مقالات وآراء
العنوان الثالث: التصفية الكبرى – الكيزان والجنجويد وصراع السلطة
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
**المقدمة**
**يوماً بعد يوم، تتبدد سحب التضليل حول طبيعة الحرب الدائرة في السودان. إنها ليست حرباً عادية، بل حرب سلطة تنفذها جماعات مجرمة قسمت البلاد وقتلت أبناءها بلا رحمة.
**هذه الحرب، التي تقودها جماعات الكيزان وقوات الدعم السريع، ليست مجرد صراع داخلي بل تمثل انهياراً للنظام السياسي والاجتماعي، وتجسد حالة من التمزق الوطني.
**استعرضنا في العنوان الأول كيف تكشفت أسرار الكيزان الداخلية من خلال قصص الخيانة والمجون. أما في العنوان الثاني، فتناولنا وهم الإصلاح الداخلي الذي استخدم كغطاء لاستراتيجيات الخراب.
وفي هذا العنوان الثالث، نسلط الضوء على مرحلة أكثر تعقيداً وهي “التصفية الكبرى”. نحلل فيها كيف تحول التحالف بين الكيزان والجنجويد إلى صراع دموي على السلطة، وكيف انعكس هذا الصراع على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للسودان.
**إن “التصفية الكبرى” ليست مجرد صراع داخلي بل هي تجسيد لاستراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تدمير السودان لتحقيق أهداف ضيقة. هدفنا من هذه الورقة هو فك شيفرة هذا الصراع الدموي وتوضيح تأثيره العميق، مع تقديم رؤية لدروس الماضي واستشراف مستقبل أفضل.
**القسم الأول: الجذور التاريخية للتحالف والصراع**
١. تأسيس التحالف بين الكيزان بالجنجويد
*تحالف المصالح المؤقتة: ارتبط الكيزان منذ انقلاب ١٩٨٩ بالجيش وأجهزة الأمن كوسيلة للهيمنة على السلطة. تم استخدام مليشيات الجنجويد كأداة لقمع التمرد اينما كان والسيطرة على المناطق النائية.
*دعم لوجستي مقابل قمع سياسي: وفرت الحركة الإسلامية الدعم السياسي واللوجستي للجنجويد مقابل تنفيذ أجندتها القمعية
*تحول الجنجويد إلى قوة مستقلة: مع مرور الوقت، تحولت قوات الجنجويد إلى مليشيا مستقلة ذات طموحات سياسية وعسكرية بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).
٢. انهيار التحالف وصعود الصراع
*بعد سقوط البشير في ٢٠١٩: أعادت الحركة الإسلامية ترتيب صفوفها بينما سعت قوات الدعم السريع لترسيخ نفوذها، مما أدى إلى تنافس حاد على السلطة.
*تحول الصراع إلى حرب شاملة: ظهرت تناقضات التحالف بشكل صارخ، ما أدى إلى انهياره ودخول السودان في صراع مفتوح.
**القسم الثاني: الانفجار الكبير – صراع السلطة بين الكيزان بالجنجويد**
١. تصاعد التوتر وتحول التحالف إلى صراع
* الحرب المفتوحة منذ ٢٠٢٣: اندلعت المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل ٢٠٢٣، مما أدى إلى دمار شامل.
* الصراع على الموارد والنفوذ: بينما سعت قوات الدعم السريع للسيطرة على الموارد الاستراتيجية، حاول الجيش إعادة إحكام قبضته على الدولة.
٢. الأهداف والخلفيات
* السيطرة على الدولة: تعكس الحرب تناقضات النظام القائم وتحوله إلى مواجهة شاملة بين أدواته السابقة
* إعادة تشكيل النظام السياسي: يسعى كل طرف إلى فرض أجندته الخاصة، ما جعل من الحرب وسيلة لتحقيق أهدافهم الأنانية.
**القسم الثالث: التصفية العرقية والجهوية**
١. دارفور: استهداف المساليت
-* التوثيق الحقوقي: تقارير موثقة تشير إلى عمليات قتل جماعي وتهجير قسري للمساليت بهدف تغيير التركيبة السكانية في دارفور.
٢. النيل الأزرق: تصفية الفونج
-* قمع عرقي: نفذ الجيش السوداني عمليات تصفية عرقية استهدفت الفونج والمجموعات غير العربية بهدف السيطرة على الموارد.
