ثقافة وآداب، وفنون

محاولةٌ لتعميق سؤال/تساؤل الطَّيِّب صالح

بابكر الوسيلة

من أين جئت؟!
من أين؟!
يا غريبَ العين..
إرجع إلى ما جئت!
أنت تجهلُنا
لأنَّك ضدُّ هذي الأرض،
ضدُّ الله..
ضدُّ أنساب الطَّبيعة للأنهارِ واﻷشجار.
ضدَّ مُنسابِ المياه.
أنت تكرُهنا
لأنَّك ما عرَفت الحبَّ كالفقراء من شهداء؛
ما مسَّت يداكَ اﻷرض؛
ما حسَّت عيونُك دمعةَ الدُّنيا
على صوت البكاء.
ما جسَّت دماك النَّهرَ،
أو مجرى الطَّبيعةِ في عُرُوقِ النَّاس..
لم ترَ اﻷشياءَ فيك،
وحولك لم ترَ الدُّنيا،
ولم تحسَّ بأيِّ نورٍ من عيون النَّار
أو من شمعة الأمطار.
من أين جئت؟!
من أين؟!
…………
حدَّقتُ خلفَ النَّهر ..
أبصرتُ المواكبَ وهي تمشي
لُجَّةً
لُجَّة .
على طريق الحبِّ
والموتِ العميق..
أبصرتُ المراكبَ وهي تَطوي
موجةً
موجة..
مُدُنٌ للنَّاس تُبنى
بشرايينِ القَشِّ
والطِّينِ العريق.
ولكنَّك لم تكن أبداً
على أشواقنا.
من أين جئت؟!
من أين؟!
……………
حدَّقتُ فوقَ النَّهر..
أبصرتُ السَّماءَ وهي رحيمةٌ
بأُناسها الطَّيْبين..
تهبُ السَّحابةَ ضوءَها ودموعَها؛
مثلما نبني بُيُوتَ اﻷرضِ
أمطاراً بدمعِ غزيرةٍ،
ودماً بطين.
ولكنَّك لم تكن أبداً على أشجارنا..
من أين جئت؟!
من أين؟!
…………….
جاءت موجةٌ – قَدَمُ
أو موجتانِ عزيزتانِ على الثَّرى،
من داخل الصَّحراء..
غنَّت طبلةُ الزِّنجيِّ للعربيِّ
واختلط الدَّمُ..
هذا النِّيلُ ربَّانا..
أقَمنا حولَه تاريخَنا الذَّهبي،
علَّمنا القراءةَ من كتاب اﻷرض،
علَّمنا الكتابةَ فيضَ ألواحِ الضِّفاف،
وعلَّمنا الحياةَ بصوتهِ ويدَيه..
هذا النِّيلُ ربَّانا..
فهل نقسو عليه؟!
أقَمنا حولَه بيتَ الحياة؛
بنَينا كلُّنا مُدُناً، حضاراتٍ تُعَزُّ..
زرعنا منه شمساً،
بشاراتٍ،
ومجداً لا يُهَزُّ.
ويوماً ما عرَفنا أنَّ في التَّاريخ حرباً،
وأنَّ في الأرض خُيُولاً وأُناساً آخرين..
أسَّسنا الجيوشَ
تجيشَ..
سُيُوفُنا
عُشَرٌ،
وقلوبُنا من طين.
حاربنا أعادينا..
– هُزِمنا مرَّة،
وانتصرنا مرَّتين.
أدخلنا السَّماءَ لأوَّلِ مرَّةٍ
في موجةِ التَّاريخ..
هيَّأنا المَداخلَ للرِّجالِ
على رمالِ النَّهر؛
أسَّسنا
المدينة..
أقَمنا جسرَنا للآخَرين..
– بِعنا
– اشترَينا
ربِحنا مرَّةً،
وخسِرنا مرَّتين.
أسَّسنا على اﻷيَّام
ذاكرةَ البعيد..
فتحنا بين سُنبلتينِ
شُبَّاكاً على الغاباتِ،
شيَّدنا على الأشجار مدرسةً
لتعليمِ الطُّيورِ لغاتِنا..
قاتَلنا لكي يبقى النَّشيد..
ولكنَّك لم تكُنْ أبداً
على تاريخنا.
من أين جئت؟!
من أين؟!
من غابةِ الزِّنجي؟
-قالتِ اﻷشجارُ: لا
من دَوحةُ العربي؟
