاط هذا القطاع بالكامل، خاصة وأن جزءًا كبيرًا من أراضي البلاد خارج سيطرة الحكومة الحالية في بورتسودان، وبالتالي فهو خارج نطاق الإنتاج وعمليات الجهاز المصرفي. وهذا يدل على تدهور هذا القطاع بشكل كارثي. بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولة طباعة عملة جديدة للسيطرة على الكتلة النقدية الموجودة خارج القطاع المصرفي ستؤدي إلى مشكلات إضافية للاقتصاد.
تواجه المصارف السودانية صعوبات كبيرة نتيجة الأعمال التي تعرضت لها من نهب وسرقة وتدمير جراء الصراع الدائر بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل 2023. بالإضافة إلى ذلك، تآكلت موجودات هذه البنوك والتي تقدر بنحو 45 تريليون جنيه سوداني، في ظل فقدان العملة المحلية لحوالي 400% من قيمتها مؤخراً، حيث يُتداول الدولار حالياً بحوالي 2500 جنيه، مقارنة بـ600 جنيه قبل بداية الحرب. أفاد بنك السودان المركزي أن اندلاع الحرب أدى إلى توقف 70% من فروع البنوك في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية أو توترًا أمنيًا، بينما تعمل حاليًا حوالي 427 فرعًا في الولايات الآمنة.
يشتمل قطاع البنوك في السودان على 38 بنكاً، منها 16 بنكاً محلياً و22 بنكاً مختلطاً، ويملك هذا القطاع 833 فرعاً و77 نافذة و73 مكتباً للتوكيل. توجد 435 فرعاً في المدن الثلاث الرئيسية، وهي الخرطوم وأم درمان وبحري، والتي تشكل 49 في المئة من إجمالي عدد الفروع في البلاد. كيف يرى الاقتصاديون وضع هذا القطاع في ظل التحديات الحالية التي يواجهها؟ وهل سيكون بمقدوره استعادة نشاطه بعد انتهاء هذه الحرب؟
خلل هيكلي
يعتقد المتخصص في الشؤون الاقتصادية السياسية في الجامعات السودانية، حسن بشير محمد نور، أن “القطاع المصرفي من أكثر القطاعات التي تأثرت بالحرب المستمرة منذ أكثر من 19 شهراً بين الجيش و(الدعم السريع) نظراً لاعتماده بشكل أساسي على النشاط الاقتصادي وحركة دخول المواطنين. وبالتالي، فإن قوة هذا القطاع تعتمد على وجود عدد كبير من العملاء الذين يقومون بعمليات الإيداع والسحب، بالإضافة إلى توافر الاحتياطات المناسبة التي تعزز الأمان للمستخدمين، فضلاً عن وجود أسواق نشطة”. قال محمد نور: “في الوقت الحالي، أثرت الحرب بشكل كبير جداً على الإنتاج، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 60 في المئة، بالإضافة إلى التراجع الكبير في الصادرات السودانية. نتيجة لذلك، انخفضت الاحتياطيات الموجودة في بنك السودان المركزي التي تدعم العملة المحلية التي تشهد تراجعاً مستمراً، فضلاً عن الارتفاع المستمر في معدلات التضخم وانخفاض القوة الشرائية. ومن الواضح أن عددًا كبيرًا من المواطنين فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم، مما ساهم في تراجع التعامل مع القطاع المصرفي. حيث كان أكثر من 87 في المئة من الكتلة النقدية قبل الحرب خارج الجهاز المصرفي، فماذا عن بعد الحرب؟”. وأشار إلى أن “الاقتصاد السوداني يعاني من خلل هيكلي، مما يؤدي إلى ضعف كبير في رؤوس أموال المصارف الوطنية.
