الخيار الوحيد الذي لم يصبر عليه السودانيون
خالد فضل
الخيار الذي لم يصبر عليه السودانيون منذ الإستقلال وحتى الآن , هو ممارسة اختيار من يحكمهم , وفق معادلة كيف يحكم السودان , الفرضية الأخيرة تحوز على موافقة الأغلبية تقريبا , حتى في ظل كل الأنظمة العسكرية الديكتاتورية جرت محاولات لتطبيق هذه الفرضية , إذ هناك شبه إجماع على الديمقراطية بأي صورة واللامركزية بصيغة أو أخرى , هناك بعض الممارسات ذات الطبيعة الديمقراطية غض النظر عن محتواها , مثلا وجود برلمان تحت ظل كل الحكومات العسكرية , سلطة قضائية تتمتع بنوع من الإستقلالية شكليا على الأقل , السماح بتكوين نقابات ولو كان مسيطر عليها , إجراء استفتاءات وانتخابات كيفما أتفق , تسجيل الأحزاب وفق قانون ما وغيرها من ممارسات تشكّل عناوين للنظام الديمقراطي . الشكوى مستمرة من شكلانية هذه الواجهات في ظل الأنظمة الديكتاتورية العسكرية . ولكن في المقابل نجد أنّ هذه الأنظمة على طبيعتها العسكرية لم تعدم السند والمشاركة من جانب المدنيين , وتولى نفر كثير من المتعلمين المفترضين من حملة الدكتوراة وصفة البروفسير مناصب ووزارات ومؤسسات حكومية , وبعضهم ممن كانوا رموزا في العهد الديمقراطي المنقلب عليه , فهل ندمغهم جميعا بصفة واحدة (الإنتهازية) لأنهم قبلوا أن يظلّ العسكري الحاكم هو المسيطر وصاحب القرار الأخير , بصفته التي استولى بها على الحكم بالإنقلاب على سلطة كان يقودها المدنيون ؛ وآخر النماذج قبول د. عبدالله حمدوك بالعودة لمنصب رئيس الوزراء الإنتقالي تحت قرارات قائد الجيش في 25 أكتوبر2021م ! .
هنا نأتي لما لم يجربّه السودانيون بعد , وهو الصبرعلى ممارسة حق إختيار من يحكهم وما يوافقون عليه من برنامج لدورتين متتاليتين فقط مدتهما ثمان سنوات . هذه التجربة الوحيدة الغائبة ربما كانت هي مفتاح الحل بعد تجريب وفشل كل الحلول. ومعروف أنّ السلطة المدنية الحزبية التي جري انتخابها لأول مرّة بعد الإستقلال , وعقب ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل1985م لم يتح للمواطنين ممارسة حقّهم الثابت في محاسبتها , وبالتالي إعادة انتخابها أو تغييرها بانتخاب غيرها عند انتهاء أجلها المحدد بأربع سنوات . في تقديري لو أنّ هذه الممارسة حدثت لكان الحال قد استقرّ على تلك الطريقة , ببساطة لأنها طريقة سلمية لا تكلّف الناس فقدان شهيد واحد ؛ والأرواح هي أغلى ما يهدر في الطريق لاستعادتها في مواجهة الممارسة العسكرية العنيفة للسياسة والسلطة.
كان يمكن تصوّر وضع مختلف فعلا , مثل : وجود جيش واحد ملتزم بحدود مهنته , سلطة قضائية مستقلة تماما يخضع لها الرئيس مثله مثل أي مرؤوس , برلمان يمثل المواطنين وفق اختيارهم بالأغلبية , صحافة وإعلام حر مهني يلتزم بأخلاقيات وميثاق شرف أدبي أكثر منه تأديبي , منظمات مجتمع مدني حقوقية تملأ المساحة بين الحكومة والشعب بحرية ونزاهة تحت مظلة مؤسسات قانون تحفظ وتحمي حقوق الجميع . أحزاب وتنظيمات سياسية محدودة العدد تمارس الشفافية والديمقراطية في أروقتها وتعالج اختلافاتها بذات الوسائل بما في ذلك مغادرتها أو تكوين أحزاب جديدة كما يحدث الآن في دول مثل إسرائيل أو فرنسا أو جنوب إفريقيا . والأهمّ من ذلك أنّ التجربة الديمقراطية تمتلك آليات ووسائل تطويرها وتقويمها بداخلها , وهي الوسائل التي تفتقر إليها الأنظمة الشمولية والعسكرية في بنيتها .
المشكلة هي عدم الصبر , الشخصية السودانية في أغلبها تتميّز بالشفقة في إصدار الأحكام والتمترس خلفها وعدم المرونة في التراجع عنها عند اكتشاف خللها , هناك إصرار شديد لدى معظمنا على فكرة (لو طارت برضو غنماية) هذه الشفقة والعناد لحصد النتائج , وعدم تقبّل منحنى الهبوط في التجربة الديمقراطية هو السبب الرئيس في تقديري في وأد التجربة قبل إكتمال معطياتها . معظمنا يريد للتجربة الديمقراطية أن تولد مكتملة ليس فيها شق أو طق (من العدم في كل مرّة) , تسير في مسار صاعد وفق تمنيات كل فرد على حده , وهذا هو المستحيل طبعا . قرأت حكمة ذات دلالة في كلمة نشرت مؤخرا للدكتور فرانسيس دينق تقول : (إذا كانت الرغبات هي الخيول فإنّ المتسولين سيركبونها) . لابد من قليل من الواقعية , وهو ما يرفضه جُلنا بعقلية يا غِرِقْ يا جيت حازِما , والمفارقة أنّ بعض الأمثال والحكم الشعبية تتحدّث عن (حبل المهلة يربط ويحل) و (درب السلامة للحول قريب) و(حلّا باليد ولا حلّا بالسنون) و(الصبر مفتاح الفرج) ومع ذلك لا نصبر , ولا نريد أن نصل بالسلامة بتحمل طول المشوار , ونحل العقدة بالسنون مباشرة قبل أن نستنفد حيل المباصرة باليد , ونركن للحاكم العسكري لعقود وعقود وهو يسيمنا العذاب , ولا نصبر على حكم مدني لأربع سنوات فقط نتمتع خلالها على الأقل بحريتنا التي تضمن لنا العصف به عبر صناديق الإقتراع , أليس هذا جذر أساسي فيما نحن فيه من بلاء ومأساة وما عليه معظمنا من شقاق ونفاق.
والله الممارسات الشفناها في عهد الديمقراطية كرهتنا فيها وادخلت فينا قناعة أن هذا البلد لابد أن يحكم بالحديد والنار
أخي أبوعمار أين هو الحديد والنار، فأنت لا طلت عنب الديمقراطية وتركتها تكمل ولو دورة واحدة ولا بلح نظام عسكري مثل نظام نميري