مقالات وآراء

انفجار سردي

 

أمير تاج السر

منذ أيام شاركت في ندوة حوارية، في معرض الشارقة للكتاب، عما اصطلح على تسميته: الانفجار السردي، وتحدث فيها مختصون في الكتابة الروائية والنقد، كل من وجهة نظره، منهم الكاتب الإماراتي سلطان العميمي، والروائية الكويتية ليلى العثمان.
في البداية كان ثمة تساؤل: هل الانفجار السردي، بمعنى ازدياد عدد كتاب الرواية في الوطن العربي، بالشكل المخيف الذي نراه الآن، وعدم إمكانية العثور على مدخل لاحتواء كل تلك الكتابة؟ أم الانفجار بمعنى، ترك كل الثوابت الكتابية وراءنا، واختراع ثوابت جديدة، فيها الكثير من التجريب، واللامبالاة، والانطلاق كيفما أراد النص، بلا رقابة؟
في الحقيقة كلا المعنيين يمكن اعتمادهما، ولو قلنا ذلك الكم المخيف من الروايات والأصوات الجديدة، وظاهرة تحول كل الناس تقريبا إلى روائيين، بمن فيهم أشخاص لم يكونوا قريبين أبدا من أجواء الكتابة، مثل سيدات مشغولات بأعباء الحياة، ورجال في أعمار متقدمة، لم يخصصوا وقتا في ما مضى لمثل هذه النواقص كما كانوا يسمونها، وكان ثمة جيل من الناس يعتبرون الكتابة وكرة القدم، أنشطة طفولية وغير مسؤولة. وأذكر أنني التقيت مرة بواحد كان عسكريا مرموقا، سألني بخشونة أن أهتم بمهنتي العلمية، وأترك هذا الدرب غير الناضج، يومها سألته إن كان قرأ شيئا ليحكم على الكتابة بهذا الشكل، فرد بأنه لا يشرفه القراءة بعيدا عن الدين، وهذا الطرح يقودنا لتأمل أفكار كثيرين، يرون أن كتابة الروايات خارجة عن الانضباط، وفيها آثام بلا حصر.
أعود لموضوعي، ولا بد من ذكر أسباب كثيرة وراء هذا التكاثر اللامعقول للرواية، والمسألة قطعا ليست عندنا في العالم العربي فقط، ولكن حتى في أوروبا وأمريكا، وأظن المسألة تحولت إلى فرع مهم من فروع البزنس، في زمن لم تعد فيه الحياة صافية، والحصول على شيء، بالسهولة التي كان عليها. نعم، ستجد إعلانات كثيرة وبجميع اللغات، موجهة للذين يحلمون بالكتابة، وحتى الذين لا يحلمون، لكن كثرة الطرق على آذانهم وأعينهم، ستجعلهم يحلمون بلا شك، إعلانات مثل: اكتب والباقي علينا، أو أيها الروائي العظيم، متى ستكتشف نفسك؟ أو هل اكتملت روايتك؟ نعم اكتملت، فقط أفرغها على الورق واترك الباقي علينا..
ولتتخذ المسألة بعدا أسميه ساطعا، يمكن اعتماد نجومية مؤقتة، لن تكلف الناشر شيئا كثيرا، ولكاتب جديد، أدى ما عليه من تكلفة أصلا ليرى كتابه، أنيقا ولامعا ومتأنقا في معرض الكتاب الذي انطلق في بلاده، أو حتى في بلاد مجاورة، لأن كثيرا من الكتاب الموعودين بالنجومية المؤقتة يستطيعون التنقل من بلد إلى بلد وراء كتبهم، ليوقعوا لأصدقاء ينتظرون هذا التوقيع ويحسون بالإثارة وأنهم أيضا موعودون بكتب مماثلة، سيوقعونها حتما قريبا، في معارض الكتب.
هذا حقيقي فعلا، وليس ترفا متجنيا، ولطالما مررت بكتاب لم يقرأوا لأحد شيئا من قبل، وغير مستعدين أصلا، ويرددون، أن الكتابة لا تحتاج للقراءة، إنها هكذا تولد مع الإنسان، وقطعا الأمر ليس هكذا، فالإنسان نفسه يحتاج لغذاء كي يعيش وينتج، وكذا العقل.
الجوائز أيضا، وهذا أمر تطرقنا إليه كثيرا، وأزعم أن أكثر عبارة مشوقة للكاتب، أي كاتب، حتى لو كان مخضرما، هي عبارة مبروك، التي تردد في حقه إن حصل على جائزة، أو اقترب من الحصول عليها، الجوائز ذات طعم للكتابة الجيدة، الكتابة التي لم تكتب للحصول عليها، وإنما كتبت لتثري، ولتضخ معرفة مكتنزة في ذهن كاتب جيد. أما الكتابة المتعجلة، القاحلة، والتي بلا خيال ولا زاد، فلن تكون جائزتها سوى فرح وقتي، ينتهي سريعا.
لقد كثرت الجوائز العربية كما نعلم، وهذا بحد ذاته زاد في استثمار دور النشر، واستقطاب المزيد من الذين يحلمون أو تضغطهم الإعلانات المكثفة ليحلموا. وهذا للأسف موضوع لا يمكن طرقه من دون أن تأتي اتهامات عديدة بأن الكتاب القدامى لا يريدون أن يكتب غيرهم، أو يحصل على جائزة.
ما أكتبه، لا أكتبه عن سماع، ولكن أمر بمعارض الكتب، أنتقي بعض العناوين الجديدة، وأحاور الكتاب الجدد، وأجد استعلاء شديدا من بعضهم، وأنهم لا يريدون تواصلا من أي نوع، وأن ما كتبوه هو الأهم والجدير بمتابعته، وأيضا أعمل محكما في الجوائز العربية، وتمر علي الإشراقات، والانطفاءات على حد سواء، وأزعم أن الإشراقات قليلة جدا بجانب ما أراه من انطفاء في المنجزات السردية.
لماذا إذن كل هذا العناء؟
ولماذا لا يخضع من يريد الكتابة لمحاسبة دقيقة من نفسه أولا، ماذا قرأ، ولماذا سيكتب؟ وهل سيضيف شيئا إن كتب، أم تلك الأفراح الوقتية التي ذكرتها، وينتهي الأمر؟
لا أعرف صراحة أي فائدة من الصرف على الكتابة، التي هي أصلا لا تأتي بشيء كثير، إن أتت، ولكن لن نقول للناس لا تكتبوا، فكل من أراد الكتابة لا مشكلة، فقط ليصبح الأمر جادا، وبلا نوايا استثمارية. والآن ثمة قراء جدد، ظهروا بكميات معقولة، نريدهم حين يقرأوا أن تكون قراءتهم مثمرة.
بالنسبة للمعنى الآخر، أي انفلات النص السردي عن معاييره القديمة، والبحث عن أراض أخرى للرسو فيها، هذا موجود ونشجعه كثيرا، فالكتابة النمطية ليست جاذبة للقارئ في رأيي، والباحث عن التميز، عليه أن ينفلت أو ينفجر سرديا بالمعنى الآخر الجميل، وعموما الكتابة شيء رائع، إن امتلك الكاتب أدواته، واختال نصه بها بين النصوص.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..