٣. قوائم التصفية في وادي سيدنا:
– *الكشف عن الجرائم: تظهر قوائم التصفية استهداف المدنيين والعسكريين على أسس عرقية وجهوية، مما يعكس تصعيدًا خطيرًا في سياسات الإقصاء .
**القسم الرابع: الإعلام الكيزاني ودوره في تضليل الرأي العام**
١. استخدام الدين كسلاح للقمع و الارهاب
**من أبرز ملامح الحركة الإسلامية السودانية منذ تأسيسها هو ادعاء احتكارها للتفسير الديني والحق الحصري في إصدار الفتاوى، بما يخدم أجندتها السياسية والاجتماعية. وقد استُخدمت الفتاوى كأداة أيديولوجية لتبرير ممارساتها وتغليفها بغلاف شرعي، سواء كان ذلك في قمع المعارضين، فرض السياسات، أو حتى شن الحروب. وقد أدى هذا النهج إلى إفقاد الحركة الإسلامية مصداقيتها الدينية بين قطاعات واسعة من الشعب السوداني، الذين رأوا في هذه الفتاوى تلاعبًا مكشوفًا بالدين لتبرير ممارسات سلطوية.
* فتاوى التبرير: أفتى الشيخ عبد الحي يوسف بجواز نشر صور القتلى، في محاولة لتبرير العنف وارهاب الشعب
*ازدواجية الخطاب: يعكس هذا الخطاب تناقضاً صارخاً بين القيم الدينية والسياسات القمعية.
٢. الإعلام الانتقائي –
*تشويه الحقائق: لعب الإعلام الكيزاني دوراً رئيسياً في تقديم روايات مضللة، تهدف إلى دعم النظام وتضليل الرأي العام. مثلا قدم عثمان ميرغني نفسه كناقد إصلاحي، بينما تهرب من الإشارة إلى جرائم النظام
**القسم الخامس: التداعيات الإنسانية والاجتماعية**
١. الكارثة الإنسانية
– *نزوح الملايين: أدى الصراع إلى تشريد الملايين وانهيار البنية التحتية.
٢. تمزق النسيج الاجتماعي
*- تعميق الانقسامات: زادت الحرب من حدة التوترات العرقية والجهوية، مما جعل المصالحة الوطنية تحدياً أكبر.
٣. التدخلات الإقليمية والدولية
– *دور مصر والإمارات: ساهمت تدخلاتهما في تغذية الصراع و زيادة الانقسامات وتعقيد الأزمة.
**القسم السادس: نحو الخلاص – الدروس المستفادة وآفاق المستقبل**
**ربط الصراع بالحركة الإسلامية منذ ١٩٦٤**
١- جذور الصراع
*يعود جذور الصراع الذي يشهده السودان اليوم إلى أواسط القرن العشرين، عندما بدأت الحركة الإسلامية السودانية، بقيادة حسن الترابي، في الصعود كقوة سياسية واجتماعية. تأسست الحركة الإسلامية رسميًا في عام ١٩٦٤ خلال فترة الديمقراطية الثانية، واستغلت الساحة السياسية المفتوحة لتعزيز نفوذها. وقدمت نفسها كبديل إسلامي عن الأحزاب التقليدية، مركزة على شعارات دينية واجتماعية، لكنها سرعان ما أظهرت أجندة سلطوية تتجاوز الشعارات المعلنة.
٢-الصعود التدريجي: بناء التحالفات مع الجيش
*في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، بدأت الحركة الإسلامية في التغلغل في مؤسسات الدولة، مستهدفة بشكل خاص الجيش والأجهزة الأمنية. أدركت قياداتها أن السيطرة على القوات المسلحة هي مفتاح الوصول إلى السلطة المطلقة. وخلال هذه الفترة، دعمت الحركة انقلاب جعفر نميري عام ١٩٦٤ ثم تحالفت معه في السبعينيات، حيث استفادت من وجودها ضمن السلطة لبناء شبكات اقتصادية وسياسية موازية.
