اخبار السياسية الدولية والاقتصاد

حين تخلى الجولاني عن لباس “القاعدة” وارتدى البنطال

 

ملخص

حياة الجولاني مليئة بالأحداث، فهو شخصية براغماتية يصعب على من يراقبه أو يعرفه عن قرب توقع خطواته المقبلة. وبعدما أصبح مقرباً من قائد التنظيم في العراق “أبو مصعب الزرقاوي” لعب دوراً في تأسيس “جبهة النصرة”، وعين أميراً لها في يناير 2012 بدعم من “أبو بكر البغدادي” الذي وفر له الموارد الكافية لإنشاء منظمته. ومع ذلك سرعان ما اختلف مع البغدادي وأعلن تأييده لأيمن الظواهري، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات واسعة بين “القاعدة” من جهة وجبهة “النصرة” من جهة أخرى.

سريعاً ظهرت جبهة “النصرة” الفرع السوري لتنظيم “القاعدة” مع احتدام المعارك بين الجيش النظامي والمعارضة السورية المسلحة في عام 2011 وحجزت لنفسها مكانة متقدمة مع بزوغ مجموعات متشددة متعددة الانتماءات، في هذا الوقت أثبتت “النصرة” قدرة على السيطرة والتخطيط، إضافة إلى حضورها بين أقرانها من الفصائل المتشددة، وساعد تقدمها في الساحات الميدانية خلال فترة الصراع خبرة عناصر التنظيم وتمرسهم بالأعمال القتالية.

وكما الظهور الصارخ مع بداية الصراع الأهلي لـ”النصرة”، والتي اندمجت في عام 2016 مع حركات متشددة عدة، وتوحدت تحت راية “هيئة تحرير الشام” يترقب اليوم المراقبون أن نجم الهيئة يتجه للأفول، وليس لدى زعيم الهيئة “أبو محمد الجولاني” كثير من الخيارات، والتي أخذت بالتضاؤل مع اقتراب التسويات خارجياً، ولا سيما مع اقتراب جلوس صاحب البيت الأبيض الجديد، دونالد ترمب لولاية ثانية يتوقع مراقبون أميركيون سحب قواته من سوريا، بالتوازي مع احتجاجات شعبية ساخطة، تطالب بإسقاط زعيم الهيئة.

الجولاني” الاسم غير الحقيقي لأحمد حسين الشرع، وتتضارب الروايات حول اسم آخر هو أسامة الواحدي، كما يتحدث عديد من المصادر عن ولادته في دير الزور ونشأته في محافظة إدلب، قبل أن يتجه لدراسة الطب البشري لعامين متتالين، بعدها ترك الدراسة واتجه ملتحقاً في عام 2003 بتنظيم “القاعدة”.

حياة الجولاني مليئة بالأحداث، فهو شخصية براغماتية يصعب على من يراقبه أو يعرفه عن قرب توقع خطواته المقبلة. وبعدما أصبح مقرباً من قائد التنظيم في العراق “أبو مصعب الزرقاوي” لعب دوراً في تأسيس “جبهة النصرة”، وعين أميراً لها في يناير (كانون الثاني) عام 2012 بدعم من “أبو بكر البغدادي” الذي وفر له الموارد الكافية لإنشاء منظمته. ومع ذلك سرعان ما اختلف مع البغدادي وأعلن تأييده لأيمن الظواهري، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات واسعة بين “القاعدة” من جهة وجبهة “النصرة” من جهة أخرى.

