طرحت ادلتي التي تشير الى طقوسية قوى الحرية والتغيير الاولى، حين كانت تضم بالفعل أوسع تحالف شهده السودان، قبل الانسحابات والانسلاخات المعروفة، طرحت ذلك في مقالي (تخليص السودان من براثن حرب لا تُبقي ولا تذر.. القضاء على المؤسسة السودانية الطقوسية واجتراح ترتيبات مؤسسية جديدة أو الانهيار “4”). حان الوقت الآن للحديث عن وقوع تقدم في حبائل الطقوسية منذ مؤتمرها التأسيسي، وبالطبع هذا يرتبط بطقوسية قوى الحرية والتغيير الثانية التي انقلب عليها المكون العسكري في 25 أكتوبر 2021.
لكن قبل ذلك دعني اشرح قليلا كيف من ممكن أن يتحول شعار مشترك او مفهوم يعتنقه الناس او هدف عزيز الى مجرد مقولة او شعار طقوسي (Ceremonial). في عام 2016 نشر Pew Research Center تقرير يخلص الى أن إسرائيل، التي تزعم أنها واحة الديمقراطية في الشرق الاوسط، تعاني من انقسام يتعلق بالدين حينما يتعلق السؤال بالتناقض بين الدين ومبادئ الديمقراطية. الانقسام لم يكن بين اليهود والمسلمين والمسيحيين من عرب إسرائيل بل بين اليهود أنفسهم. معظم اليهود على اختلاف طوائفهم يتبنون شعار إن اسرائيل يمكن أن تكون دولة ديمقراطية وفي نفس الوقت دولة يهودية. ولكن نتيجة الاستبيان حول السؤال: ماذا إذا تناقض اتخاذ القرار السياسي الديمقراطي واصطدم بالقانون اليهودي المعروف (Halakha)؟ 89% من الطائفة اليهودية المعروفة بالحريدية صوتوا في صالح تغليب القانون اليهودي. إذن الحديث عن اسرائيل كدولة ديمقراطية بالنسبة للأغلبية من هذه الطائفة، وهم يصدقون ذلك، عبارة عن شعار طقوسي ليس له معنى، خاصة إذا اخذنا في الاعتبار حقوق المواطنين الآخرين من المسلمين والمسيحيين والدروز الذين يعيشون تحت ظل هذا النظام.
لنعود للحديث عن قحت الثانية: نحلت واضمحلت قوى الحرية والتغيير الثانية وهى تحكم، أو بالاحرى كما كانت تظن إنها تحكم في شراكة مع المكون العسكري. لم تعد قوى الحرية والتغيير كما كانت ذاك التحالف العريض، فقد وهن جسد التحالف مع انسلاخات هذا المكون او ذالك وضاق المكون التحالفي، وبالتالي ضاقت دائرة نفوذه مع إنعدام التعاون المؤسسي في المجتمع السياسي السوداني، خاصة بعد إنقسام تجمع المهنيين (هنا لابد أن أشدد أنني لا أحمل قحت وحدها مسؤولية انعدام التعاون المؤسسي، احمل ذلك لكل اقسام الحركة المدنية السودانية، فهي جميعا تتحمل المسؤولية دون استثناء).
لكن اصرّت قحت الثانية على أن تواصل كحكومة على أساس أنها الممثل العريض للشعب فواصلت المشوار الوطني معتمدة على الرصيد القديم للتحالف الأول الذي نفذ بالانسحابات وانقسام تجمع المهنيين. واصلت قحت المشوار متجاهلة خفة وزنها والوسائل المبذولة تحت يدها مما اغرى العسكريين بالانقلاب على الثورة والشروع في تصفية الثورة وإعادة النظام القديم تدريجيا.
هنا تحول شعار أوسع جبهة مدنية الذي تحقق بالفعل في أكتوبر 1964 وفي مارس/ابريل 1985 وفي يناير 2019 إلى شعار طقوسي خالى من معنى حقيقي. لم تنتبه قحت وهي تفاوض حول الاتفاق الاطاري لهذه الحقيقة بينما كان العسكر يفاوضون وفي نفس الوقت يسنون سكاكينهم لبعضهم البعض بل للجميع.