– قالتِ اﻷعرابُ: لا
إذن..
من أين جئت؟!
أَضَأنا شمعةً
قلنا لكي نجدَ الشَّبيه..
سألنا النِّيلَ ساحلَهُ وموجَه؛
فلربَّما وَلِدتْكَ زانيةٌ هنالك من سفيه..
فنقول للدُّنيا: دعيه!
هو واحدٌ منَّا
ولكنَّ الطَّبيعةَ شوَّهتْ وجهَه.
حفَرنا تربةً
قلنا لكي نجدَ اليدُلُّ عليك..
فلم نجدْ
في الأرض جُمجمةً لكَ،
ولم نجدْ عظماً لرأسكَ أو يدَيك..
من أين جئت؟!
من أين؟!
يا غريبَ العين
إرجعْ إلى ما جئت!
…………..
كنَّا ننام اللَّيلَ مَسَّائين..
نَحلمُ أن تتزوَّجَ اﻷنهارُ
غابةَ عاشقِين.
نموتُ كما يَطيبُ لنا
في روضةٍ من طين..
كان النِّيلُ إنساناً،
وكان النَّاسُ آلهةً،
وكان الله طيِّب.
تأتي الشَّمسُ
من جهة اليقين..
تُواصلُ الأيَّامُ دَورتَها؛
واﻷحلامُ صُورتَها..
نُصلِّي في كنائسَ أو مساجدَ
تُشبِهَ الفقراءَ في لُجَجُ الظَّلام..
نقرأ الإنجيلَ
جيلاّ تلوَ جيل..
(هذا وبالله المسرَّة..
وعلى الأرض السَّلام).
نقرأ القرآنَ بين شُيُوخِنا
بالسَّوط أم بالصَّوتِ نحفظُهَ ويحفظُنا،
يُحاكِمنا
ونَحكُمه بما جاءت به اﻷيَّام.
( تلك طبيعةُ الذِّكرى
وقانونُ التَّواصل)
ولكنَّك لم تكنْ أبداً على أدياننا
من أين جئت؟!
من أين؟!
……….
أقمنا هذه الوُثقى
على الأعراس..
من منَّا بدون النَّاس،
لم يَفتحْ بيوتَ النَّاس؟!
الدُّنيا
تَضجُّ بكلِّ أغنيةٍ جديدة..
-همسُ اللَّيلِ،
– أمواجُ الزَّغاريدِ،
-وشوشةُ البناتٍ،
وقرصةُ
في الخِصرِ
أصواتُ الغَنَج.
الدُّنيا
تضجُّ..
البُنيَّاتُ يَشِلنَ خلفَ البنتِ
-أسواطُ العَنَج.
أبشِرْ
يا عريس!!
اليومُ يومُك..
والحُلمُ حُلمُك
والمُغنِّي يُغنِّي..
واﻷرضَ يومَ الحياةِ تُغنِّي ..
والسُّكارى يُغنُّون..
كلَّنا إخوَةٌ عاشقون..
كلُّنا فاتحون على مَدى اﻷشواقِ
أشواقاً بعيدة..
ولكنَّك
لم تكن أبداً على
أفراحِنا..
من أين جئت؟!
من أين؟!
………………
تمضي الحياةُ إلى الحياه..
نبكي إذا ما غابَ واحِدُنا عنِ الدُّنيا
– كأنَّ الأرضَ لم تُنجبْ سواه..
نَشيلُ الهَمَّ للإخوانِ
إنْ لمَّتْ مُصيبة..
يا الله يا الله..
نُقيمُ ولائمَ الدُّنيا
على “سَهَلاتِنا” هذي الرَّحيبة..
كأنَّ “فراش” موتانا
فَنَارٌ في دُجى الرُّوحِ الكئيبة.
ولكنَّك
لم تكُنْ أبداً على أحزانِنا
من أين جئت؟!
من أين؟!
يا غريبَ العَين..
إرجعْ
إلى ما جئت!
……………..
من أين جئتْ؟
من أين؟
يا غريبَ العينِ واليدِ واللِّسانِ..
إرجعْ إلى ما جئتَ
من فَيءٍ إلى فانٍ!
إرجعْ!
فهذا النَّولُ سوداني..
وهذا النَّيلُ
سوداني.
أمدرمان- 1993

مداميك

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..