اخبار السياسية الدولية والاقتصاد

شروط صعود النازية الجديدة في واشنطن

 

بفوز دونالد ترامب وأنصاره في الانتخابات العامة الأمريكية 2024، أصبح النظام السياسي الديمقراطي الأمريكي على شفا هاوية، ومعه النظام العالمي المتعدد الأطراف، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وتعكس ترشيحات الرئيس لأقطاب إدارته المقبلة ظهور نخبة سياسية جديدة تكنولوجية تشارك الرئيس المنتخب ممارسة سلطات الحكم أو تؤيدها. وتتكون هذه النخبة من عدد محدود جدا من المليارديرات الذين كوَّنوا ثرواتهم الطائلة من الاستثمار في وادي السيليكون وشركات التكنولوجيا المتقدمة جدا، التي تعمل في مجالات المعلومات والاتصالات والمدفوعات المالية والصناديق المالية القابضة، التي تعمل في كل شيء تقريبا من استخلاص المياه من الهواء إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي في صنع الأسلحة. هذه النخبة الجديدة من المليارديرات يطلق عليها مصطلح «البروليغاركية»، وتضم أسماء معروفة منها أيلون ماسك، فيفيك راماسوامي، جيف بيزوس، مارك زوكربيرغ، بيتر ثيل، وسكوت بيسينت، الأخير، هو رئيس تنفيذي لواحد من أكبر صناديق التحوط hedge funds مرشح لتولي منصب وزير الخزانة، وأولهم ماسك، هو الذراع الأيمن للرئيس المنتخب، المرشح لتولي منصب وزير الكفاءة الحكومية، ومهمته هي إعادة بناء هيكل الإدارة الأمريكية بالكامل، على أسس تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
ومن المهم كذلك الإشارة إلى الدور الرئيسي الذي يلعبه بيتر ثيل مؤسس تطبيق «باي بال» للمدفوعات الإلكترونية، باعتباره الأب الروحي لنائب الرئيس المنتخب جي دي فانس، الذي يرجح كثيرون أن يكون الرئيس القادم للولايات المتحدة، في حال عدم تغيير الدستور الأمريكي. جى دي فانس هو مؤسس شركة معلومات ترتبط بعقد تجاري مع الحكومة الأمريكية.
هذه النخبة «البروليغاركية» تستطيع بسهولة التلاعب بالنظام الديمقراطي، وتحويله إلى أشلاء، لأنها تملك التكنولوجيا والهياكل المؤسسية والقدرة على التمويل، بما يفوق ما كانت تملكه النخبة «الأوليغاركية» القديمة، التي تحدث عنها أرسطو من حيث احتكار ملكية الثروة والسلطة.
ومع أن دونالد ترامب نجح من خلال انتخابات «نزيهة وشفافة» بالمعايير الأمريكية، فإن علماء السياسة رصدوا بدقة التأثير المتعاظم للذكاء الاصطناعي في تضليل الرأي العام، وخلق أكاذيب عميقة منها، استخدام صورة وصوت الخصم في توجيه خطاب مختلق تماما، وهو ما حدث فعلا في الانتخابات التمهيدية في مقاطعة نيوهامبشاير. وهناك عشرات الأمثلة لكيفية التدخل بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في كل مراحل الانتخابات، منذ ما قبل التصويت حتى ما بعد إعلان النتائج. ومع أن هذه التطبيقات تعتبر جزءا من تكنولوجيا «محايدة» ـ يمكن استخدامها في الخير كما في الشر، إلا أن احتكارها يشجع المتحكمين فيها على استخدامها لتكريس مصالحهم الخاصة، ومن ثم فإن أهم الأسلحة السياسية الجديدة التي تملكها «البروليغاركية» هو سلاح امتلاك أكثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي حداثة وتقدما.