ومن هنا بذرت بذور الطقوسية في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” منذ مؤتمرها التأسيسي الذي اختتم جلساته في 30 مايو 2024 بأديس أبابا. ظهر ذلك جليا في البيان الختامي لتقدم. ركزت التصريحات التي سبقت المؤتمر على العدد الكبير للمشاركين (600 إلى 670).
وكذلك ركز البيان الختامي على عرض وسعة المؤتمر. يقول البيان الختامي: “شارك فيه أكثر من 600 عضو جاؤوا من ولايات السودان ال 18 ومن 24 دولة من المهجر وشكلوا اكبر جبهة مدنية لإنهاء الحرب وتحقيق السلام والمحافظة على وحدة السودان وسيادته واستكمال ثورة ديسمبر المجيدة وبناء السودان على أسس جديدة.” بل قال البيان الختامي: “هذا المؤتمر حدث تاريخي يحدث لأول مرة في تاريخ البلاد من حيث عدد المشاركين وتنوعهم وشمول تمثيلهم.” هذا ليس صحيح! اللهم الا من ناحية طقوس وبروتوكولية. هنا يتواصل الإيحاء بتحقق الشعارات العزيزة على الحركة المدنية وهي تقاوم من أجل السلام والديمقراطية: (أوسع جبهة)، (أكبر جبهة)، (جبهة عريضة) ..الخ.
الواقع ليس كذلك، هذه ليست أكبر جبهة وأوسع جبهة وليس حدث تاريخي يحدث لأول مرة في تاريخ البلاد. أكبر جبهة والأكثر عددا وتنوعا حدثت عندما اتحد تحالف (نداء السودان) و(قوى الإجماع الوطني) بمكوناتهم المختلفة وتحالف القوى المدنية وتجمع المهنيين كاملا غير منقسم لتكوين قوى الحرية والتغيير في يناير 2019. أكبر حدث كان قحت الاولى التي اسقطت البشير ونظام المؤتمر الوطني. يمكن أن تكون عبارة بيان تقدم الختامي أكثر دقة إذا قالت اوسع جبهة متوفرة لنا الآن. وإذا قال قائل إننا قلنا أوسع جبهة ضد الحرب فإنني أقول إنها ليست أوسع جبهة ممكنة. وقد نجح الإيحاء تماما من كثرة ترديده.
قال السيد الصديق الصادق المهدي مباشرة بعد ختام المؤتمر أن “مشاركة الحركة الشعبية شمال والاتحادي الأصل والمؤتمر الشعبي في المؤتمر التأسيسي للقوى المدنية (تقدم) يؤكد نجاح لمساعي توحيد الجبهة المدنية العريضة” هكذا جاء عنوان الخبر في صحيفة (التغيير) المنحازة لتقدم.
ولكن في صلب الخبر خففت الصحيفة من لغتها قليلا لتقول “يؤكد صدق المساعي لتوحيد الجبهة المدنية العريضة.” ربما تم ذلك التخفيف نتيجة لدربة المحرر ودقته (التغيير 28 مايو 2024). ولكن في نهاية الأمر يتواصل الإيحاء الطقوسي.
رغم ان تصريح السيد الصديق المهدي يحمل بعض الحقيقة فقد حضرت الجبهة الشعبية شمال المؤتمر بصفة مراقب وليس عضوا في تقدم. اما الاتحادي فقد اعلن تبرؤه من مشاركة القيادي البارز في التنظيم، إبراهيم الميرغني، في مؤتمر تقدم وانه مثل التنظيم بصفة مراقب (سودان تربيون، 27 مايو 2024)، بينما نفى الاتحادي الأصل في تصريحات اخرى احد لهجة مجرد تفويضه او أي شخص آخر لحضور المؤتمر. ايضا، حين كتب الاستاذ فيصل محمد صالح مقاله (مؤتمر “تقدم” .. آمال وتحديات) لم يتخلى عن دقته المعهودة حيث كتب “هذا المؤتمر جرى وصفه بانه أكبر حشد لعمل سياسي في تاريخ السودان الحديث، واوسع تحالف من نوعه …” لا أحد يستطيع أن ينازع الأستاذ فيصل هنا فقد قال “جرى وصفه” ولم يقرر ذلك كتصريح من عنده. لكن الأستاذ فيصل يعود ويقول في نفس الفقرة:”.. وتحمل كشوفات المدعوين، التي أتيح لي الاطلاع عليها، تمثيلا متنوعا وثريا لكل هذه الفئات .. (صحيفة التغيير 1 يونيو 2024). لكن ليس كل تمثيلا متنوعا يعكس تمثيلا حقيقيا لقطاعات الشعب المختلفة، مثلما رأينا تاريخا في (تحالف قوى الشعب العاملة).