طريقة متشددة بالعيش

في عام 2017 رجحت كفة المعارك والاشتباكات لصالح القوات النظامية بدعم روسي الذي حضر عسكرياً منذ سبتمبر (أيلول) عام 2015، وبدعم إضافي من الحليف الإيراني منذ عام 2013 وأعادت دمشق إلى سيطرتها على الأجزاء التي سيطرت عليها المعارضة من حمص وحلب وريف دمشق وأخذت تتسع لمحاربة تنظيم “داعش” بمساندة من سلاح الطيران الروسي، والذي لعب بدوره عبر مركز المصالحة الروسي ومقره في قاعدة حميميم في ريف اللاذقية، دوراً مهماً بالمفاوضات، وخرج المسلحون من مناطق سيطرتهم بعد تسليم أسلحتهم للسلطات مع عائلاتهم إلى مدينة إدلب وريفها، حيث عجت المنطقة بالفصائل المسلحة.

في هذه الأثناء رفض السكان المحليون في إدلب حكم التنظيمات المتشددة، ومنها “هيئة تحرير الشام”، وفضل جزء كبير من السكان أن تبقى منطقتهم ضمن نفوذ المعارضة المسلحة التي أطلق عليها آنذاك “الجيش الحر” قبل أن تنتقل مجموعاته لتنضوي تحت تسمية “الجيش السوري الوطني” المعارض بدعم تركي.

في عام 2019 انتزع الجيش النظامي مناطق مثل سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون، وتمكن من تحقيق إنجاز بفتح الطريق الدولي الواصل بين (حلب ودمشق) بعد سنوات طويلة من الإغلاق، وفي جولة لـ “اندبندنت عربية” في تلك المدن حين انسحاب الهيئة منها يمكن ملاحظة آثار الدمار الهائل، حيث دارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين.

وإن بقيت المناطق التي أعادت القوات الحكومية السيطرة عليها ما زالت توصف كمدن أشباح، إلا أن الجدران تحكي عن أسلوب حياة الناس، وكيف كانت جبهة “النصرة” تفرض عليهم طريقة متشددة بالعيش، يمكن مشاهدة هذا بما تبقى من جدران كتبت عليها عبارات وسط الخراب والدمار: “الأرغيلة حرام” و “الاختلاط حرام” “اعفوا اللحية”، وكلها بتوقيع من فصائل متشددة كانت تشرف على حكم المنطقة بحد السيف مثل حركة “أحرار الشام” وجبهة “النصرة”، وفي حين سمح لأهالي تلك البلدات في ريف إدلب بالعودة، إلا أنها تبقى محدودة مع مساعٍ بعودة إحياء المنطقة.

وبالحديث عن خطوات الجولاني غير المتوقعة، وفي مسعى إلى تشكيل “دويلة” في إدلب عمد إلى إخلاء وتحجيم كل القياديين، وحتى من المقربين منه، وأبرزهم “أبو ماريا القحطاني”، والذي يعد ذراعه اليمنى في التنظيم اعتقله بسبب التخابر مع الخارج وأفرج عنه لاحقاً، ولقى مصرعه بعد ذلك بتفجير عبوة ناسفة، وعمد على تحجيم أنشطة حركة كا تسمى “حراس الدين” والاستيلاء على أسلحتها الثقيلة، واعتقال عناصرها مع توسع طموحاته السياسية والعسكرية.

إطلالة صادمة

وأطل رجل تنظيم “القاعدة” في سوريا في مقابلة تلفزيونية شكلت حينها صدمة لكل متابعي رجل “القاعدة” الأول في سوريا، ففي الأول من فبراير (شباط) من عام 2021 ظهر “أبو محمد الجولاني” بلباس مدني، يرتدي بدلة رسمية متخلياً عن اللباس المعتاد لأفراد وقادة “القاعدة”، كالذي كان يظهر به أسامة بن لادن، وبقية أفراد حركة “طالبان” في أفغانستان.

في المقابل لم تترك تصرفات أمير “النصرة” في إدلب وسلوكه العصري أي تأثير في الغرب، بل ظلت المكافأة المالية التي أطلقت من قبل برنامج “مكافآت من أجل العدالة” التابع لوزارة الخزانة الأميركية، والتي تقدر بـ10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه سارية، وأبدت المنظمة سخرية عبر حسابها الرسمي على منصة “إكس” بعد ظهوره بالبدلة الرسمية، وقالت “تستطيع تغيير ثوبك، لكنك تبقى إرهابياً”.