مع أن ترامب نجح من خلال انتخابات «نزيهة وشفافة» بالمعايير الأمريكية، فإن علماء السياسة رصدوا بدقة التأثير المتعاظم للذكاء الاصطناعي في تضليل الرأي العام

هذا السلاح الجديد يجعل انتقال الحكم إلى النخبة المحيطة بترامب تحولا خطيرا في النظام السياسي الأمريكي، يقدم إغراءات كثيرة لإسقاط الديمقراطية، أو الاستمرار في استخدامها ضد الأكثرية، وتكريس حكم القلة المتحكمة في صناعة المعرفة. وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على أن الإدارة القادمة في البيت الأبيض تخطط للقيام بعملية «تطهير» إداري واسعة النطاق تشمل كل من شاركوا في محاولة عزل ترامب داخل الكونغرس، والعسكريين الذين شاركوا في انتقاده والاعتراض على قرارته في فترة رئاسته الأولى، ومنهم رئيس الأركان الحالي والسابق. الأكثر من ذلك أن مجلس النواب أقر فعلا مشروع قانون بمعاقبة كل مؤسسات المجتمع المدني، التي تعارض أفكار ترامب وتقف ضدها، وذلك بحرمانها من الإعفاء الضريبي، ومن حق قبول التبرعات. ويفرض مشروع القانون عقوبات على أعضائها ومديريها مساوية لعقوبات تمويل الإرهاب. مثل هذه القوانين تضرب جذور الديمقراطية والمشاركة الشعبية، وتمهد لتحول «بروليغاركي» لا يقتصر على احتكار السلطة، وإنما يسعى للسيطرة على المجتمع ومصادرة السياسة. ويشير بعض المراقبين إلى أن هناك ثغرات في الدستور الأمريكي قد تتيح للرئيس القادم تعطيل سلطات الكونغرس في قضايا مصيرية، كما فعل هتلر من قبل.

ما فعله هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي

لا تتوافق الديمقراطية مع مصادرة السياسة، لأن الحريات السياسية العامة والفردية هي روحها. كما أن الديمقراطية تتعارض مع الدعوة للحرب، لأنها تنطوي على إجراءات استثنائية، ومع النزعات العنصرية لأنها تنطوي على التمييز. كما لا تلتقي الديمقراطية أبدا مع مزاعم حق الاستثناء من القواعد العامة، خصوصا إذا قامت على أسطورة التفوق العنصري، أو الأيديولوجي أو الديني. وتتناقض الديمقراطية تماما مع ادعاءات السيادة التي تضع الحاكم أو جماعة مصالح خاصة فوق القانون. في هذا السياق فإن أدولف هتلر زعيم حزب العمال الاشتراكي القومي الألماني، الذي تولى أيضا منصب «المستشار الألماني» (1933 – 1945) بدأ رحلته لتحويل ألمانيا إلى ديكتاتورية نازية بعد دخول حزبه إلى مجلس «البوندستاج» في انتخابات عام 1930 بالسعي إلى اغتيال السياسة أولا، ليتمكن من اغتيال الديمقراطية بعد ذلك، وهو ما أدى إلى الكارثة الألمانية وحملات الاعتداءات العسكرية على الدول المجاورة، التي تحولت إلى حرب عالمية. واستطاع هتلر الحصول على شعبية كبيرة بفضل النزعة الوطنية الشعبوية، التي كانت تغذيها نتائج مؤتمر فرساي للسلام، التي تضمنت إجبار ألمانيا على الاعتراف بمسؤوليتها عن الحرب العالمية الأولى، ودفع تعويضات ضخمة والتنازل عن أجزاء من أراضيها. وقد أثار هتلر حملة شعبوية ضارية ضد الشيوعيين والديمقراطيين الاجتماعيين ونقابات العمال واليهود وقبائل الغجر، اتهمهم فيها بالتواطؤ ضد ألمانيا. وتعرضت تلك الجماعات لحملة اعتقالات واسعة النطاق قبل انتخابات مجلس الرايخ في مارس 1933، وهو ما ساعد هتلر على الفوز بأكبر عدد من المقاعد، لكنه لم يحصل على النسبة الكافية لتشكيل الحكومة، وإنما حصل على 43.9 في المئة. ومن ثم فقد اضطر للتحالف مع حزب الشعب الوطني الألماني الذي حصل على 8 في المئة. وشكل الحزبان معا حكومة يمينية. واستخدم هتلر سياسة التحالفات مع أحزاب اليمين للحصول على تفويض من (البوندستاج) بإصدار ما يرى من تشريعات من دون اللجوء إلى المجلس. وقد منح «قانون التمكين» الصادر عام 1933 للحكومة سلطة سن القوانين بغير موافقة البرلمان، حتى لو كانت مخالفة للدستور. وبهذا فإن الرايخ تحول من «سلطة تشريعية» إلى مجرد صالون للخطب الفارغة، أو التي تتبارى في تأييد حكومة هتلر. واستخدم هتلر السلطات الممنوحة له في إنهاء الحكم اللامركزي وإقامة حكم مركزي صارم، دمج فيه سلطات «المستشارية» و «رئاسة الدولة» وقيادة القوات المسلحة». وبذلك انتهت دولة المؤسسات والديمقراطية ألمانيا، وأخلت مكانها للحكومة النازية والحرب، التي انتهت بكارثة عالمية، وسقوط ألمانيا وخضوعها للتقسيم منذ عام 1945 حتى عام 1990.