تعافي القطاع المصرفي يعتمد على التعافي الاقتصادي ومعالجة الخلل الهيكلي في الاقتصاد، بالإضافة إلى النشاط الاقتصادي وقدرته على جذب الاستثمارات وخلق وظائف جديدة وتحقيق استقرار جيد يتمثل في نمو إيجابي مستدام والسيطرة على معدلات التضخم، بالإضافة إلى توافر الطاقة الإنتاجية بشكل كافٍ، وتوازن خارجي يتصل بميزان المدفوعات. لذا، فإن جميع هذه المؤشرات سلبية، ولا توجد أي فرص لتعافي الجهاز المصرفي دون إنهاء الحرب لعدم وجود عوامل تعزز الاقتصاد السوداني وتساهم في انتعاشه”. اختتم المتخصص في الشأن الاقتصادي والسياسي قائلاً: “لا شك أن أي دولة تعاني من الحرب تشهد تدهوراً كبيراً في قطاعها المصرفي، وهذا أمر طبيعي لا يمكن تجاهله. بالنظر إلى حالة السودان، فإنه لا يوجد أمل قريب لاستعادة نشاط هذا القطاع بشكل كامل، خاصة وأن جزءاً كبيراً من أراضي البلاد خارج سيطرة حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، مما يعني أنها خارج نطاق الإنتاج وعمل القطاع المصرفي. وهذا يعد دليلاً على التراجع الكارثي لهذا القطاع. كما أن محاولة طباعة عملة جديدة للسيطرة على الكتلة النقدية الموجودة خارج القطاع المصرفي ستؤدي إلى مشكلات إضافية للاقتصاد، وبشكل خاص للمواطنين السودانيين الذين سيعانون من تبعات الحرب.”
انخفاض الودائع
في هذا السياق، أشار المتخصص في الشؤون المصرفية حامد الأمين أحمد إلى أن “البنوك السودانية تأثرت بشكل مباشر جراء الحرب، حيث تعرضت لخسائر بسبب نهب الخزائن وسرقة الأصول بما في ذلك المعدات والأجهزة والسيارات، بالإضافة إلى ممتلكات العملاء من ذهب وحلي وأشياء أخرى، كما شمل التخريب والنهب الأجهزة وخوادم بيانات العملاء وضياع الملفات وغيرها من الوثائق”.
وأكمل أحمد “لكن التأثير المباشر للقطاع المصرفي ظهر في الانخفاض الكبير لودائع العملاء، حيث تختلف النسب من بنك لآخر، بالإضافة إلى عدم القدرة على سداد التمويل ونقص حاد أو شبه انعدام للسيولة. وعلى نطاق أوسع، توقفت أهم الخدمات المصرفية، مثل تطبيقات الدفع الإلكتروني بين البنوك. وقد تدهورت قيمة العملة المحلية بنحو 400 في المئة مقارنة بفترة ما قبل الحرب، كما ارتفع معدل التضخم بشكل ملحوظ، مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للجنيه السوداني وأفقد الثقة في الاحتفاظ بودائع في البنوك، مما دفع الناس إلى البحث عن بدائل أخرى مثل شراء العملات الأجنبية والسعي لإيداع أو استثمار الأموال خارج البلاد”. وأضاف المتخصص في الشؤون المصرفية: “أنا أرى أنه في حال انتهاء الحرب، سيحتاج القطاع المصرفي إلى إعادة بناء البنية التحتية، إلى جانب بذل جهود كبيرة لاستعادة ثقة العملاء من خلال تقديم خدمات مصرفية آمنة وعصرية. كما ينبغي توفير التمويل اللازم لتعويض خسائر الأفراد والشركات، بالإضافة إلى ضرورة إجراء هيكلة شاملة تتماشى مع التحديات الكبيرة في تمويل المشروعات التنموية ومرافق الخدمات العامة والتربية والصحة وغيرها من القطاعات التي دمرتها الحرب”.
