لماذا يعرض الخطاب الديني خرج الحلبة؟ غاية التدين السيطرة على النفس لا على الآخرين جلال الدين الرومي
حسن أبو زينب عمر
(1) لا تختلف عنزتان حول دور الخطاب الديني في التوعية والتربية والتوجيه حتى وسط المجتمعات غير المسلمة وأعنى هناك بطبيعة الحال الخطاب الإسلامي .. قبل ثلاثة سنوات على ما أظن استضافت ولاية البحر الأحمر ورشة عن المخدرات ودورها التدميري المميت للمجتمعات .. الورشة التي كان عرابها زميلنا الدكتور أوشيك آدم أقيمت تحت اشراف منظمة بنت مكلي برئاسة الدكتورة لبني وكنت أحد حضورها وكان هدفها الرئيسي تسليط الأضواء لظاهرة تحولت الى وباء تجاوز كل الخطوط الحمراء في الولاية.
(2) استرعى انتباهي في المشاركين أمريكي من أصل سوداني يزعم أنه يمتلك علاجا ناجزا من واقع تجربة شخصية عاشها في مدينة نيويورك حيث يقيم وحينما كنت مهتما بالقضية وخائفا على مستقبل الشباب وبالذات في الأحياء الطرفية الهامشية المنسية لمدينة بورتسودان حيث انتشر الداء انتشار النار في الهشيم وفعل فعلته الكارثية السوداء وسط مجتمع يسوده الجهل والأمية .. اقتربت من الخبير الأمريكي السوداني وطلبت منه أن يكشف لي عن العقار الذي جاء يه من أمريكا لعلاج الإدمان فحدث مالم يكن في الحسبان اذ وضع أمامي كتاب الله وقال لي هذا هو السلاح الذي يستخدمه لعلاج مرضاه المسيحيين واللادينين . قال لي انه يطلب من المدمن الكف عن الزنى وشرب الخمر ولعب الميسر فيعود اليه بعد فترة لا تتجاوز الشهرين ولسانه يلهج بالشكر انه استعاد صحته وعافيته واستقامته ولديه طلب واحد فقط يحلم بتحقيقه وهو الدخول في الإسلام I want to be a moslem .
(3) الرواية تفتح على مصراعيها دور الخطاب الديني في مجتمعنا وهل يؤدي الدور المنوط به .. لا أريد شطبه كلية ولكنه دور باهت لازال يتحدث بلغة تجاوزها الزمن بكل المعايير .. دليلي هنا ثلاثة مشاهد عشتها في ولاية البحر الأحمر وأود ذكرها .. الأول هو الحرب الأهلية التي نشبت بين ثلاثة مكونات اثنية تخللتها فظاعات تشيب من هولها رؤوس الأجنة في أرحام النساء فقد استبيحت ممتلكات بالمليارات واشتعلت حرائق في أدوار سكنية وسفكت دماء ذكية لأبرياء ألقاهم انتماء عرقي ليس لهم يد فيه في أتون الموت .
(4) في أحد المشاهد فان القاتل لم يكتفي بإطلاق النار عن كثب على رأس الضحية بل حمل الجثمان على ظهره والدماء تنزف من الرأس الممزقة وصب عليه الزيت وأضرم فيه النار وترك مالم تلتهمه النيران الى الكلاب الضالة في الأرض الخلاء .. أنا أشك أن كان لهذا القاتل حتى فتات من الثقافة الدينية بل أشك انه سمع بالآية التي تقول (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) سورة النساء الآية 93 .. قناعاتي هنا ان التوعية الدينية تلعب دورا محوريا في رأب الصدع ورتق النسيج الاجتماعي ولكن الغياب الذي ربما ورائه ضآلة الإمكانيات المخصصة وضعف الرؤية الدعوية حالت دون القيام بالدور المطلوب للأجهزة الدينية.
(5) القضية الثانية فهي قضية انتشار المخدرات بصورة مخيفة وسط مجتمعات الأحياء الطرفية والسبب ليس قصور دور الدعاة ورجال الدين وانما نمطية الخطاب فهو تكرار للوعظ التقليدي الذي تسمعه الناس دون كثير من الاكتراث الا من رحم ربي فهناك على سبيل المثال الجريمة البشعة التي مرت مرور الكرام وهي اقدام شاب على قتل والدته طعنا بالسكين في أحد الأحياء الشعبية حينما رفضت الأم إعطائه مالا طلبه لشراء المخدر الذي أدمنه .. مثل هذه الجرائم ينبغي استثمارها بالصورة المطلوبة لكونها نقطة الانطلاق الفعالة لمكافحة الآفة الخطيرة .