ينداح الإيحاء وينتشر كحقيقة مؤكدة، ولا لوم على المؤيدين، فالفتنة بالطقوسية والوقوع في حبائلها والتوهم بأن لدينا حلا جاهزا سهلا أمرا مغريا. تسرب إدعاء ان تقدم أوسع جبهة سودانية مدنية في التاريخ الى تعليقات القُراء في الصحف اونلاين. على سبيل المثال نشرت محررو الراكوبة تقرير بعنوان (مؤتمر “تقدم”.. كواليس لم تنشر) علق احد القُراء يكتب باسم العجوز:”تقدم هي أكبر تحالف مدني في تاريخ السياسة السودانية ويمثل جميع ألوان الطيف المؤمن بمدنية الدولة والديمقراطية وبشعارات ثورة ديسمبر في الحرية والعدالة والسلام. تقدم تمثلني” (الراكوبة، 3 يونيو 2024). رغم اتفاقي مع العجوز في كل الاوصاف الإيجابية التي وصف بها تقدم، الا انه ببساطة ليس صحيحا أن تقدم أكبر تحالف مدني في تاريخ السياسة السودانية. كما علق أحد القراء ردا على الكاتب نضال عبد الوهاب، حين اقترح الحوجة الى تحالف جديد، بأن “تقدم هي أكبر تحالف في تاريخ السودان” وصب جام غضبه على الشيوعيين والبعثيين والكيزان والدعم السريع (الراكوبة، 7 سبتمبر 2024).
بكل وضوح تقدم مسؤولة عن إطلاق هذا الإدعاء وهو إدعاء فيه ضرب ممعن من الطقوسية ويعيق في واقع الأمر الحوار بل يغلق ابوابه. أود أن أقول هنا إذا كان لدينا اكبر جبهة في تاريخنا السياسي، إذن ما هي الحاجة للآخرين؟ ويعلم قادة تقدم أن هنالك أصوات تتعالى داخل الأحزاب التي ترفض الجلوس معها بالدعوة الى كسر الجمود وتغيّر وجهتها نحو العمل المشترك. لماذا تخلق الجدار أمام حلفاء محتملين؟ قبل أن استمر في توضيح طبقة اخرى من طبقات الطقوسية في ممارسة تقدم، يجب أن أنبه هنا – كما نبهت في نقدي للحزب الشيوعي السوداني وزعمى بأنه هو الآخر تحول إلى حزب طقوسي في ممارسته – إنني عندما اقر في كتابتي أن هذا أو ذاك السلوك إنما هو سلوك طقوسي، أو أن أقول أن هذه او تلك السمة من سمات المؤسسة هي سمة طقوسية، فإنني لا أعيب أو اشتم أو أقلل من شأن منظمة أو جماعة أو تحالف. وإنما احاول مقاربة علم مدرسي على واقع شائك ومعقد. وإنني انطلق من فهم يستند على ان كل المؤسسة السودانية السياسية السودانية بجميع مكوناتها قد انحدرت الى الطقوسية وانها في طريقها للإنهيار ولذلك السبب على وجه التحديد يكاد أن ينعدم التعاون المؤسسي كملمح بارز من ملامح الطقوسية.