حركة (ماغا) وأسطورة تفوق الرجل الأبيض

تعتمد النخبة (البروليغاركية) الأمريكية على قاعدة شعبية تقتات من فتات الشعارات والأساطير الشائعة، أخطرها أسطورة تفوق الرجل الأبيض، وإنكار حقيقة أن أمريكا هي دولة مهاجرين. وأسطورة نهاية العالم التوراتية المتأصلة في أوساط جمهور الكنيسة الإنجيلية المرتبطة بالصهيونية. وتلقى هذه الأساطير رواجا بين سكان الولايات الجنوبية والوسطى، وفي أوساط فقراء المدن الذين يكرهون السياسة لكثرة ما تعرضوا له من تجاهل وإهمال من جانب الأحزاب السياسية. وقد لعب ترامب في انتخابات 2016 على آلام وجهل هذا الجمهور، باستخدام شعارات قومية شعبوية ضد المهاجرين، ومؤسسات الحكم وضد العالم الخارجي. وكان منها شعار Make America Great Again. وقد تم استخدام الأحرف الأولى من الكلمات الأربع للشعار (MAGA) لتكون اسم الحركة التي أسسها ترامب، كي تتسع لجمهور واسع من الناخبين، ما يساعده على النجاح في الانتخابات، ويضمن لسياساته تأييدا شعبيا ضد المقاومة المحتملة من جانب المؤسسات الديمقراطية. وقد عبر ترامب خلال حملته الانتخابية الأخيرة عن أفكاره بعبارات مختلفة، منها كرهه للانتخابات، وأنها ربما لن تكون هناك بعد هذه المرة!
حركة (MAGA) تتحول بسرعة إلى جهاز مؤسسي كبير، حيث ترتبط بمؤسسة التراث، التي تتبنى مشروع 2025 اليميني المتطرف، ومركز دراسات استراتيجية هو «معهد أمريكا أولا» للسياسة (AFPI)، وهو مؤسسة بحثية غير ربحية تأسست عام 2021 للترويج لأجندة ترامب السياسية والاقتصادية. وقد اختار ترامب، رئيسة المعهد بروك رولينز، لتتولى إدارة شؤون الزراعة في إدارته القادمة. كما ترتبط حركة (ماغا) أيضا بمنظمات تروج لتفوق أصحاب البشرة البيضاء والعداء لغيرهم، حتى لو كان ذلك بالقوة المسلحة. وليس من المستغرب أن تضم هذه الجماعات أعدادا كبيرة من مؤيدي النازية، الذين شاركوا في الهجوم على مقر الكونغرس عام 2021. هذه الملامح التي تكسو وجه إدارة ترامب المقبلة تمثل شروطا شبيهة بتلك التي قادت للانقلاب النازي في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية.

القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..