وكانت وزارة الخارجية الأميركية أعلنت في مايو (آيار) من عام 2013 اسم الجولاني ضمن قائمة المنع الخاصة بالإرهابيين العالميين، ووضعت لجنة العقوبات الخاصة بـ”داعش” و”القاعدة” لمجلس الأمن الدولي أيضاً اسمه ضمن قوائم المطلوبين.

في المقابلة التي أجراها معه الصحافي الأميركي ومراسل “فرونت لاين” مارتن سميث لم يتوقف الجولاني عن بث رسائل الطمأنينة للولايات المتحدة وأوروبا والغرب بعدما صنفته وجبهة “النصرة” في عام 2012 بالمنظمة الإرهابية.

لقد عد فريق من المتابعين ذلك في حينها بمثابة “صك مصالحة” أراد بها صورة جديدة له بعدما مزق السراويل الفضفاضة والعمائم، بل أبدى فتح صفحة جديدة مع الغرب، وهو ما أشار إليه في حديثه “هيئة تحرير الشام لا تمثل تهديداً لأمن أوروبا وأميركا، وهذه المنطقة ليست نقطة انطلاق لتنفيذ (الجهاد الأجنبي)، ارتباطي بالقاعدة انتهى، وحتى في الماضي كانت جماعتي ضد تنفيذ عمليات خارج سوريا”.

حماية الأقليات

ومنذ ذلك الوقت طالب الجولاني عبر وسائل الإعلام الأميركية “إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب”، بل اعتبر تصنيفه بين قوائم الإرهابيين بـ”غير العادل والسياسي”، بحسب وصفه، كما أطلق بعد أسبوعين من المقابلة تلك سراح الصحافي الأميركي، بلال عبدالكريم المحتجز في سجون الهيئة، حيث كانت الجماعة اعتقلته في أغسطس (آب) من عام 2020، وذلك بعد حديث سميث في حواره مع الجولاني عن اعتقالات لناشطين وصحافيين.

في المقابل كشف المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري عن وقف استهداف واشنطن للجولاني مباشرة، وهذا ما فسره مراقبون بنجاح مناوراته السياسية، في وقت رجح فريق تخلي أنقرة عنه، بخاصة أن روسيا تشحذ سلاحها للقضاء على هذا التنظيم الذي يتعاظم شأنه مع الوقت، وهو ما يفسر شن سلاح الجو الروسي لغارات متلاحقة في مناطق نشاط رجالات “النصرة”، بينما الجولاني يذهب إلى إجراء تدريبات عالية الدقة تحضيراً لعملية عسكرية خاطفة، وحسب المعلومات الواردة أن قوات النخبة ومنها ما يسمى “العصائب الحمراء” تتحضر لتنفيذ عمليات خاطفة على خطوط التماس، ومن شأن ذلك تحقيق انتصار أمام الرأي العام الغاضب في إدلب، والذي يطالب بإسقاط الجولاني.

خلع ثوبه القديم

يواصل زعيم “النصرة” الجولاني بث رسائل التقرب عبر خلع ثوبه القديم، فمن لباسه العسكري لتنظيم “القاعدة” إلى لباس “الموضة” يحرص الجولاني على الخروج للعلن بمظهر عصري، ويتحين في كل فرصة خلال اجتماعات أو مناسبات يحضرها إضفاء لغة الاعتدال، والسعي وراء إلغاء الصفة المتشددة عن منظمته دون كلل أو ملل في حين ظلت الإشارات الواصلة من الولايات المتحدة تصر على موقفها حتى ولو خلع عباءته “القاعدية”.