إذا عدنا للبيان الختامي للمؤتمر التأسيسي لتقدم، نجد ذلك الاهتمام والتركيز على الأرقام – عدد الحاضرين وتنوعهم. يقول البيان الختامي:” … حيث تشكلت 18 آلية تمهيدية في ولايات السودان من مكوناتها السياسية والمدنية والاجتماعية، واختارت هذه الآليات 250 عضواً من القوى السياسية والمجتمع المدني والأهلي ولجان المقاومة والمهنيين والنقابات، وخصصت لكل ولاية مقاعد تتناسب وثقلها السكاني شكل مرآة لتنوع وتعدد السودان، كما نشأت آليات تمهيدية للسودانيين في 24 مهجراً اختارت 135 عضواً. لم يقتصر التمثيل على هذه الآليات فحسب، بل شمل 10 فئات نوعية هي المبدعون والمثقفون، المزارعون، الرعاة، الإدارات الأهلية، الكيانات الدينية، اللاجئون والنازحون، ذوو الإعاقة، المجموعات النسوية، أصحاب الأعمال، العسكريين المفصولون تعسفيا.” التنوع جيد ولكن هذا التنوع على وجه التحديد كان تجمع طقوسي كما سأبين أدناه. المكونات السياسية والنقابية لقحط الثانية التي ابتدرت تشكيل تنسيقية تقدم معروفة. هذه الآليات المشار إليها اعلاه التي اختارت 250 عضواً من التكوينات المدنية والأهلية والنقابية والمهنية حتى المزارعين والرعاة اعادت تدوير عضويتها في ثياب جديدة.
الكثير من هؤلاء الذين تم تقديمهم كإضافة نوعية لقحت الثانية هم في الحقيقة ينتمون لتكوينات قحت في الاصل، او قاموا بتمثيل ناقص لمكونات قحت الأولى التي تأسست في يناير 2019، وسأعطي هنا عدة أمثلة: 1- الاستاذة منى سيف الدين التي قدمت كلمة المهنيين والنقابيين هي في الأصل عضوة بل من المؤسسين لتجمع البيئيين وذلك التجمع هو احد التنظيمات شبه النقابية الاربعة التي رفضت انتخابات تجمع المهنيين [مع العلم انني اتفق معها في رفض تلك الانتخابات ووصفت تلك الانتخابات بأنها هي الأخرى Ceremonial في مقال سابق].
لكن في نهاية الأمر الاستاذة منى لا تمثل كل الاجسام النقابية بل شريحة منهم، وهي الشريحة الاصغر، والتي سبق ان تحولت الى جانب قحت الثانية في وقت باكر.
2- الناظر مالك أبوروف ممثل الإدارة الأهلية ومقدم كلمتها في المؤتمر هو احد قيادات حزب الأمة المعروفين. وقد كان بعض من قادة حزب الأمة حاضرا في مراسيم تنصيبه عندما عزل الناظر السابق لقبيلة رفاعة الهوى، يوسف أحمد يوسف ابوروف (اخبار السودان، 2 ديسمبر 2019).
مع كل التقدير للسيد الناظر ونضاله من أجل مجتمع سنار والسودان قاطبة.
3- الاستاذة هادية حسب الله، وهي مدافعة عن حقوق الانسان قوية العارضة ومشهود لها، قدمت كلمة كممثل للمجتمع المدني.
لكن في الواقع لا تمثل المجتمع المدني كله، وعلى وجه التحديد لا تمثل التحالف المدني الذي كان ممثلا في قحت الاولى وشارك في المفاوضات مع العسكر وفي النهاية اختار الأستاذ مدني عباس مدني كأحد وزراء حكومة حمدوك الاولى.
4- الأستاذ عبد الرحيم محمد الشيخ الذي قدم كلمة عن لجان المقاومة لا يمثلها جميعها فقد أنكرت تنسقيات لجان مقاومة مدينة الخرطوم صلته بها، بينما احتضنت لجان اخرى تمثيله.
نفس الانقسام الملعون بين الجذرين وقحت الثانية الذي أخذ لجان المقاومة تحت ارجله.
5- ممثل المزارعين، الذي انتقد الدعم السريع في كلمته، هو في الواقع عضو في احد تنظيمات السياسية المنضوية تحت قحت الثانية. السيد إبراهيم رانفي عضو في التجمع الإتحادي. يمكن اعطاء المزيد من الامثلة، ولكن ذلك لن يضيف الكثير، فكما سقط الحزب الشيوعي السوداني والجذريين في شراك الطقوسية، وُلدت تقدم والطقوسية تتقمصها من أعلى رأسها إلى اخمص قدميها.
لا سبيل للخروج من هذا المأزق التاريخي للمؤسسة السودانية الآفلة الا بمد جسور التعاون المؤسسي والخروج من ممارسة سياسة الطقوس والبروتوكولات المكرورة.