(6) اللامعقول هنا ان الجريمة حدثت خروجا عن التقاليد والأعراف المتبعة وسط مجتمع يجرد الانسان من رجولته اذا تجرأ ورفع يده على امرأة اذ فهذا من أكبر التابوهات فالمرأة في هذه المجتمعات مقدسة فما بالك حينما يسن شاب نصل سكينه لينهال طعنا في جسد التي حملته 9 أشهر في بطنها ثم أغدقت عليه العطف والأمومة حتى أصبح رجلا مكتمل العقل مفتول العضلات . ابراز هذه الجريمة بالنفخ فيها واستخدام تفاصيلها تحت مانشيت كبير هو الترويج لصحيفة يخطط رئيس تحريرها لزيادة مبيعاتها بل تعمل على توسيع مدارك المجتمع نحو الدور المميت الذي تلعبه المخدرات وهو ما عجزت فيه حلقات الوعظ الناعمة التي يرددها الأئمة والخطباء عن أحاديث الحرام والحلال داخل المساجد .
(7) ثالثة الأثافي كانت مرض (الكورونا) اللعين الذي انتبه العالم أجمع لخطورته فاتخذ إجراءات صارمة نحو الالتزام بلبس الكمامات والتباعد في الصلوات داخل المساجد مع تقليص عدد المصليين .. حدث هذا في الحرم المكي حيث تتجه شطره وجوه مئات الملايين في العالم وحدث هذا في مساجد ديار الإسلام من الباكستان شرقا الى المغرب غربا ومن تركيا شمالا الى مصر جنوبا .. وحدنا في السودان وقفنا ضد الموج .. وحدنا أصبحنا الصوت النشاز في هذه المنظومة فقد وقف أصحاب الكتف في الكتف والقدم في القدم بالمرصاد لكل من أشار الى الآية الكريمة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (البقرة الآية 195 في مسلك غريب لا تفهم منه الا انه (رجالة) وليست حماية لحياة الانسان الذي كرمه الخالق .
(8) حينما ساد العناد وركوب الراس والمرض القاتل يهدد بحصد المزيد من الأرواح اتخذ الوالي قرارا بمنع الصلاة في المساجد فجاءنا صوت المؤذن يقول (صلوا في رحالكم يرحمني ويرحمكم الله) .. العبر والدروس المستفادة من القضية المطروحة هي غياب الخطاب الديني عن قضايا الساعة وهي قضايا كثيرة وعلى رأسها قضية البيئة المنهارة التي هي سبب ونتيجة لقضية التلوث والتدني الصحي وما يطرحه من إفرازات هي السبب المباشر في انتشار الأمراض المعدية وارتفاع نسبة الوفيات .. قضية المرأة التي تترك بيتها وأطفالها وزوجها ومسئولياتها لتلبية دعوات في الفاضية والمقدودة ومنها أيضا اقامتها داخل وخارج المستشفيات لزيارة مريض منوم .
(9) قضايا العطالة المتفشية وسط الشباب وقتل الوقت الثمين في الأندية والمقاهي .. ثم هناك أيضا ضرورة الترويج لثقافة العمل التطوعي وسط المجتمع بإبراز حسناته سدا لحاجة أصحاب الحاجة (من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة) . كلها قضايا يمكن أن يلعب فيها الخطاب الديني دورا رائدا .
(10) ان الخطاب الديني كان يمكن أن يلعب دورا أكثر إيجابية لو تم استثماره في القضايا التي ترتبط بحياة الناس ومعايشهم في الدنيا والآخرة بدلا من تشنيف الآذان بقصص (طير الأبابيل وأفيال أبرهة) وهي قصص بدأ الجميع بها الدراسة أطفالا في المدارس الابتدائية. وهو ما درج عليها امام مسجدنا الذي هدد بالتوقف عن مهمة امامة المصلين في المسجد اذا تم تطبيق نظام التباعد درأ لانتشار مرض (الكورونا) قبل أن يخصص شهرا كاملا خلال خطبة الجمعة عن عودة المسيح الدجال والشمس التي تشرق من المغرب كأهم علامة من علامات قيام الساعة.