تآكل العملة
من جهته، أشار الباحث الاقتصادي والمصرفي هاشم عبدالله رحمة إلى أن “الوضع الحالي للمصارف في البلاد سيء للغاية، وذلك بسبب عمليات النهب التي استهدفت معظم البنوك في الخرطوم وبعض الولايات من قبل قوات ‘الدعم السريع’. وهذا بالطبع أدى إلى فقدانها للسيولة النقدية اللازمة لعمليات السحب والإيداع، مما أثر على نشاط جميع البنوك. ومن المعروف أن البنوك لا تحتفظ بكل مواردها في خزائنها، بل لديها احتياطات تستخدمها، تحتفظ بها في بنك السودان المركزي الذي تعرض أيضاً لسرقة من العملات المحلية والأجنبية”. واصل رحمة قائلًا: “من الطبيعي في ظل ظروف الحرب أن تتناقص قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وهذا يرتبط بشكل مباشر بدورة الإنتاج ومستوى الإنتاجية، طالما أن الحركة الاقتصادية متوقفة، بالإضافة إلى توقف عمليات التصدير التي تلبي احتياجات البلاد من المواد البترولية أو الغذائية الضرورية للمواطنين”.
ذكر الباحث الاقتصادي والمصرفي أنه من المؤكد أن ودائع العملاء ستتأثر بتراجع قيمة العملة المحلية، والتي ستتحول في النهاية إلى عملة ورقية غير كافية لتلبية احتياجات ومتطلبات المواطنين الأساسية مثل الطعام والشراب والعلاج. وهذا يمثل نوعاً من التضخم المدمر. ومع ذلك، يمكن للبنوك أن تستعيد نشاطها إذا توفرت لديها كوادر مؤهلة وقادرة على دعمها بالسياسات النقدية والمالية من خلال التنسيق الفعال مع وزارة المالية وبنك السودان المركزي. إضافة إلى ذلك، ينبغي إصدار القرارات المالية والنقدية بطريقة علمية والاستفادة من تجارب الدول التي عانت من ظروف الحروب والكوارث، بدلاً من الاعتماد على سياسات صندوق النقد الدولي المدمرة.
آثار كارثية
بدوره، أشار مساعد المدير العام للإدارة والسياسات في بنك أم درمان الوطني حسين محمد علي إلى أن “البنوك السودانية تعرضت للنهب والدمار وخسائر كبيرة جداً في أصولها الثابتة والمتغيرة، بما في ذلك النقد المحلي والأجنبي. فقد كانت هناك مبالغ ضخمة في خزائنها، خاصةً وأن الحرب اندلعت بشكل مفاجئ رغم المؤشرات السابقة. ومن المعروف أن الحرب تترك آثاراً كارثية في جميع القطاعات الإنتاجية، وتعتبر البنوك من أكبر الخاسرين في هذه المعركة”. وأضاف علي: “حالياً، جميع فروع البنوك في ولايات الخرطوم والجزيرة ودارفور وسنار متوقفة تمامًا عن العمل. كما تأثرت البنوك التي تعمل في بعض الولايات الآمنة بسبب الحصار الناتج عن العمليات العسكرية، مما أثر على عملائها وخدمات الاتصال وكل ما يسهل تقديم خدمات العملاء. وعلى الرغم من كل هذه التحديات والصعوبات الكبيرة، فإن القطاع المصرفي لا يزال بخير، حيث استطاعت معظم البنوك الوصول إلى أنظمتها الموجودة في مواقع آمنة وتقوم حالياً بممارسة نشاطها بشكل معقول.”
أوضح أن “ودائع العملاء آمنة، لكنها بالتأكيد تأثرت بانخفاض قيمة العملات الأجنبية (سعر الصرف)، مما أدى إلى تراجع قيمتها السوقية بشكل كبير. إن الارتفاع الكبير في سعر الدولار خلال هذه الفترة يمثل علامة سلبية على هروب الودائع إلى خارج البلاد، وهو أحد التحديات التي تؤثر على القطاع المصرفي”. أكد مساعد المدير العام أن “البنوك ستستعيد تدريجياً وضعها الطبيعي إذا توقفت الحرب، وذلك من خلال عملية إعادة التأهيل للحفاظ على عملائها والتقدم نحو خطوات جديدة. خاصةً أنها تعتبر الملاذ الآمن لمدخرات وأموال المودعين، لذلك يجب عليها اتباع سياسات مرنة في مسألة التمويل سواء للمؤسسات أو الأفراد، ووضع صيغ مقبولة لتعويض المنتجين جزءاً من خسائرهم”.