افتتاح كنيسة

اللافت للنظر أنه وفي العام سبتمبر (أيلول) من عام 2022 سعى إلى زيارة لوجهاء من الطائفة المسيحية، والتقى مع من بقي منهم بعد هجرة الغالبية من ريف إدلب بعد سيطرة التنظيم على المنطقة قبل سنوات، وأعطى موافقته بافتتاح كنيسة آنا في بلدة اليعقوبية وإقامة الصلاة فيها وللمرة الأولى منذ 10 سنوات بشرط عدم قرع أجراس الكنيسة، كما تواصلت الهيئة من قبل مساعدي الجولاني مع عائلات مسيحية مهجرة دعتهم فيها إلى العودة لبيوتهم وأراضيهم، في إشارة تبتعد عن أسلوب المتشددين في كثير من المناطق التي دخلوا إليها في سوريا.

في هذه الأثناء لم تبدِ الأطراف الدولية حيال السياسة المرنة للجولاني أي تجاوب، لكنه استمر في التعامل مع أفراد تنظيمه بأسلوب مختلف. فلم يقتصر تغييره على مظهره الشخصي فقط، بل امتد إلى القوة العسكرية للهيئة، حيث شكل جيشاً نظامياً وسعى إلى إنشاء كلية حربية. كما ارتدى العناصر زياً عسكرياً موحداً، وأصبحت تقام مراسم استقبال لزعيمهم تشبه استقبال الرؤساء والزعماء خلال تنقلاتهم. وحرص على حضور تخريج أول دفعة من الكلية التي منحت خريجيها صفة “ضابط”، وكانت تضم نحو 400 شخص في محاولة لإضفاء أهمية على هذا الحدث. ومن جانب آخر لإيصال رسالة جديدة أن تنظيمه يبتعد عن طريق عمل الجماعات المتشددة والمتطرفة بل يحاكي أسلوبه الجيوش النظامية للدول، علاوة على تشكيل حكومة أطلق عليها “حكومة الإنقاذ”.

“تقديم قرابين”

وحاول قمع أغلب الفصائل التي لم تتفق مع نهجه الجديد في محاولة لتلميع صورته، بل وقدم كثيراً من القرابين لهذه الغاية، ومنها حل هيئة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

وفي وقت عادت فيه دمشق إلى الجامعة العربية يرى الجولاني لزاماً أن يحجز له موقعاً مؤثراً، لا سيما الحديث عن عودة العلاقات بين تركيا وسوريا، وأشار تقرير أميركي إلى أن هذا التحول يأتي “في ظل ازدياد العزلة اتجاه هيئة تحرير الشام التي يتزعمها”.

ومع كل ذلك يحاول زعيم “القاعدة” بلباسه الحديث والعصري تغيير الصورة المتشددة ليستطيع انتزاع التأييد الدولي له وشطب اسمه من قوائم الإرهاب تمهيداً ليكون حاضراً في مرحلة المفاوضات لترتيب سوريا، ومع ذلك من المستبعد كسب واشنطن وأوروبا ولا حتى روسيا، بخاصة أنها تتهمه بالتعاون مع الاستخبارات الأوكرانية، وهذا ما أعلنه أخيراً المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف عن رصد بلاده تلك العناصر “وستتعقبها، وتعمل على القضاء عليها”.

تستمر محاولات الجولاني وسط الاحتجاجات الشعبية التي اتقدت جذوتها منذ مطلع العام، واتسعت لتعم إدلب وريفها احتجاجاً على الاعتقالات والأسلوب القمعي، بالإضافة إلى الهيمنة التركية على قرار الهيئة، علاوة على عدم فتح جبهات معارك وجهاً لوجه مع القوات النظامية التي انتزعت في أبريل (نيسان) من عام 2019 ريفي إدلب الجنوبي وحماة الشرقي في محاولة للتخلص من استئثاره بالسلطة، والرهان دعم تركيا له أو التخلي عنه في أول مفاوضات دولية لترتيب أوراق المنطقة.

اندبندنت عربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..