٣-انقلاب ١٩٨٩: نقطة التحول
*جاء انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩، الذي قادته الحركة الإسلامية تحت مسمى “ثورة الإنقاذ الوطني”، بمثابة تتويج لاستراتيجية طويلة الأمد لاحتكار السلطة. استغلت الحركة الإسلامية الجيش كأداة لفرض هيمنتها، لكنها سرعان ما أنشأت كيانات موازية، مثل “كتائب الظل” ومليشيات النظام العام، لضمان السيطرة الداخلية وتهميش أي معارضة داخلية أو خارجية.
*بعد الإطاحة بالبشير في ٢٠١٩، برزت الانقسامات الداخلية داخل الحركة الإسلامية وأذرعها المختلفة، خاصة بين الجيش والجنجويد. بينما سعت الحركة الإسلامية لاستعادة نفوذها عبر الجيش، حاولت قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي فرض أجندتها الخاصة، ما أدى إلى تفكك التحالف الهش واندلاع الحرب التي نراها اليوم.
٤-العلاقة مع الجنجويد: شراكة المصالح
*مع تصاعد التحديات الأمنية في السودان، خاصة خلال حرب دارفور (٢٠٠٣)، لجأت الحركة الإسلامية إلى تأسيس وتسليح مليشيات الجنجويد كوسيلة لقمع التمرد وضمان الهيمنة. اعتمدت هذه العلاقة على شراكة مصالح بين الطرفين: وفرت الحركة الدعم السياسي واللوجستي للجنجويد، بينما قامت المليشيات بتنفيذ الأجندة العسكرية والسياسية القمعية للنظام.
٥-تفكك التحالف: صراع السلطة بعد ٢٠١٩
*إن “التصفية الكبرى” بين الكيزان والجنجويد تمثل فرصة للسودان للتخلص من إرث عقود من الحكم القمعي والفساد. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا الهدف يتطلب رؤية وطنية شاملة تقوم على إعادة بناء المؤسسات السياسية والعسكرية على أسس مهنية ووطنية. كما يتطلب الأمر معالجة جذرية للأسباب التي أدت إلى هذا الصراع، بما في ذلك التهميش الاقتصادي والاجتماعي.
٦. إعادة بناء الدولة.
*يجب أن تكون هناك إرادة حقيقية من قبل القوى السياسية والمدنية في السودان لتحقيق انتقال سلمي إلى الحكم المدني الديمقراطي. وهذا يتطلب مواجهة التحديات بجرأة، والابتعاد عن الحلول المؤقتة التي لم تؤد إلا إلى تعميق الأزمات
*يجب إعادة بناء مؤسسات السودان على أسس مدنية وديمقراطية، بعيدًا عن الأيديولوجيات والانقسامات الجهوية.
٧.تحقيق العدالة الانتقالية
– *محاسبة المسؤولين:يتطلب الأمر محاسبة المسؤولين عن الجرائم، وتعويض الضحايا، وبناء الثقة بين مكونات المجتمع.
٨. دور المجتمع الاقليمي و الدولي
حماية المدنيين: دور أممي وإقليمي فعال لضمان حماية المدنيين وفرض حلول دائمة للصراع.
*لا يمكن تحقيق السلام والاستقرار في السودان بدون دور أممي فعال لحماية المدنيين وفرض حلول دائمة للصراع . ولن يكون هذا الدور فعالا بدون رقابة وحماية دولية و اقليمية متوافقة مع قرار مجلس الامن الذي أوقفته روسيا باستخدام حق الفيتو ؛ و بدون مواصلة قرار الاتحاد الأفريقي بعدم الاعتراف بانقلاب البرهان و تفعيل توصية ايقاد بإنزال قوات شرق أفريقيا لحماية المدنيين
الخاتمة
**يمثل الصراع بين الكيزان والجنجويد نموذجاً لفشل النظام القمعي القائم على الهيمنة والانقسامات. إن الخلاص من هذا الواقع يتطلب مواجهة جذرية مع الأسباب الحقيقية للصراع، وإعادة بناء السودان على أسس وطنية عادلة.
تمهيد للعنوان الرابع: إعادة بناء السودان – التحديات والآفاق
ستتناول الورقة القادمة:
١. وضع خارطة طريق لإعادة بناء المؤسسات الوطنية.
٢. تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
٣. رسم رؤية شاملة لمستقبل السودان كدولة موحدة ومستقرة.